قصة البؤساء الذين تبرعوا بأجورهم من الخارج لتمويل المقاومة
هكذا اشترط العمال المغاربة ألا تستهدف العمليات التي يمولونها أي مغربي وألا تقتل إلا «النصارى»
«كُنت وكأنك لم تكن»، هذا حال الذين بذلوا المال بعد أن جنوه بكثير من الصعوبة في فرنسا، ليرسلوه إلى «المقاومة» في المغرب لتحارب به فرنسا نفسها!
قد يبدو الأمر للبعض عصيا على الفهم، لكنه حقيقة جرت أطوارها سنوات مبكرة قبل حصول المغرب على الاستقلال. تعود القصة إلى نهاية أربعينات القرن الماضي، حينما قرر بعض العمال في مصانع فرنسا ومناجمها، أن يخصصوا جزءا من أجرتهم لدعم المقاومة في المغرب. لكن الأحداث التي وقعت والشهادات التي أدلى بها الكثيرون ممن عاشوا تلك المرحلة، تقول إن الأمر عرف صعوبات كثيرة، وإن عمال فرنسا كانوا يجدون صعوبات كثيرة، لتصل أموالهم إلى الجهات التي كانوا يوجهونها نحوها.
في شوارع باريس وليون وغيرهما من المدن الفرنسية التي بدأت في استقبال أولى أفواج المغاربة الذين اختاروا، أو تم اختيارهم بالقوة، للعمل في مناجم فرنسا ومصانعها وأوراشها، استقر عدد من العمال المغاربة، دون أن يكون لهم وعي سياسي أو يكونوا من المتابعين لما كان يقع في المغرب، أو هكذا كان حال أغلبهم على الأقل.
أرشيف فرنسا يقول إن نسبة كبيرة من الذين جاؤوا أو جيء بهم على الأصح للعمل في مناجم الفحم، وغيرها من القطاعات التي كانت تحتاج إلى طبقة عمالية تتحمل المشاق وإكراهات الاشتغال في ظروف لا إنسانية، كانوا أميين ولم تكن لهم اهتمامات سياسية.
حتى أن فرنسا كانت تراعي في اختيار الشبان الذين سيتم توجيههم إلى العمل، ألا تكون لديهم أفكار سياسية ولا انتماءات إلى تنظيمات المقاومة السرية، خصوصا منهم الذين تم اختيارهم بداية الخمسينات.
الاحتياطات الفرنسية لم تمنع من أن تتحول مخاوفها إلى حقيقة. ما وقع أن سنتي 1952 و1953 شهدتا نقاشا كبيرا بين العمال المغاربة في باريس، وانتقل النقاش إلى المدن الأخرى، حول ما كان يقع في المغرب من عمليات ضد الوجود الفرنسي هناك.
كان صعبا على كل هؤلاء العمال الذين يمضون يومهم في العمل وليلهم في النوم، أن يروا في أيام العطلة الأسبوعية ذلك الكم الهائل من الفرنسيين يتعايشون معهم، ويتجولون معهم في الأحياء نفسها التي كانوا يسكنونها، بينما في المغرب تنفجر قنابل يدوية بين الفينة والأخرى يسقط ضحيتها مغاربة وفرنسيون، احتجاجا على الوجود الفرنسي في المغرب.
اتخذ النقاش أبعاد أخرى، بعد أولى العطل السنوية التي استفاد منها هؤلاء العمال. بعضهم جاء إلى الدار البيضاء وكله فضول للتعرف على هؤلاء الذين صنعوا عناوين الصحفات الأولى للجرائد الفرنسية، وشغلوا الفرنسيين أيضا وجعلوهم يتخوفون من التفكير في زيارة المغرب ولو كان الأمر يتعلق بزيارة سياحية خاطفة، فما بالك بالتفكير في الاستقرار داخله..؟
أغلب هؤلاء العمال كانوا لا يستطيعون قراءة الجرائد الفرنسية، لكن الأقلية المتعلمة في المدارس، كانت تشكل حلقة وصل بين هؤلاء المغاربة وما كان يقع حولهم من أحداث.
في العطل السنوية، شرع بعض هؤلاء العمال أثناء زياراتهم إلى المغرب، في البحث عن العناصر التي كانت تقف وراء عمليات التفجير أو الاغتيالات التي كانت تتم في صفوف الفرنسيين والمغاربة المتعاونين معهم أو العاملين لديهم. الفضول وحده كان يدفعهم للتعرف على أفراد الخلايا السرية، لكن البعض شككوا في النوايا الحقيقية التي تجعل هؤلاء العمال يبحثون عن الواقفين وراء عمليات الدار البيضاء والإصرار على التعرف عليهم، خصوصا في الأحياء الشعبية التي كان الجميع فيها يعرف الجميع.
لم يكن الأمر يتعلق بمحاولة للتجسس ولا إكراهات أمنية كما ظن البعض، لكن الحقيقة أن بعض هؤلاء العمال كانوا متحمسين للفكرة، وأعجبوا بالنموذج المغربي الذي أصر على ضرب فرنسا في المغرب.
نتجت عن الأمر لقاءات بين مهاجرين مغاربة وأعضاء المقاومة، سنورد في هذا الملف تفاصيل واحدة منها، كما رواها صاحبها، وكما يرويها أبناؤه، من خلال ما دونه هو شخصيا عن تلك المرحلة أو أملاه على أقاربه حتى لا يضيع وسط تفاصيل كثيرة تتزاحم في الذاكرة.
كان الحديث عن رغبة في جمع تبرعات لصالح المقاومة بالمغرب، وعن استعداد للتعاون بين هؤلاء المهاجرين لمد أعضاء في الدار البيضاء بتلك المعونات المالية، لشن المزيد من الضربات ضد الوجود الفرنسي في المغرب.
ما وقع أن هؤلاء العمال عندما عادوا إلى فرنسا، تسببوا في نقاش كبير في أوساط العمال وسجل الكثيرون تخوفهم من أن يكون من بين ضحايا القنابل والعمليات التي ستنفذ بتبرعاتهم، مغاربة. وهكذا ألحوا قبل التبرع بالمال لصالح المقاومة على ألا تستهدف العمليات أي مغربي، وأن تقتصر على «النصارى» فقط. هذا التفصيل، على جزئيته في قصص جمع التبرعات للمقاومة، يعطي فكرة واضحة عن مخاوف العمال المغاربة في ذلك الوقت من السقوط في التهمة التي كانت توجهها فرنسا عبر جرائدها للمقاومة في المغرب، حيث كانت تتهمهم بأنهم عناصر مخربة، يستهدفون إخوانهم المغاربة والفرنسيين. الانتقاد الذي لم يجد صدرا رحبا لتقبله لدى أغلب الذين نشطوا في مجال التنظيمات السرية بالمغرب خلال الخمسينات، يتعلق بهذه النقطة تحديدا. إذ إن أغلب العمليات التي نفذت، كانت بدائية ولا تعكس قوة الصورة التي رسمها البعض للمقاومة المغربية.
وبحسب الإحصاءات التي أوردها منتمون لمندوبية المقاومين وقدماء جيش التحرير أنفسهم، فإن الضحايا الذين سقطوا في تلك الانفجارات في الفترة نفسها، كانوا قلة من الفرنسيين وأغلبية من المغاربة الذين كانوا يتجولون في الشوارع أو يعملون في الأسواق، في مهن بسيطة لا علاقة لها بالوجود الفرنسي، لكنهم كانوا يلقون مصرعهم متأثرين بالجروح الناجمة عن تلك الانفجارات التي كانت تنفذ في أماكن عمومية وفي ساعات الذروة..
هذا التفصيل جعل النقاش بين المتبرعين يشتد، لكنهم في الأخير قرروا تقديم الدعم للمقاومة تشجيعا للتنظيمات السرية على إزعاج الوجود الفرنسي في المغرب على كل حال.
كيف كانت تلك التنظيمات تتوصل بالأموال؟ هناك طرق لا تخلو من سياسة، تولى القائمون عليها إيصال تلك الأموال إلى التنظيمات في الدار البيضاء على وجه الخصوص، بما أنها كانت تشكل بؤرة المقاومة بالمغرب.
ما حدث أن بعض الأسماء رفضوا الوساطة رغم أنها كانت مقترحة بقوة من طرف حزب الاستقلال، وسينشب صراع كبير في الخفاء، لأن بعض المنتمين إلى التنظيمات السرية سيشككون في نوايا بعض الأسماء، ويتعللون بأن أسرار العمليات ستنكشف إن علم السياسيون بأمرها، وسيُسحب البساط من تحت أرجل الكثيرين، ويشوب عمليات نقل الأموال لغط كبير.
تحدث الكثيرون عن محاولات أخرى لنقل الأموال تحرك أصحابها من الدار البيضاء، خصوصا بعد المشاكل التي شابت العمليات الأولى التي سنأتي إلى تفاصيلها، إلى باريس، للقاء بعض العمال المغاربة والحصول منهم على مبالغ مالية مهمة، ثم العودة بها إلى المغرب. ما وقع أن الشرطة الفرنسية ستفطن إلى التحركات المريبة لمغاربة وصلوا إلى فرنسا برا، وعادوا برا، ومروا من نقط تفتيش دون أن يتم التدقيق معهم لأنهم لم يكونوا يتوفرون على أمتعة، وسيتم اعتقال أحدهم في نقطة تفتيش في المغرب، فيما سيفر آخر، ينتمي إلى جماعة الزرقطوني، قبل أن تصل إليه يد البوليس الفرنسي..
لا أحد تساءل عن مصير العمال المغاربة الذين شكلوا موردا ماليا مهما للتنظيمات السرية بالمغرب أيام الحماية الفرنسية، رغم أنهم كانوا جزءا كبيرا من تاريخها واضطلعوا بالمهمات الأكثر صعوبة، والتي تتمثل في تمويل الضربات ضد فرنسا بأموالها!
كيف احتضنت الحانات ودور الدعارة أولى مفاوضات إدخال المال من فرنسا إلى المغرب
جرت العادة ألا يحب أعضاء المقاومة أو المنتسبون إليها، أن يتم الحديث عن دور الدعارة أثناء سرد قصص مغامراتهم مع البوليس الفرنسي. لكن الحقيقة أن دور الدعارة لعبت دورا كبيرا في استيعاب أولى المفاوضات التي تمت بين مجموعات من المغاربة الذين كانوا يترددون على فرنسا، خصوصا منهم المنتسبين لحزب الاستقلال والمتأثرين بالحركة الوطنية، وبعض العمال في الخارج أثناء زياراتهم السنوية إلى المغرب.
بحكم وجود الشبان المحسوبين على المقاومة هناك بغرض الدراسة أو الهرب من الواقع المغربي وقتها، كان من السهل عليهم أن يتواصلوا مع المغاربة الذين كانوا يعملون في الغالب في مهن تتطلب مجهودا عضليا كبيرا، ولم يكن الحديث قد بدأ بعدُ عن الأطر المغربية أو المهن المرموقة..
نتحدث هنا عن مغاربة كانوا يزاولون مهنا قاسية في ظروف أقسى، بدون تمثيليات نقابية ولا حقوقية تتحدث باسمهم أو عن معاناتهم حتى، رغم أنهم انخرطوا في بناء اقتصاد فرنسا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. سيكون على هؤلاء المغاربة أن ينفتحوا على ما يقع في المغرب عبر بعض الجرائد الفرنسية يقرؤها لهم أقلية ممن كانوا يستطيعون قراءة الفرنسية، فيما كان أغلبهم أميين لا يستطيعون قراءة العربية فما بالك بالفرنسية؟ كان هؤلاء الذين يقرؤون الجرائد الفرنسية على مسمع من أصدقائهم، الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم، يغتنمون ساعات الفراغ القليلة بعد انتهاء العمل ليناقشوا معهم نظرة الفرنسيين للإنسان المغربي عموما، ولماذا كانت الجرائد التي تطبع في فرنسا تصف عمليات المقاومة في الدار البيضاء بأنها جرائم ضد مواطنيها هناك.
هكذا اشتد لهيب حماس بعض العمال المغاربة، وقرروا أن تصبح عطلهم السنوية بالمغرب، مناسبة للبحث عن المنخرطين في المقاومة وبحث سبل التعاون معهم، كشكل من أشكال التضامن. من جهة أخرى، كان القائمون على مجموعات المقاومة يبحثون عن مزيد من التمويل.. النتيجة كانت أن تتم بعض اللقاءات سنتي 1953 و1954، في أماكن غير مشبوهة بالدار البيضاء، على رأسها بعض الحانات ودور الدعارة، بعيدا عن أنظار البوليس الفرنسي، ويقترح فيها هؤلاء العمال تقديم مساعدات مادية تلقوا وعودا بأنها ستستعمل في عمليات لنسف فرنسا.
هذا الكلام يتفق حوله أغلب الذين رووا قصتهم مع المقاومة خلال منتصف الخمسينات، رغم أن بعضهم كانوا متذمرين جدا إلى درجة أنهم وجهوا اتهامات إلى نشطاء المقاومة بأنهم استعملوا الأموال بشكل خاطئ أو غير مدروس. فيما رد هؤلاء بأن الأمر لم يكن يتعلق بالمال وحده، بل بالصعوبات التقنية التي كانت ترافق عمليات زرع القنابل وصناعتها، بالإضافة إلى موجة الاعتقالات الكبيرة التي طالت نشطاء المقاومة وقضت على خلايا بأكملها في عدد من الأحياء سواء في الدار البيضاء أو المدن الأخرى. ماذا وقع بالضبط؟ إنها قصة تستحق أن تروى..
تفاصيل أولى لقاءات العاملين بالخارج مع ناشطين في المقاومة
حتى نكون محايدين.. ليس كل الذين اختاروا أن يخصصوا جزءا من أجرتهم في فرنسا لدعم المقاومة بالمغرب، فضلوا الحديث عن الأمر. بناصر العتابي مرغيش، واحد من الذين اختاروا الحديث عن تلك التجربة. في اتصال لـ«الأخبار» مع بعض أقاربه، تأكد فعلا أن الرجل كان واحدا من المغاربة الذين عملوا في فرنسا خلال سنوات الخمسينات، وأنه كان يتحدث بكثير من الحماس عن ضرورة مساعدة هؤلاء الشبان، وقتها، لإنجاح الأعمال التي كانوا يقومون بها ضد الوجود الفرنسي بالمغرب.
بالنسبة للبعض، فإن الأمر كان مجرد فضول ومحاولة للتعرف على الأشخاص الذين قضوا مضجع فرنسا وأزعجوا الفرنسيين إلى الدرجة التي أصبحوا معها حديث الجرائد الفرنسية. لكن بالنسبة لناصر العتابي، فإن الأمر تجاوز الفضول إلى رغبة كبيرة في الانخراط. لم يكن وحيدا، وإنما كان برفقته كل من الحسين، وكان مشهورا ببومدين، وشخص آخر اسمه عبيد، بالإضافة إلى صديق آخر اسمه إدريس ويتحدر من نواحي ورزازات.
إشكال الأسماء الكاملة لهؤلاء الناس كان مطروحا بشدة، لكن سبب عدم توفر الأسماء العائلية لأن المغاربة لم يكونوا وقتها قد انخرطوا بعد في اختيار الأسماء العائلية التي ستميزهم، وهكذا كانت أسماؤهم ترفع مباشرة إلى آبائهم، وهكذا كان الاسم الكامل مثلا للحسين هو الحسين بن علي. هذه المجموعة كانت من السباقين إلى لقاء الزرقطوني شخصيا في الدار البيضاء في وقت مبكر من فترة الخمسينات، واقترحوا عليه، برفقة محمد الفقيه البصري، الذي سيصبح معارضا شهيرا للنظام، أن يعملوا على تأمين مبالغ مالية من فرنسا ويتولوا أمر توصيلها إلى المغرب أو يتدبر الزرقطوني الأمر، فكان الاتفاق على بدء العمل..
يقول بناصر العتابي، في أحد الحوارات السابقة أثناء حديثه عن أول اتصال له مع من سيوصله إلى المقاوم الزرقطوني: «أول اتصال كان مع مولاي العربي، الذي طلبت منه إمكانية ربط الصلة بالمقاومين، لأننا قررنا نحن الأربعة (أي بناصر وعبيد والحسين وإدريس) الانخراط في العمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، ولأننا كنا نحمل معنا بعض الأسلحة وبعض النقود، فكان أن قام بربط الاتصال لي مع الزرقطوني وبالتحديد في ما أذكر ما بين 28 و30 شتنبر 1953. التقينا ببيت مولاي العربي، الواقع فوق «قيسارية المنجرة» شارع الفداء حاليا، وحكيت له قصتنا ورغبتنا في الانضمام إليهم، ولم يجبني بشيء خلال ذلك اللقاء، بل طلب مني مهلة للاستشارة مع رفاقه.. وبعد مدة التقاني محمد منصور في بين مولاي العربي وجاء سعيد بونعيلات بعد أيام بدوره ثم جاء عبد الله الصنهاجي أخيرا، هذا باستمرار اتصالي بالزرقطوني. فتبين أن الجميع كان لا بد أن يعرف معلومات مباشرة منا. وهكذا تمت واحدة من أولى العمليات المبكرة لتمويل المقاومة من فرنسا. وبعد مدة جاءنا القرار الذي يقضي بعودتنا إلى فرنسا، لأن بإمكاننا الحصول على الدعم المادي، خاصة وأن حركة المقاومة كانت تشتكي دائما من ضيق ذات اليد، بسبب صعوبة الحصول على المال من الأمناء الحزبيين ضمانا للسرية ولحرية التحرك..».
شهران هي المدة التي استغرقها النقاش بين هذه المجموعة وخلية الزرقطوني التي كانت وقتها تتكون من عدد كبير من الشبان على رأسهم محمد منصور وبونعيلات وآخرون..
أحد أعضاء تلك المجموعة القادمة من فرنسا، وهو إدريس، سيختار في وقت لاحق أن يتخلى عن عمله في فرنسا في ظروف معقدة، ويعود نهائيا إلى المغرب وينخرط في خلية للمقاومة من مدينة أكادير.
المثير في قصة هذه المجموعة، كما يروي ذلك العتابي، أنها كانت تفرد حيزا مهما ليس للمال فقط وإنما للسلاح أيضا، إذ إن هؤلاء العمال المغاربة كانوا يتوفرون على أربعة مسدسات تولوا أمر إدخالها برا إلى المغرب، وتوصيلها إلى خلية الزرقطوني. المسدسات الأربعة تم توفيرها سنة 1952 في فرنسا، ولم يأتوا بها إلى المغرب إلا عندما التقوا الزرقطوني سنة بعد ذلك.
حين وصلت أموال المتبرعين بالخارج إلى حزب الاستقلال وليس إلى المقاومة
لنعد إلى الحسين برادة حتى تكتمل الصورة. يقول متحدثا عن طرق جمع تلك الأموال: «في البداية كان العمال المغاربة هناك يجمعون المال في ما بينهم بشكل تلقائي، ويقومون بإرساله إلى شخص معروف في الدار البيضاء، ويمد بها التنظيم، وبطبيعة الحال فإن الأمر كان يتم بسرية كبيرة، وأؤكد هنا أن أولئك العمال كانوا يجمعون تلك الأموال من تلقاء أنفسهم ولم يطلبها منهم أحد، وكانوا يرسلونها إلى قياديين داخل حزب الاستقلال.
مثلا مبلغ الـ 5 ملايين الأولى، قاموا بإرساله إلى الدكتور محمد لحلو الذي كان من أعضاء حزب الاستقلال بالدار البيضاء.
لقد قام أحد إخواننا، وهو حسن صفي الدين بتسلم المبلغ من سي محمد لحلو، وهكذا وصل إلينا.
بالنسبة للخمسة ملايين الثانية فقد أرسلوها إلى الدكتور عبد الكريم الخطيب، والـ5 ملايين الثالثة أرسلوها إلى محمد بن جيلالي بناني، وهو أيضا من الأسماء المهمة بمدينة الدار البيضاء. فيما تم إرسال مبلغ آخر حينها، لا أذكر قيمته بالضبط لكنه كان أكثر من 5 ملايين سنتيم، إلى السيد أحمد بلافريج، الذي كان حينها في إسبانيا، وكلفنا سي الكبير الفاسي كي يحضرها من عنده، ومعلوم أن الكبير الفاسي كان على اتصال بنا من مدريد، وهكذا علم بأمر المال وتوجه إلى بلافريج وقال له إنه يريد الأمانة كي يوصلها إلى أصحابها في الدار البيضاء، فكان جواب بلا فريج حينها: «أولئك الناس مجرمون وأنا لا أتعامل معهم». يواصل برادة قائلا: «لا أعلم بالضبط ما راج في نفس بلافريج أو إن كان محتاطا فقط. لا أعلم بالضبط ولا أستطيع أن أقول إنني اطلعت على نيته. لكن هذا ما وقع، وهذا ما قاله أحمد بلا فريج عندما التقاه الكبير الفاسي بمدريد».
هكذا خطط عمال المناجم والمصانع لاغتيال الباشا الكلاوي في أوربا
هؤلاء الذين عملوا في المناجم تحت الأرض وفي بناء الأنفاق والطرق، خططوا لقتل الباشا الكلاوي. قد يبدو الأمر غريبا، لكن هذا ما وقع. فبعد أن كان بمقدور هؤلاء العمال المغاربة أن يقتطعوا من خبزهم بضع فرنكات وإرسالها إلى المغرب إيمانا منهم أنهم يقدمون خدمة جليلة للوطن، فقد بات بمقدورهم أيضا أن يخططوا إلى جانب خلايا الدار البيضاء ومراكش، من هناك.. في فرنسا، لقتل الباشا الكلاوي.
كانت شعبية الأخير متدنية، وعلق الكثيرون حدث نفي الملك محمد الخامس، على مواقفه الموالية لفرنسا. وهكذا كان غضب العمال المغاربة بالخارج منصبا على الباشا الكلاوي بالأساس، إلى درجة أنهم قرروا التربص به خلال زياراته إلى فرنسا لقتله.
لم يكن أمر توفير سلاح ناري هناك بالأمر الصعب، لكن لا أحد يعلم السبب الحقيقي وراء عدم محاولة تنفيذ المهمة، علما أن الباشا الكلاوي كان في زيارات كثيرة إلى الخارج في تلك الفترة.
حدث انقسام كبير في صفوف العمال، بين مؤيد للعملية ومعارض لها، لتنحصر عملية التخطيط في الدوائر الأقل اتساعا حتى لا يشيع الأمر ويصبح معروفا لدى المصالح الأمنية في فرنسا.. لكنه وصل إلى المغرب على كل حال، وتلقى العمال المغاربة في فرنسا تطمينات من المغرب، وأخبروهم ألا يقلقوا كثيرا بشأن الباشا الكلاوي، خصوصا أيام حكم بن عرفة، ووعدوهم بأن ينتقموا من نفي الملك محمد الخامس بطريقتهم. لكن رسالة المقاومة لم تجد الصدى المرجو لها في صدور أغلبية العمال المغاربة الذين كانوا موزعين بين فئة غير مهتمة أساسا وفئة أكثر اتساعا تتابع ما يقع في المغرب بكثير من الاهتمام، ويزعجها أن تطالع الأخبار من زاوية نظر الفرنسيين ووصفهم للمقاومين بالمجرمين..
ما حدث أن التخطيط لعملية اغتيال الباشا الكلاوي في فرنسا شهدت نزاعا كبيرا، زاد من تعميقه افتقار هؤلاء العمال إلى تخطيط محكم وما تتطلبه تلك العمليات من السرية الضرورية الواجبة قبل الشروع في التنفيذ.. وهو الأمر الذي جعل المتحمسين للفكرة يؤجلونها إلى إشعار آخر، لم يمهلهم التاريخ لإدراكه، لأن أزمة نفي محمد الخامس ستنتهي بالطريقة المعروفة، وسيُكتب للباشا الكلاوي أن يسجل مواقف ويتراجع عن أخرى، ويبدأ صفحة جديدة.
أسدل الستار على تبرعات العمال المغاربة بالخارج، بعد الاستقلال، في وقت كان المغرب يشهد صراعا كبيرا بين التنظيمات المختلفة للمقاومة، حيث لعب الصراع حول الحصول على الامتيازات دورا كبيرا في إعادة رسم خارطة تنظيمات كثيرة غيب أفرادها الحقيقيون وسلط الضوء على أعضاء بعينهم، ووسط كل تلك الفوضى.. ضاعت حقيقة مساهمة العمال المغاربة في قلب الأعمال الشاقة بفرنسا، في استقلال المغرب.