شوف تشوف

الرأي

قصة القهوة في التاريخ

بقلم: خالص جلبي
لا يمكن الحديث عن القهوة والعبودية قبل ذكر قصة جزيرة الشيطان، إنها ليست مكانا للشيطان بل سجن صممه البشر ففاقوا الأبالسة في عملهم. فبين عامي 1852 و1947 م رحلت فرنسا إلى غويانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية 70 ألف معتقل، مات ثلثاهم في جزر جهنمية، حيث تطلق صواريخ ارتياد الفضاء الأوربية حاليا. بدأت القصة من سيئ الذكر نابليون الثالث، صاحب النكبة الفرنسية عام 1870، التي قادته إليها زوجته المغناج يوجينا. ففي هذا العام خسرت فرنسا الحرب ضد بسمارك وتم تتويج الإمبراطور الألماني في فرساي، وخسرت فرنسا 135 ألف قتيل، ودمرت العائلة المالكة بعدها تدميرا. وقامت الجمهورية الثالثة. وحديثنا ليس عن نابليون التعيس وزوجته يوجينا الحمقاء، بل عن سجن رهيب لم يسمع به العالم إلا بعد مرور أكثر من 80 سنة على إنشائه. وكان مصممه والمشرف عليه نابليون الثالث، ولكن المصيبة أن من يسن سنة سيئة فلا تنتهي مع موته، بل تستمر. واليوم وبعد موت أتاتورك بـ 80 عاما ما زال يحكم من قبره ضاحكا من تزاحم الأضداد. وهو ليس الشاذ، بل هناك من شكله أزواج. وإن الإنسان لظلوم كفار. كان القضاء الفرنسي في القرن التاسع عشر قريبا من الإجرام، فيلقي القبض على من سرق دراجة ووجبة طعام، ثم يجمعهم في طوابير على وجبتين في السنة ويرحلهم إلى سان مرتين، الميناء الفرنسي الشمالي، ثم يزربون زربا في ناقلات المحيط لمدة 20 يوما حتى تنتهي بهم الرحلة على شاطئ غويانا الفرنسية، وغالبا ما كانت إقامتهم دائمة ولو كان حبسهم محدودا. وهو يذكر بقصة الكونت مونت كريستو، فمن دخل السجن نسي. وهناك تصفد أقدامهم ويجبرون على الأعمال الشاقة، يلسعهم البعوض وتعضهم الثعابين الخطيرة وتقرصهم العناكب السامة. ومن عصا فله العصا فيلقى المتمرد في الحبس الانفرادي لمدة ستة أشهر. وإذا أظهر عدم الانضباط ولم يحترم الشرطي زادت عقوبته على شكل تصاعدي. ومن حاول الهرب فضبط زادت مدة حبسه سنتين، فإن عاد زيدت إلى خمس سنوات. فإن أظهر صلابة نقل إلى واحد من ثلاث جزر قريبة من غويانا وبالتدرج حتى يصل إلى جزيرة الشيطان. هكذا سماها من استطاع الفرار، وحمل رسومات الفنان الذي قبع في سجنها لتزويره بعض اللوحات. وهناك من ضرب الرقم القياسي في مكثه في السجن الانفرادي، وأنا شخصيا ذقته في بلد ثوري ولا أتمنى لأحد دخوله، هو بول بورساك الذي بقي فيه 11 سنة متواصلة، فلما خرج لم يطق الحياة فألقى نفسه في النهر وانتحر. وكان الفرار من الجزيرة بين خطرين عظيمين، المحيط الغادر والغابات القاتلة. ومن خلفهم المقصلة التي نقلت من فرنسا إلى هذه الجزر الجهنمية. وفي النهاية نجح اثنان في الفرار ونقلا الخبر إلى العالم فارتج رجا. وكان آخر محبوس غادرها عام 1947 وأغلقت جهنم أبوابها بعد أن التهمت عظام وأحلام عشرات الآلاف. واليوم هي منصة إطلاق صواريخ وشاطئ تنزه وعبرة للسائحين، إن في ذلك لآيات للمتوسمين.
وتعود قصة زرع أشجار القهوة في جزر البحر الكاريبي، إلى الملك لويس الرابع عشر الذي تلقى شجرة من نوعها للمرة الأولى هدية من الشرق الأقصى، وكانت هذه الشجرة قد نقلت من مدينة ميخا اليمنية، وأخذت الموكا اسمها منها، حينما نقلها الهولنديون إلى جزيرة جاوة في إندونيسيا التي استعمروها يومها.
تقول الرواية: إن الشجرة زرعت في الحديقة الملكية عام 1714، وبعد سنوات قليلة جاء ضابط فرنسي هو جابريل دو كليو من جزر المارتينيك فطلب من الملك شتلة من الشجرة فرفض طلبه؛ فتسلل الضابط سرا إلى الحديقة، وسرق النبتة، وهرب بسرها إلى جزيرة بحر الكاريبي، وهناك قام بزرع الشتلة في تربة مناسبة، وفي 50 عاما انتصبت 18 مليون شجرة آية للمتوسمين. ولكن السؤال من الذي اعتنى بهذه الشجرة ونماها إلى الحد المليوني؟ والجواب إنهم العبيد؛ فكما سرقت الشتلة من حديقة الملك، فإن البشر بدورهم كانوا يسرقون من أحضان أهلهم، وإلى سلاسل العبودية يقرنون. وكانت فرنسا لوحدها تورد كل سنة 30 ألفا من العبيد المسروقين من بلادهم إلى الأرض الجديدة، فيموت نصفهم في الطريق، ويشتغل البقية يكدحون كل عمرهم في مزارع البن في المستعمرات الفرنسية، والقهوة ربما تأتي بعد البترول في القيمة العالمية.
واستمرت فرنسا طوال قرنين تمارس هذه العادة الجهنمية، حتى تمرد العبيد في جزيرة هايتي، وخلعوا عن أكتافهم نير الاستعمار عام 1791م.
وخلال قرنين كان قد وصل إلى البرازيل أكثر من ثلاثة ملايين عبد، مسروق للعمل في حقول القهوة، وخمسة ملايين في مزارع السكر.
واليوم يمتلك في البرازيل 10 في المائة من السكان 55 في المائة من ثروة البلاد، في الوقت الذي يعيش السود في الفقر المدقع.
بقي أن نضيف في الأخير أن اليمن كانت سيدة زراعة القهوة، فاستبدلت به زراعة القات، ومنظر الناس المنبطحين في كل مكان، الذين رأيتهم في زيارتي إلى اليمن، أفواههم منفوخة مثل الماعز يمضغون، عيونهم زائغة وألوانهم مصفرة باهتة…. جعلني أقول أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وهو المنظر نفسه الذي جعلني أرى عبرة التاريخ في سد مأرب، وهذا له حديثه الخاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى