شوف تشوف

الرأي

قربة بوتين المثقوبة

ثمة تفصيل، يخصّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يتنبه الكثيرون إلى أهميته، وسط الانشغال بأخبار تصعيد التواجد العسكري الروسي في الساحل السوري، وهو أنّ بوتين اختار للمرّة الأولى منذ سنة 2005، أن يشارك شخصياً في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن يلقي خطاباً من المنبر الأممي. في عبارة أخرى ـ وبالنظر إلى أنه لا يفتقر البتة إلى اهتمام وسائل الإعلام الدولية بحركاته وسكناته؛ ولا تعنيه، كثيراً، حكاية الذكرى السبعين لتأسيس الهيأة الدولية ـ يلوح أنّ الرجل يعتزم إيصال رسالة ذات صبغة عالمية، تتوجه إلى الغرب أولاً بالطبع، ولكنها أيضاً تخاطب العالم بأسره أيضاً.
الأرجح، إذاً، أن يكمل الخطاب، عبر اللغة الدبلوماسية هذه المرّة، ما قالته موسكو على الأرض، عسكرياً، في أوكرانيا منذ أشهر، وفي سوريا منذ أيام: أنّ روسيا ليست بصدد استئناف أي طراز جديد من الحرب الباردة القديمة، حتى بمعنى الحروب المتخيَّلة؛ وأنها ترى في الغرب، والولايات المتحدة خاصة، شركاء في ما يتوجب صياغته من سياسة وأمن واقتصاد على مستوى العالم؛ ولهذا فإنّ تصعيد الوجود العسكري الروسي في سوريا يذكّر بدور موسكو هذا، ويفتح باب التفاوض حول ملفات أخرى تخصّ هموم روسيا، وفي طليعتها العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، وكذلك حروب أسعار النفط.
هي مبادرة تسعى إلى التفاهم، إذاً، وليس إلى التخاصم؛ حتى إذا كانت الوسيلة هي التصعيد، وبعض الاستفزاز، وخلط الأوراق (في الأجواء السورية على الأقلّ) إلى درجة تُنذر بالأخطار واللعب بالنار، وكانت دافع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الهرع إلى موسكو وتشكيل لجان أمنية روسية ـ إسرائيلية مشتركة لتفادي أي «سوء فهم» محتمل. يبقى، في المقابل، أنّ مستقبلي هذا العرض للتفاهم قد يغويهم طرح السؤال الرديف التالي: ولكن… ما المقابل، ولماذا، وعلام نتفاهم مع بوتين: على مأزقه في أوكرانيا، الآخذ في التفاقم والتحوّل إلى عبء على روسيا؟ أم رهانه على نظام خائر القوى، منعزل، منهزم، تابع لإيران، موشك على السقوط… هو خلاصة حال بشار الأسد؟ وإذا صحّت النظرية التي تقول إنّ روسيا تنتشر عسكرياً في الساحل السوري، لكي تناور على انتشار إيران في وادي بردى ودمشق، فما الذي يوجع الغرب وأمريكا في هذا؟
وما خلا اتصال هاتفي من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف؛ واتصال ثانٍ، من وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، مع نظيره الروسي سيرغي شويغو؛ لم تذهب ردود أفعال الولايات المتحدة إلى أيّ مستوى أعلى، أو نوع مختلف، من ردّ الفعل الاحتجاجي على الخطوة الروسية في الساحل السوري. صحيح أنّ اللقاء، المزمع، بين بوتين والرئيس الأمريكي باراك أوباما، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، قد يسفر عن نمط آخر من التعاطي مع المسألة؛ إلا أنّ تباشير مواقف البيت الأبيض لا تشير إلى نقلة نوعية، حتى على مستوى التشدّد اللفظي.
وهكذا، فإنّ بوتين يبدو اليوم مخلصاً لأسلوب اعتمده منذ انتخابه رئيساً للاتحاد الروسي، أواخر العام 1999، مفاده التذكير بأنّ موسكو في عداد جبابرة الكون عسكرياً (وهذا صحيح بالطبع)؛ ثمّ جيو ـ سياسياً (وهنا مصدر الشك، لأنّ تكبيل روسيا اقتصادياً وتخبطها في مغامرات عسكرية قصيرة الأجل والأغراض، أبعد نفوذها الكوني إلى الصفوف الخلفية). وما دام المرء بصدد الحديث عن بوتين، الخطيب من سدّة الأمم المتحدة، ما الذي منع روسيا من استخدام الفيتو ضدّ أمريكا في أفغانستان، ثمّ العراق، ثمّ ليبيا؟ وكم ستتغير المعادلات إذا تابع بوتين النفخ في هذه القربة المثقوبة، من مطار حميميم أو شواطئ طرطوس، في سوريا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى