قبسات من القرآن الكريم
قال القرطبي: هذه الآية شرّف الله بها رسوله عليه السلام حياتَه وموته، وذكر منزلته منه، وطهّر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره.
وذكر الصاوي: قوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ): هذه الآية فيها أعظم دليل على أنه عليه السلام مهبط الرحمات، وأفضل الخلق على الإطلاق، إذ الصلاة من الله على نبيه، ورحمته المقرونة بالتعظيم، ومن الله على غير النبي مطلق الرحمة، لقوله تعالى في سورة الأحزاب: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور). فانظر الفرق بين الصلاتين، والفضل بين المقامين. قوله: (وَمَلاَئِكَـتَهُ) بالنصب معطوف على اسم (إِنَّ)، وقوله: (يُصَلُّونَ) خبر عن الملائكة، وخبر لفظ الجلالة محذوف تقديره: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وهذا هو الأتم لتغاير الصلاتين، والمراد بالملائكة جميعهم، والصلاة من الملائكة الدعاء للنبي بما يليق به، وهو الرحمة المقرونة بالتعظيم، وحينئذ فقد وسعت رحمة النبي كل شيء، تبعاً لرحمة الله، فصار بذلك مهبط الرحمات، ومنبع التجليات. قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ) أي ادعوا له بما يليق به، وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي تشريفهم بذلك، حيث اقتدوا بالله في مطلق الصلاة، وإظهار تعظيمه عليه السلام، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم، وحق على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه، فصلاة جميع الخلق عليه، مكافأة لبعض ما يجب عليهم من حقوقه. إن قلت: إن صلاتهم طلب من الله أن يصلي عليه، وهو مصل عليه مطلقاً طلبوا أو لا ؟ أجيب: بأن الخلق لما كانوا عاجزين عن مكافأته عليه السلام؛ طلبوا من القادر المالك أن يكافئه، ولا شك أن الصلاة الواصلة للنبي عليه السلام من الله لا تقف عند حد، فكلما طلبت من الله، زادت على نبيه، فهي دائمة بدوام الله. قوله (وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) إن قلت: خص السلام بالمؤمنين، دون الله والملائكة. أجيب بأن هذه الآية لما ذكرت عقب ذكر ما يؤذي النبي، والأذية إنما هي من البشر، فناسب للتخصيص بهم، لأن في السلام سلامة من الآفات، وأكد السلام دون الصلاة، لأنها لما أسندت لله وملائكته، كانت غنية عن التأكيد. واعلم أن العلماء اتفقوا على وجوب الصلاة والسلام على نبي الله، ثم اختلفوا في تعيين الواجب، فعند مالك تجب الصلاة والسلام في العمر مرة، وعند الشافعي تجب في التشهد الأخير من كل فرض، وعند غيرهما تجب في كل مجلس مرة، وقيل: تجب عند ذكره، وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، وبالجملة فالصلاة على النبي أمرها عظيم، وفضلها جسيم، وهي من أفضل الطاعات، وأجل القربات، حتى قال بعض العارفين: إنها توصل إلى الله تعالى من غير شيخ، لأن الشيخ والسند فيها صاحبها، لأنها تعرض عليه، ويصلي على المصلي بخلاف غيرها من الأذكار، فلا بد فيها من الشيخ العارف، وإلا دخلها الشيطان، ولم ينتفع صاحبها بها.
وأشار الألوسي إلى أن قوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ) كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظراً إلى صدرها من حيث إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظراً إلى عجزها من حيث إنها جملة فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتاً فوقتاً، وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر، وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟
وعبر بالنبـي دون اسمه عليه السلام على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم السلام إشعاراً بما اختص به عليه السلام من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر، وأكد ذلك الإشعار بأل التي للغلبة إشارة إلى أنه عليه السلام المعروف الحقيق بهذا الوصف، وقال بعض الأجلة إن ذاك للإشعار بعلة الحكم، ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ) لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور، خلافاً للعز بن عبد السلام، فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه السلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه، وهو معنى دقيق فلا تسارع إلى الاعتراض عليه …وإضافة الملائكة للاستغراق. وقيل: (ملائكته) ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى، وذلك مستلزم لتعظيمه عليه السلام بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم، ثم فيه التنبيه على كثرتهم، وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه عليه السلام على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين، وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.
د. محمد حراز