شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصص أجدادنا مع الطيران مآسي قصف المغاربة قبل أكثر من قرن

يونس جنوحي

«عندما قصف الإسبان منطقة الريف مرات متعددة لإخضاع القبائل المناصرة لمحمد عبد الكريم الخطابي، كانت ضربتهم العسكرية ناجعة وشكلت معضلة أمام المقاومة.

ومع استمرار العمليات الإسبانية، وصولا إلى سنة 1922، كان المغاربة يرون أن الطائرات ليست إلا مخلوقات شريرة ترمي بيضها القاتل – في إشارة إلى القنابل- وتحسم نتائج المعارك لصالح الأعداء دائما.

لكن مع بداية القصف الفرنسي على قرى الأطلس المغربية لإخضاعها عسكريا بعد 1912، تفوق المقاتلون من القبائل التي رفضت الانصياع لجنرالات فرنسا، ونجحوا في إسقاط الطائرات الفرنسية.

وفي سنة 1955، أصبحت للمغاربة رسميا نواة أولى للطيارين العسكريين المغاربة المدربين جيدا على الطيران العسكري، وسرعان ما بات للمغرب سمعة مرموقة في الأجواء والمناورات..».

 

++++++++++++++++++++++++++++++++

 

سكان الدار البيضاء والصحون الطائرة سنة الاستقلال

في 11 أبريل سنة 1956، سجلت السفارة الأمريكية أن سكان الدار البيضاء انشغلوا برؤية أجسام غريبة تطير في سماء المدينة.

الوثيقة التي أفرجت عنها الخارجية الأمريكية ضمن وثائق أرشيف المراسلات من شمال إفريقيا، تقول إن الشهود الذين عاينوا تلك «الأجسام» الغريبة في السماء، أكدوا أنها استمرت في الظهور قرابة ثلاث دقائق قبل أن تختفي نهائيا.

وهذا المعطى يؤكد أن ما رآه سكان الدار البيضاء في تلك الليلة المثيرة للجدل، لم يكن شُهبا اخترقت الغلاف الجوي للأرض، وأن الأمر لم يكن أبدا يتعلق بظاهرة طبيعية من الظواهر التي اعتاد سكان الأرض رؤيتها منذ قرون خلت.

برز هذا الخبر في وقت كان فيه العالم كله مسكونا بفكرة الصحون الطائرة والمخلوقات الفضائية، وهو ما جعل الحكاية تلقى رواجا كبيرا، إلى أن وصلت إلى مكاتب موظفي الخارجية الأمريكية. ونقل مكتب طنجة الخبر في تقرير رسمي إلى واشنطن، مذيلا بشرح عن سياق الخبر، وكيف تم التعامل معه محليا.

وبعد سنوات على الواقعة، حدث في نهاية الستينيات، أن تكررت حادثة مشابهة في سماء طنجة، بالقرب من مضيق جبل طارق، ووصل الخبر إلى أسماع الملك الراحل الحسن الثاني. الملك حمل سماعة الهاتف واتصل مباشرة بسفير الولايات المتحدة في الرباط وأخبره أن موظفيه نقلوا إليه خبر ظهور أجسام طائرة في الشمال، مستفسرا إن كان الأمر يتعلق بتدريب عسكري أمريكي، خصوصا وأن الصحافة الأمريكية وقتها – والمجلات العلمية على وجه الخصوص- كانت في أوج نقل أخبار ظهور الصحون الطائرة و«المخلوقات الفضائية».

وهناك مناسبات أخرى تكررت فيها الواقعة – ظهور الأجسام الطائرة- ولو باختلاف التفاصيل.

ما وقع مرة سنة 1968، أن السلطات العمومية رصدت ظاهرة غريبة في سماء القرى المجاورة لمدينة مكناس، حيث أبرقوا إلى الرباط بمراسلات مفادها أن مزارعين ورعاة في القرى، أفادوا بأن أجسام غريبة ظهرت في السماء بعد منتصف الليل. مصالح الداخلية سجلت في تقاريرها أن هؤلاء المزارعين يدعون أنهم لم يسبق لهم مشاهدة ظاهرة مماثلة، وقدموا مواصفات شكل الأجسام الغريبة التي رأوها.

وهو ما جعل السلطات المغربية تتواصل رأسا مع السفارة الأمريكية في الرباط لتقديم تلك المعلومات.

السفير الأمريكي راسل بدوره الخارجية الأمريكية، واتضح أن الولايات المتحدة لم تطلق ولم ترصد أي صواريخ أو أقمار اصطناعية، وبقي لغز تلك الأجسام محيرا، إلى أن تكررت الظاهرة في أماكن أخرى من العالم، ليتضح في الأخير أن الأمر قد يتعلق بنيازك سقطت في مناطق متفرقة فوق الكوكب خلال تلك الأيام.

 

 

الطائرات.. فُسر ظهورها بالجن وأعجزت محاربي فرنسا وإسبانيا

تاريخ تعاطي المغاربة عموما مع ظهور الطائرات، يستحق أن يُسلط عليه الضوء فعلا، خصوصا وأن المناسبات الأولى التي ارتبطت بذاكرتنا الجماعية مع الطائرات لم تكن سارة أبدا.

أول ظهور للطائرات في الأجواء المغربية، كان يرتبط بحرب الريف التي دارت رحاها ما بين سنتي 1920 و1927. وقبلها أيضا ظهرت الطائرات الصغيرة التي قصفت القرى المغربية في منطقة الريف، وأيضا في منطقة الأطلس سنة 1914. وهناك روايات عسكرية، اعتمادا على مذكرات جنود فرنسيين وإسبان ووثائق الأرشيف العسكري، كلها تؤكد أن المغرب تعرض لقصف بالطائرات منذ 1914 وتكررت الضربات في سنة 1918، في وسط المغرب، وصولا إلى عمليات القصف الشهيرة التي بوشرت في الصحراء على يد القوات الإسبانية.

المقاومة المغربية في جنوب المغرب عانت هي الأخرى مع الطيران الإسباني، حيث إن عمليات قصف عنيفة جرت أطوارها في سماء الصحراء المغربية في سنوات الأربعينيات والخمسينيات، واستمرت حتى بعد استقلال المغرب.

إذ إن سنة 1955 عرفت وقوع عملية عسكرية عنيفة استعمل فيها الطيران، واستعان فيها الطيارون الإسبان بنظرائهم الفرنسيين، وقصفوا مواقع تجمع أفراد جيش التحرير المغربي، لإنهاء مخطط عملية زحف موسعة.

مُحرك هذه الخطوة العسكرية التي استعمل فيها الطيران، كان هو اقتحام أفراد من جيش التحرير المغربي في الجنوب لثكنة عسكرية إسبانية وأسروا أفرادا من الجيش وقائدهم، ولم تفلح مساعي الإسبان في الاهتداء إلى المكان الذي خبأ فيه أعضاء جيش التحرير أولئك العسكريين، ومرت أسابيع دون أن يظهر لهم أثر.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن الطائرات ظهرت أيضا في منطقة طنجة الدولية، حتى أن ناديا للطيران فتح مكتبا له في طنجة الدولية، لترتيب الرحلات الاستكشافية من لندن إلى طنجة، وحدث هذا نهاية فترة 1890. وهذا النادي كان يُعتبر من أقدم أندية الطيران في العالم. وعندما حلت سنة 1910، كان النادي ينظم فعلا رحلات جوية من جبل طارق إلى طنجة، يستفيد منها مُلاك الطائرات الصغيرة، وينظم لهم برنامجا سياحيا حافلا، مباشرة بعد أن يحطوا بطائراتهم الصغيرة في منطقة معشوشبة خارج طنجة بالقرب من الغابة الدبلوماسية، ويعودون أدراجهم في اليوم نفسه على متن الطائرات ذاتها.

لكن هذا الظهور المحتشم للطائرات الصغيرة، لم يساهم في نشر ثقافة وجود الطائرات في الأجواء المغربية، إلا بعد دخول الطيران العسكري الإسباني، ثم الفرنسي إلى المغرب، ليرتبط ظهور الطائرات لدى أجدادنا المغاربة بذكريات مأساوية، سيما وأن نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، ارتبط بالطيران. فقد اعتاد المغاربة أن يروا السلطان مسافرا على متن الباخرة كلما هم بمغادرة المغرب. إلى أن حلت نكبة المنفى التي استُعملت فيها طائرة فرنسية لإبعاد الأسرة الملكية نحو «كورسيكا»، ثم «مدغشقر». ورغم أن السلطان عاد بعد قرابة ثلاث سنوات على متن طائرة أخرى إلى المغرب وعم الفرح، إلا أن الذكريات الأليمة ظلت مرتبطة بالطيران، خصوصا عندما ماتت ثريا الشاوي، أول امرأة مغربية تعلمت الطيران، وارتبط موتها الغامض بالانتقام منها، لأنها اقتحمت عالم الطيران وحلقت بالطائرة بنفسها. لكن أكثر الذكريات المأساوية ارتباطا بالطيران، المحاولة الانقلابية التي استهدفت طائرة الملك الراحل الحسن الثاني عندما كان عائدا من باريس إلى المغرب في صيف سنة 1972، لتتأكد بعد هذا الحادث جذور الذكريات السيئة للمغاربة بكل ما يتعلق بالطيران.

أول وأعنف قصف جوي ضد قبائل الأطلس سنة 1922

«بداية شتنبر 1922، غادرنا مخيم «تسليت» قبل طلوع الشمس. كنا قد بدأنا في المسير عندما بدأت خيوط الصبح الأولى تُذيب حبيبات الماء المتجمدة فوق أوراق ظهور منطقتي «غات» و«آزروق»، اللتين تمثلان أعلى قمتين في الأطلس الكبير. أزيد من أربعة آلاف متر من الارتفاع. نحن نتجه جنوبا، حيث الهدف.

الهدف الذي لُقن لهذه القوات، خلال النهار، هو الوصول إلى منطقة «برنة»، حيث سوف نراقب «الحْركة» التي يقوم بها الحنصالي.

وسوف نعد للحرب في اليوم الموالي في منطقة بو يحيى..».

هذا مقتطف من مذكرات الملحق الإعلامي العسكري الفرنسي، الصحافي غوستاف بابين، الذي اشتغل مع قوات الجنرال «دوغان» الشهيرة التي اجتاحت منطقة الأطلس في إطار العمليات العسكرية التي تُعد استكمالا لمسلسل عسكري بدأ سنة 1914، وعرفت منعطفا حاسما سنة 1918، ثم تواصلت وازدادت عنفا سنة 1922.

القوات التي شارك فيها الملحق العسكري غوستاف بابين أطلقت عملية في شهر شتنبر 1922، استُعملت فيها الطائرات وخلفت أضرار فادحة في أوساط سكان قرى الأطلس، ساندتهم في ذلك قوات المدني الكلاوي، والذي كانت أغلب قبائل الأطلس تدين له بالولاء.

أزيد من 20 ألف شخص، بين فرنسيين ومغاربة، مشيا على الأقدام وفوق الأحصنة، مرفوقين بـ12 طائرة عسكرية لإلقاء القنابل، كلهم متوجهون إلى القبائل الرافضة للوجود الفرنسي في المغرب. المقاتلون المغاربة يتقدمون المسير لمعرفتهم للمنطقة وإلمامهم بالصعوبات الجغرافية التي تعيق تقدم القوات العسكرية الفرنسية، بحكم عدم وجود طرق مستوية نهائيا في ذلك الوقت.

حسب ما حكاه غوستاف بابين، فإن إخضاع قوات قبيلة الحنصالي في ذلك الوقت، أي في سنة 1922، احتاج تدخلا عسكريا على أعلى مستوى واستُعملت فيه الطائرات، بل إن رجال الحنصالي نجحوا في إسقاط طائرة فرنسية كانت تحمل القذائف لإلقائها فوق رؤوس القرويين البسطاء لإخضاع القبائل المتمردة. وهي الواقعة التي زادت من نفوذ القبيلة وأحاطت بها أسطورة عن قدرات خارقة على إسقاط الطائرات الفرنسية.

بحسب ما رواه غوستاف بابين، فإن الطائرة كانت تنقل 16 ألف كيلوغراما تقريبا من المواد المتفجرة التي تُستعمل في صناعة القنابل وقذائف المدافع الفرنسية. يقول بابين إنهم رأوا الطائرة تتحطم في السماء وتسقط ببطء في مجرى الوادي.

قسم الاستعلامات التابع للمخيم، قدّر المكان الذي توجد به الطائرة، وحدده على بُعد عشرات الكيلومترات من المخيم. وأكدت المعلومات التي أدلى بها فريق الاستعلامات العسكرية أن الطائرة تحطمت غير بعيد عن مكان وجود الحنصالي ورجاله.

تسبب الحادث في ذهول العسكريين الفرنسيين. ولمّح بابين إلى «البركة» التي يتمتع بها الحنصالي، في إشارة ذكية منه إلى الطريقة التي كان يبرر بها التهامي الكلاوي انتصارات عدوه اللدود.

لكن أهم ما نقله الصحافي غوستاف بابين، يتعلق بواحدة من العمليات العسكرية التي استُعملت فيها الطائرات، للانتقام لمقتل ليوتنان فرنسي اسمه «الليوتنان ساڤاري» في منطقة الأطلس سنة 1922 دائما، حيث قصف الفرنسيون القرى التي حارب رجالها فرقة الليوتنان.

يقول: «فقد الليوتنان الكثير من الدم، قمنا بنقله على وجه السرعة على آلة نقل المصابين في المعركة، وتم سحبه إلى مكان الإسعاف في المخيم، حيث كانت المساعدات الطبية أفضل من الإسعاف على الميدان. لقد كان مستحيلا إنقاذه حتى لو استعملت طائرة في نقله. بلغ الأمر مرحلة فقد فيها الطبيب المشرف كل أمل في إبقائه على قيد الحياة.

كانت العملية تتم في صمت بالغ، صمت الجميع عند وصول الجنرال. اجتمع حوله الموظفون في خشوع داخل الخيمة، حيث كان يتم إسعاف الليوتنان.

بمجرد ما رأى الليوتنان وجه الجنرال، حتى ظهرت على وجهه ابتسامة خفيفة. كانت مفاجأتنا كبيرة ونحن نرى كيف أنه رغم جراحه استطاع استجماع قواه، وأدى التحية للجنرال. لقد كانت معجزة.

للأسف، يوم 16 شتنبر، قامت الطائرات بإخلاء المكان حوالي الخامسة مساء. هدأت الأوضاع، بينما الحامية العسكرية في بو يحيى كانت تؤدي التحية العسكرية للعلم الفرنسي الذي كان يرفع للمرة الأولى في ذلك الحصن.

روح الليوتنان ساڤاري خرجت ببطء، وبقي اسمه ليُخلد في تلك المعركة، إكراما لدمه في سبيل رفع العلم الفرنسي».

 

معقل الريسوني.. قصة خراب «تازروت» بقصف إسباني

تبقى المغامرة الثرية «روزيتا فوربس»، التي قطعت الصحراء الكبرى وزارت معظم الدول العربية، أول شخصية أجنبية تزور قرية «تازروت» التي دمرها الطيران العسكري الإسباني في حربه ضد الثائر الشريف الريسوني، بل وتقيم فيها لأسابيع في ضيافة الشريف، لكي تكتب مذكراته التي نشرتها لاحقا في كتاب «سلطان جبالة»، والذي تُرجم حصريا لأول مرة إلى العربية على صفحات «الأخبار».

الريسوني، كان صديقا للإسبان في البداية، لكن بسبب الخلافات السياسية وفشل المفاوضات بين الجانبين، اندلعت المعارك بينه وبين الجيش الإسباني، وهو ما جعل الإسبان يقصفون قرية «تازروت» سنة 1922، باعتبارها عاصمة يتحكم منها في أغلب قبائل «جْبالة»، لإخضاعه نهائيا.

تقول روزيتا فوربس في المذكرات: ««تازروت» مقر استراتيجي لمناطق نفوذ الريسوني. تمتد في المنتصف بين كل المناطق التابعة له، والتنقل إليها من أغلب المواقع لا يتجاوز يوما واحدا. كما أنها أيضا في قلب الجبال، تتحكم في مجال واسع من مناطق النفوذ الممتد إلى الأمام، حيث تتجمع تلال بني عروس.

وخلفها تقع الحدود، حيث يضع الإسبان مراكز حراسة على قمم الجبال، حيث كانت في السنوات الأخيرة مهجورة تماما لا يسكنها إلا قطعان الخنزير البري والقردة.

اقتدنا خيولنا المتعبة عبر آخر المنعرجات، ووجدنا أنفسنا فجأة بين أطلال وآثار بعض البنايات.

كانت آثار الخراب في كل جانب، بسبب قصف الطيران الإسباني الذي ضرب «تازروت» ليومين في سنة 1922.

كانت قطط الخلاء تتجول بين التجاويف الصخرية التي اتخذها السكان المحليون مأوى من القصف، وكانت تبدو آثار حفر ضخمة خلفتها القنابل.

لم يكن هناك منزل لم يصب بأضرار.

منازل بدون أسقف، وجدران تخترقها الثقوب. بينما عوضت الألواح الحديدية المضروبة أو قطع أخشاب الصناديق، فراغ الأبواب المدمرة.

كانت المنازل صامدة مع نبات الصبار الشوكي والصخور الضخمة».

المثير أنها نقلت في جانب آخر من المذكرات، نظرة الناس المحليين إلى الطائرات العسكرية الإسبانية عندما رأوها لأول مرة، وتنقل رأيهم فيها على لسان الريسوني شخصيا. تقول: «إن طرق المغاربة وحيلهم تبدو محيرة جدا ومثيرة للفضول بالنسبة إليك، لأن هناك اختلافا في العقليات. سوف أخبرك قصة معروفة جدا في هذه الأقاليم.

كانت هناك قرية خاضت حربا طويلة ضد الأوروبيين، لأنهم كانوا متعصبين جدا، وكانت الجبال التي يسكنونها وعرة وشديدة الانحدار، ولا أحد كان يجرؤ على الاقتراب منهم. ولكن في النهاية، أرسل النصارى طائرات إليهم وألقت القنابل فوق قراهم. خاف رجال القبائل، وقالوا:

-هذه الأجسام الطائرة من الجن الكافر الذين اتخذهم الأجانب خدما لهم، إنهم يسكنون هذه الطيور الضخمة التي تلقي بيضا يسبب الموت».

الثائر الريسوني نقل في ما حكاه للمغامرة الشهيرة روزيتا فوربس، نظرة مغاربة تلك الفترة إلى الطائرات العسكرية التي رأوها لأول مرة في حياتهم. حتى أن الذاكرة الشفهية لمناطق جْبالة، تناقلت عبر الأجيال، مواقف الأهالي عندما رأوا الطائرات لأول مرة، ولم يصدقوا أنها من صنع البشر واعتبروا أن الإسبان لجؤوا إلى القوى الخفية في حربهم ضد جْبالة، وازداد هلعهم عندما رأوا القذائف تتساقط عليهم من السماء، وتُحول قراهم إلى خراب.

 

الطيارون المغاربة تألقوا في حرب الرمال

نستعيد هنا مع الطيار المغربي «صالح حشاد»، أحد أبرز الأسماء في تاريخ الطيران العسكري المغربي، ما نقله في حوار سابق مع «الأخبار» في شهر رمضان سنة 2016. وهو يتحدث عن تفوق الطيران المغربي في حرب الرمال التي جرت في أكتوبر 1963، دفاعا عن حدود الصحراء الشرقية مع الجزائر، بعد تسجيل اعتداء على السيادة المغربية على إثر تسلل جنود جزائريين واستفزاز المغاربة.

في هذا المقطع من الحوار، تتضح معالم هذا التفوق:

«كيف قضيت أيام حرب الرمال.. أخبرنا عن تجربتك.

+كانت الأمور منظمة، أجتمع مع فريقي في القاعة المغلقة التي خُصصت لنا، وبعدها نطير في مهمات استكشاف في الجانب الجزائري، وكنا نتوغل في الأجواء الجزائرية دون حسيب ولا رقيب.

 

هل عشت أنت أو أحد أصدقائك الطيارين يوما أي مواجهة مع طائرة جزائرية؟

+لا لم يحدث أي شيء من هذا. توغلنا أكثر من مرة في الأجواء الجزائرية، وصلت مناطق «زكدو» و«تينفوشي».. وقمنا بمهام استطلاع عديدة لساعات ولم يحدث أبدا أن ناوشتنا طائرة جزائرية، أو دخلنا في اشتباك في السماء.

خلال حرب الرمال، التي استمرت لشهر تقريبا، كانت المهام التي نقوم بها هي الاستطلاع لرؤية تحركات الجزائريين في اتجاه حاسي بيضة، أو لحماية طائرات النقل العسكرية التي كان يطير بها أصدقاؤنا. وهذه المهام كلها تدربنا عليها بطبيعة الحال من قبل، أي أننا كنا مرتاحين ومتحكمين في الأوضاع.

 

أفهم من كلامك أنكم لم تكونوا تتوقعون أبدا أي اشتباك في السماء مع طائرات جزائرية؟

+كنا محتاطين، وكنا نتخذ التدابير لأي طارئ، أعتقد أن الطائرات التي كانت تتوفر عليها الجزائر في ذلك الوقت ربما لم تكن تصل إلى «شعاع» تحركات رد الفعل ضد طائراتنا. ربما..».

صالح حشاد لم يكن فقط قائد السرب العسكري المغربي في القاعدة الجوية بالقنيطرة ومسؤولا عن العمليات، وإنما كان أيضا أحد مؤسسي النواة الأولى للطيران العسكري بعد سنة 1956. إذ كان من أوائل المغاربة الذين اختيروا – نظرا إلى تفوقهم الدراسي في نهاية أربعينيات القرن الماضي- لكي يواصلوا دراستهم الثانوية وبعدها مباشرة إلى فرنسا لدراسة الطيران.

في قاعدة مكناس الجوية تمرن صالح حشاد، رفقة زملاء آخرين على الطيران، ليكونوا ثاني فريق – يشلكون الجيل الثاني الذي تخرج مباشرة بعد جيل الطيارين المغاربة الأوائل- يتسلم الطائرات الفرنسية التي تركتها فرنسا في المغرب سنة 1955. وهكذا استفاد لاحقا من تدريب على التحليق بالطائرات السوفياتية، في إطار الاتفاق الذي تم بين السوفيات والملك الراحل محمد الخامس في حدود سنة 1960، قبل أن يُبرم المغرب مع بداية الستينيات اتفاقية عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحل الطائرات المقاتلة الأمريكية مكان الأسطول السوفياتي. ومن جديد، كان صالح حشاد من أوائل من تدربوا في الولايات المتحدة على التحليق بالطائرات المقاتلة الأمريكية لكي يُكتب تاريخ جديد من صفحات الطيران المغربي.

 

الكولونيل بوزيان.. أول مغربي يترأس مدرسة مكناس معقل الطيارين

عندما أسس الفرنسيون مدرسة مكناس العسكرية سنة 1918، كانت في البداية تحمل هذا الاسم: «المدرسة العسكرية للتلاميذ الضباط المغاربة». وتعاقب فرنسيون على رئاستها، قبل أن تُسند الرئاسة سنة 1955 إلى أول مغربي هو الكولونيل عبد السلام بوزيان، وأصبح اسمها «الأكاديمية الملكية العسكرية».

عندما تسلم بوزيان القاعدة، لم يكن هناك سوى أسطول طيران عتيق ورثه المغرب عن الإدارة الفرنسية، وهو أسطول طائرات أغلبها يعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى، وتحلق بمحركات متهالكة وتعتمد صيانة دائمة على يد تقنيين فرنسيين احتفظ بهم المغرب في ذلك التاريخ.

عندما تسلم الكولونيل عبد السلام بوزيان إدارة المدرسة، وجد المكاتب خالية، إذ عمد الموظفون والعسكريون الفرنسيون قبل رحيلهم إلى إتلاف الوثائق والمعدات في سياسة انتقامية، لأنهم لم يتقبلوا الرحيل عن قاعدة استراتيجية للجيش الفرنسي في شمال إفريقيا لعقود.

بالرجوع إلى ومضات من حياة عبد السلام بوزيان كما كتبها بنفسه، بالفرنسية، ونشرها في موقع خاص باسمه أشرف على إطلاقه بنفسه، فقد تحدث الرجل عن أولى محطات تاريخ الطيران المغربي كما عاشها بنفسه.

وكتب يقول إنه في سنة 1955 أصبح رسميا من بين أبرز أسماء الجيل الأول للطيارين المغاربة الأوائل الذين أمسكوا زمام إدارة الطيران المغربي. في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي، استقبل الملك الراحل محمد الخامس الفوج الأول، ووعد الطيارين التسعة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة المغربية الأولى، والتي كانت تقع في الرباط سلا. الكولونيل عبد السلام بوزيان، أمسك مفاتيح قاعدة الرباط، فيما رفيقه في التخرج محمد القباج، الذي أصبح لاحقا ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات، أمسك مفاتيح قاعدة مكناس.

وكانت تلك ثقة كبيرة من الملك الراحل محمد الخامس الذي رحب بعبد السلام بوزيان، إذ إن الملك الراحل كان يعرف جيدا أصوله الطنجاوية والعائلة العريقة التي ينتمي إليها.

قبل وفاة عبد السلام بوزيان بفترة قصيرة – توفي في شهر يوليوز 2022- حجب موقعه الرسمي على الإنترنت، وبذلك بقيت مذكراته التي جهزها بنفسه، حبيسة أرشيف العائلة، وتتضمن تفاصيل مهمة عن المهام العسكرية والدبلوماسية التي تبوأها، وأبرزها اشتغاله في منصب الملحق العسكري في السفارة المغربية بواشنطن بداية الستينيات، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث كلف بالإشراف على اتفاقية تدريب الطيارين المغاربة في الولايات المتحدة، والذين أسسوا نواة الطيران العسكري المغربي الذي تألق كثيرا في سبعينيات القرن الماضي.

الكولونيل عبد السلام بوزيان، يعتبر بحق علبة سوداء لأسرار الطيران العسكري المغربي، بمختلف المراحل التي مر منها، على اعتبار أنه زاوج بين العمل الميداني والتحليق في الأجواء، وبين العمل الدبلوماسي الذي كان له فضل كبير في تدبير اتفاقيات صفقات حصول المغرب على طائرات نفاثة متطورة، وتدريب الطيارين المغاربة على المناورات، واستعمال أحدث تقنيات الطيران العسكري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى