شوف تشوف

الرئيسيةملف الأسبوع

قبايليون عشقوا المملكة ..منهم مفكرون وسياسيون ورياضيون وفنانون

حسن البصري
لم يكن حكام الجزائر ينتظرون رد فعل قوي من المغرب، حين وقف وزيرهم في الخارجية مدافعا عن حق تقرير المصير، مساندا أطروحة الانفصال. النقاش الحاد الذي نقلته الجارة الشرقية إلى منتظم دول عدم الانحياز، أعاد إلى الأذهان الحق نفسه لشعب القبائل، لأن تقرير المصير ليس مبدأ مزاجيا.

حين أشاد فرحات مهني، رئيس حركة تحرير «القبائل» وحكومة القبائل المؤقتة في المنفى، بموقف المغرب في ما يتعلق بحق شعب القبائل في تقرير المصير، واصفا إياه بـ«الموقف الشجاع والتاريخي بالنسبة إلى شمال إفريقيا والاتحاد الإفريقي بكامله»، انتفض حكام الجزائر فاستدعوا سفيرهم في الرباط للتشاور.

إذا كانت الجزائر تدعي الالتزام بدعم القضايا العادلة، فإن موقف المغرب يسير في الاتجاه نفسه، إذ يدعم قضية عادلة ويساند شعب القبائل التواق إلى الاستقلال، علما أنه ينتمي إلى واحدة من أقدم الحضارات في حوض البحر الأبيض المتوسط.

لا يعلم صناع الفتن أن كثيرا من الوجوه المشعة في منطقة القبائل الجزائرية تربطها وشائج وجدانية مع المغرب، وبعيدا عن السياسة نتوقف عند محيي الدين خالف، وهو أشهر مدرب جزائري قبايلي، مغربي المولد والنشأة، ما زال إلى اليوم يعيش بين تيزي وزو والدار البيضاء.

لا يعلم زارعو الألغام في حقول المغرب العربي أن الزعيم القبايلي حسين آيت أحمد، أحد أبرز وجوه المعارضة الجزائرية ورئيس «جبهة القوى الاشتراكية» السابق، قد أوصى بدفنه في المغرب، لكن بوتفليقة اعترض.

بين مسقط الرأس في منطقة القبائل الجزائرية، ومسقط القلب في الدار البيضاء المغربية، عاش المفكر الجزائري محمد أركون تجاذبات وجدانية، وأصر على أن يدفن جثمانه في تربة المغرب تنفيذا لوصيته، لأنه كان يعتبر المغرب بلده الأول، فغضب النظام الجزائري من الوصية، بعدما دفن جثمان الفقيد في مقبرة «الشهداء» بالدار البيضاء.

في هذا الملف، سنحاول التوقف عند نقطة التقاطع بين المغرب ومنطقة القبائل، ونسلط الضوء على شخصيات حجزت لبلادنا مساحة في قلوبها.

لويزة إيغيل.. مناضلة قبايلية عاشت بالشرق
ولدت لويزة في مدينة وجدة يوم 22 غشت عام 1936، عاشت طفولتها مع أسرتها في حي استوطنته الكثير من الأسر التلمسانية، كان والدها يشتغل في مدينة وجدة، وهو من أصول قبائلية أمازيغية وتحديدا من «تيقزيرت» بتيزي وزو.

كباقي الفتيات انشغلت لويزة بمساعدة والدتها في شؤون البيت، لكن أعراض التمرد بدت عليها وهي يافعة، ولقد لعب والدها دورا كبيرا في توضيح حقيقة الاستعمار الفرنسي لها، وكيف اغتصب أراضي المزارعين، خاصة الجزائر التي كانت فرنسا سباقة لوضع يدها عليها ابتداء من سنة 1830.

ظل والدها يتردد على تلمسان وتيزي وزو، وحين يشتد الاحتقان يدخل مدينة وجدة، التي كان يعمل فيها ضمن حرس الإقامة الفرنسية، وهو ما مكنه من الاقتراب أكثر من أدق تفاصيل المنظومة الاستعمارية، علما أن علاقة وطيدة جمعت الأب بالخلية العسكرية الجزائرية التي اتخذت من وجدة مكانا للنضال عن بعد ضد المستعمر الفرنسي.

حين بلغت لويزة من العمر 14 سنة، قررت أسرتها الرحيل عن وجدة والعودة إلى الجزائر العاصمة، حيث استقرت في حي القصبة، معقل المقاومة، هناك حملت الفتاة لقب «الوجدية» نسبة إلى مسقط رأسها ومدينة نشأتها. كان والدها يعمل في الجيش الفرنسي، معتقدا أنه سيحرر بلاده من النازية كما روج الفرنسيون، وشارك في الحرب العالمية الثانية وهو يصدق هذه الخرافة، لكنه أدرك حقيقة المستعمر وأطماعه ودرب أسرته على المقاومة، علما أن جد لويزة كان مقاوما، كما تقول في كتابها «الجزائرية». «ولم يكن غريبا أن يرث والدي الحس الوطني عن والده، فقد تربينا إخوتي وأنا على الوطنية من وجدة إلى الجزائر. ولم تكن من تفرقة بيننا. الفتيات كن أكثر عددا من الفتيان، والأسس موحدة من دون تمييز أو تفرقة بين الجنسين». لهذا انخرطت هذه الشابة في المقاومة مع أبيها وأمها وأخيها وأختيها وجدتها، وكلما اشتد عليها الخناق سافرت إلى تيزي وزو.

كانت مجازر 8 ماي 1945 والتي ذهب ضحيتها آلاف الجزائريين، النقطة التي أفاضت الكأس، حيث وصل صداها إلى وجدة وربوع العالم، حينها قرر والد لويزة الاستقالة من الجيش الفرنسي والاختفاء عن الأنظار. التحقت لويزة بالثورة الجزائرية، في زمن كانت المقاومة في أمس الحاجة إلى العنصر النسوي، لكنها تعرضت للأسر والتعذيب الوحشي في أحد سجون الجزائر العاصمة طيلة شهرين ونصف الشهر، وهو ما دفعها إلى مقاضاة الجنرال «سميت».

حين غادرت لويزة مدرستها الابتدائية في وجدة، وقفت المعلمة الفرنسية لتوديعها عند باب الفصل، وهي تشيد بنباهتها المبكرة، فأوصت الوالد بضرورة استكمال المشوار الدراسي لابنته، وهو الملتمس الذي استجاب له الأب، حين سجل أبناءه في مدارس حي القصبة، وتحديدا في المدرسة الفرنسية بالجزائر إلى غاية ماي 1956، حيث وجهت جبهة التحرير الوطني الجزائرية نداء إلى كل الطلبة الجزائريين بالمدارس الفرنسية بمقاطعة الدراسة والالتحاق بصفوف المجاهدين، فلبت النداء.

ظلت لويزة مرابطة بعد الاستقلال بالعمل السياسي كبرلمانية، ولكنها ضحت بمنصبها حين أعلن الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة ترشحه لعهدة خامسة، كما نددت بنهب المال العام، ودعت إلى مد جسور التعاون بين الشعبين المغربي والجزائري، دون جدوى.

محمد أركون يدفن بالمغرب بناء على وصيته
بين مسقط الرأس بمنطقة القبائل الجزائرية، ومسقط القلب بالدار البيضاء المغربية، عاش المفكر العربي محمد أركون تجاذبات وجدانية، فقد كان يتحدث دائما عن منطقة القبائل التي رأى النور فيها سنة 1928، بل إن كثيرا من المفكرين الجزائريين كانوا يتمنون استقراره بعد التقاعد في تيزي وزو التي يكن لها عشقا خاصا، إلا أنه أصر على أن يدفن جثمانه في تربة المغرب تنفيذا لوصيته، لأنه كان يعتبر المغرب بلده الأول.

حين أكمل أركون دراسته الجامعية في شعبة الفلسفة بالجزائر، سافر إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا في «السوربون»، التي تحول إلى أحد أعمدة هيئتها التدريسية في شعبة الدراسات الإسلامية، هناك ارتبط بفتاة فرنسية، إلا أن الزواج الذي أثمر بنتا سرعان ما انتهى إلى الطلاق، ليتعرف أركون على فتاة مغربية تدعى ثريا اليعقوبي، التي أصبحت رفيقته وبوصلة حياته.

نادرا ما يحط المفكر العربي الرحال في الجزائر، لكنه ظل يطوي المسافات بين باريس والدار البيضاء، قبل أن يقرر الاستقرار في العاصمة الاقتصادية للمغرب، ابتداء من سنة 1995.

في شهر شتنبر من سنة 2010، دخل محمد أركون مرحلة صحية متدهورة في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية باريس، بعد معاناة كبيرة مع المرض، كان عمره يناهز 82 سنة. وأسلم أركون الروح إلى بارئها في الـ14 من الشهر نفسه، وبقرار من زوجته وتنفيذا لوصيته، نقل جثمانه من باريس على متن الخطوط الجوية الملكية المغربية لدفنه في مقبرة «الشهداء» بالدار البيضاء، بعد أداء صلاة الجنازة عليه في مسجد الحسن الثاني، بمشاركة عدد من الشخصيات الثقافية والسياسية، فيما سجل غياب سفير الجزائر في المغرب.

كلما زاره صديق جزائري خاصة إذا كان من المساهمين في صناعة القرار، إلا وجدد مطلب فتح الحدود بين المغرب والجزائر، ولا تمر الفرصة دون أن يتحدث عن المأزق الذي يتخبط فيه الاتحاد المغاربي، بسبب الخلافات السياسية بين المغرب والجزائر، سيما وأن الفقيد كان معارضا لقرار فرض التأشيرة على تنقل الأشخاص بين الدول المغاربية، واصفا إياه بـ«الكارثة الإيديولوجية».

ومن تداعيات رحيل المفكر أركون مبادرة نجلته «سيلفي» من زواجه بالفرنسية، التي استعادت علاقتها بوالدها بعد مرور أربع سنوات على وفاته، حين أصدرت كتابا بعنوان «حيوات محمد أركون»، استعادت فيه علاقتها بالأب من خلال محاولة اكتشافه من جديد على اعتبارها من أقرب المقربين إليه. نفذت الابنة، وهي تكتب هذا الكتاب، إلى أعماق والدها وأماطت اللثام عن علاقاته العاطفية والفكرية ونقاط قوته وضعفه وانصهاره في المجتمع المغربي.

محيي الدين خالف.. قلب في تيزي وزو وعقل بالبيضاء
تستحق قصة هذا المدرب الذي أنهى مساره الكروي محللا رياضيا بالفضائيات الخليجية والوطنية، أن تروى لأنه مارس الكرة من دروب بلقصيري المتربة وانتهى مدربا في أكبر التظاهرات الكونية، بل إن محيي الدين يعد من بين أشهر المدربين الذين أنجبتهم الجزائر، خاصة بعد إنجازه المبهر في مونديال إسبانيا 1982، حيث كان على رأس الإدارة التقنية للمنتخب الجزائري لكرة القدم، رفقة رشيد مخلوفي.

عانت أسرة خالف في منطقة القبائل الجزائرية من جبروت المستعمر الفرنسي، فقرر الوالد حسين خالف الرحيل بعيدا، حيث قطع الحدود واستقر في المغرب ابتداء من سنة 1931، وعمره لا يتجاوز 27 ربيعا، وهو ما حوله إلى كتلة من الحماس في بلدة صغيرة اسمها بلقصيري المتمددة فوق سهول الغرب.

بالرغم من سنوات القحط تمكن المهاجر الجزائري من اقتناء مزرعة كبيرة، واهتم بالزراعة والتجارة، قبل أن يعود إلى الجزائر، حيث جلب زوجته ودعاها إلى الاستقرار في بلقصيري بعيدا عن غارات المستعمر. وفي سنة 1944 رزق بابنه محيي الدين، الذي سيكون له شأن في عالم بعيد عن مجال اشتغال الوالد. وفي حوار مع صحيفة جزائرية برر الوالد سبب تسمية ابنه بـ«محيي الدين»، بتعلقه بسيرة الأمير عبد القادر، رمز المقاومة الجزائرية الذي كان له ابن يسمى محيي الدين.

درس محيي الدين في مدرسة مركزية ببلقصيري، وظهرت مواهبه الكروية وهو صغير السن، انضم إلى شبان النادي القنيطري، وحين سطع نجمه انتقل إلى فرق مجاورة كالاتحاد الزموري للخميسات والنادي المكناسي. بعد خمس سنوات على حصول الجزائر على استقلالها، قرر مجلس عائلة خالف العودة إلى «بلد المليون شهيد»، وسط حالة حزن شديد من طرف أهالي بلقصيري.

في ماي 1979 أصبح محيي الدين خالف مدربا للمنتخب الجزائري، فدشن مسيرته بهزم المنتخب المغربي بخماسية في الدار البيضاء، وثلاثية في الجزائر العاصمة. وبعد خمس عشرة سنة من التدريب في الجزائر، قرر محيي الدين خالف العودة من جديد إلى المغرب، حيث تولى تدريب العديد من الفرق المغربية، نذكر منها المولودية الوجدية وشباب المحمدية واتحاد طنجة والنادي القنيطري، كما درب في تونس وفي أكثر من بلد خليجي، لكن عودته كانت إلى شبيبة القبائل. ليقرر وضع حد لمسيرته المهنية بعد 30 سنة من التدريب، ويدخل بعدها عالم التحليل، حيث عمل بالكثير من القنوات الفضائية الرياضية العربية.

حسين آيت أحمد.. سياسي جزائري يوصي بدفنه بالمملكة
ساد نقاش واسع في الجزائر حول مكان دفن جثمان الراحل حسين آيت أحمد، أحد أبرز المعارضين الجزائريين ورئيس «جبهة القوى الاشتراكية» السابق، عندما وافته المنية صباح يوم الأربعاء 23 دجنبر 2015، بمستشفى «لوزان» في سويسرا، وذلك عن عمر يناهز 89 سنة إثر مرض عضال لم ينفع معه علاج.

تقول وصية المناضل الجزائري: «رجاء ادفنوني بعد موتي في المغرب»، لكن الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة كان له رأي آخر، إذ قال لشقيقه سعيد: «الرجل سيدفن أين قضى حياته»، ويقصد الجزائر، فيما تضاربت معلومات حول وصية منه لمقربيه بدفنه في الجزائر أو المغرب، تاركا الاختيار لعائلته.

أوصى الزعيم الجزائري حسين آيت أحمد بدفنه بجوار أبيه في المغرب، وهي الوصية التي أقلقت بوتفليقة، استنادا إلى مصادره التي وصفها بالرسمية. وأفاد كريم مولاي، الضابط السابق في المخابرات الجزائرية، بأن «نجل المرحوم آيت أحمد يوغرطة أخبر سعيد بوتفليقة عبر مكالمة هاتفية، بوصية أبيه بدفنه جنبا إلى جنب والده الذي دفن في المغرب». إذ إن جده الشيخ محند الحسين الذي ينتمي إلى الطريقة الرحمانية، عاش طويلا في المغرب.

دار سجال كبير حول هذا الموضوع، خاصة بعد أن رد محمد نبو، السكرتير الأول لحزب جبهة القوى الديمقراطية، على الرئيس الجزائري الأسبق بالقول: «إذا كان الرئيس يصر على دفن المناضل حسين أين قضى الفترة الأكبر من حياته، فإن الرجل قد عاش في لوزان الفترة الأطول من حياته».

تضاربت الأخبار عن مكان دفنه أكثر مما انشغل الصحافيون بمساره، وتراقص أمام النظام الجزائري طيف المغرب، خاصة وأن ابني الفقيد يستقران بالمملكة المغربية. وانشغل الناس بدفن القائد التاريخي للحركة الوطنية، وأحد أبرز وجوه حرب التحرير الوطني، مؤسس ورئيس جبهة القوى الاشتراكية، رغم أنه غادر الحياة السياسية قبل رحيله بعامين. لكن محيط الرئيس ضغط بقوة لدفنه بالجزائر، لاعتبارات سياسية وتاريخية مهمة في مثل هذه الحالات.

وكان حسين آيت أحمد، الذي ولد سنة 1926 بولاية «تيزي وزو»، قد أسس بعد استقلال الجزائر في 1962 «حزب جبهة القوى الاشتراكية»، دفاعا عن التعددية ومناهضة نظام الحزب الوحيد الذي كرسته «جبهة التحرير»، كما عاش في المغرب وله صداقات متينة مع اليسار المغربي، سيما بعد هروبه من سجن الحراش الجزائري سنة 1966، ولم يعد إلى الجزائر إلا بعد انتفاضة أكتوبر 1988.

احتفظ الراحل بشعبية كبيرة طيلة مساره النضالي، وبالصورة نفسها التي لطالما رسمها لنفسه، ذلك الرجل الثائر الثابت على مبادئه، الرافض لكل المساومات، الخائف على بلده والمدافع عن وطنه، إنه ببساطة «الدا الحسين» الذي غادر الجزائر كبيرا قبل أن يعود إليها في جنازة مهيبة، حضرها عدد كبير من السياسيين المغاربة، حيث ووري الثرى في مسقط رأسه.

مولود قاسم.. مستشار الرئيس الذي ناصر القضية الوطنية
ينحدر مولود قاسم من عمق منطقة القبائل الجزائرية، وتحديدا من دائرة أقبو بولاية بجاية. درس في الجزائر وتونس وباريس، وخاض معركة تعميم استعمال اللغة العربية بشراسة، رغم أصوله الأمازيغية. برزت نباهته في جامعة الزيتونة وفي الأزهر بالقاهرة، ومنها إلى باريس حيث سجل في سلك الدكتوراه، لكنه لبى نداء جبهة التحرير وتولى مسؤوليات عديدة قبل الاستقلال وبعده.

عاش فترة في مدينة وجدة وانتقل إلى مدن عديدة، خاصة فاس، حيث تعرف على العديد من العلماء المغاربة، سيما فقهاء اللغة العربية نظرا لاهتمامه البالغ باللغة العربية، بل إنه كان يعمد إلى إعادة كتابة مضامين لافتات ووثائق بالعربية.

شغل مولود قاسم نايت بلقاسم عدة مناصب سامية أبرزها تعيينه مستشارا لهواري بومدين، كما كان مسؤولا في جبهة التحرير الوطني مكلفا بتعميم استعمال اللغة العربية ومسؤولا عن المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، بل إنه كان يرفض قراءة المراسلات الواردة عليه باللغة الفرنسية، مهما كان مصدرها.

نسج قاسم علاقات جيدة مع المغاربة واستشار مع نخبة من المثقفين من بينهم الزعيم علال الفاسي، الذي كشف له عن مشروع قانون تعميم اللغة العربية في الوزارات. لكن علاقته الجيدة بالمغاربة أغضبت الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، ما جعل قاسم يردد قولته الشهيرة: «أفضل أن أكون بوابا في السويد، على أن أكون وزيرا في حكومة ضعيفة».

في بداية سنة 1965 طلب من الشاعر الجزائري مفدي زكريا كتابة نشيد وطني تجسد مضامينه الثورة الجزائرية، وخلال يومين فقط جهز شاعر الثورة نشيد «قسما بالنازلات الماحقات»، انتقل الشاعر إلى مصر لتلحينه، حيث تبرع الموسيقار المصري الراحل محمد فوزي بتلحين النشيد «هدية إلى الشعب الجزائري»، فاقتنعت جبهة التحرير باللحن، لكن مفدي ظل مهمشا، بعد أن رفض كتابة قصيدة حول الثورة الزراعية، كما اصطف إلى جانب المغرب في قضية الصحراء. هذا الموقف أغضب هواري الذي أمر بتغيير النشيد الوطني الجزائري، فكلف مستشاره مولود قاسم بإجراء مسابقة للشعراء الجزائريين لوضع نشيد وطني آخر للبلاد، بدلا من نشيد «ذلك الخائن الذي بات يمدح أعداء البلاد في تونس والمغرب»، على حد قول بومدين. ولكن مولود قاسم الذي كانت تجمعه علاقة صداقة بمفدي زكريا وبالمغرب، تمكن من إقناع هذا الأخير بدخول المسابقة، وهو ما حدث بالفعل، ليكتشف مستشار الرئيس بومدين في النهاية بأن النشيد الفائز ليس إلا لشاعر الثورة مفدي زكريا.

زعيم الحزب الشيوعي.. قبايلي الجذور مغربي المواقف
ولد علي يعتة في شهر غشت 1920، ومات في شهر غشت 1997. خرج الرجل إلى الوجود في عز الصيف ومات في عز الصيف، مع اختلاف في مكان النشأة والرحيل. فقد ولد في مدينة طنجة التي كانت تعيش تحت الوصاية الدولية، من أب يتحدر من منطقة القبائل الجزائرية، غادر الجزائر تحت وطأة الحكم الاستعماري الفرنسي، ليستقر منذ عام 1911 في مدينة طنجة، إلى غير رجعة.

تزوج «السي سعيد»، خلال وجوده في عاصمة البوغاز، من فتاة ريفية تدعى فاطمة بن عمار، وقرر الاستقرار في شمال المغرب، بعدما أصبح إطارا في شركة التبغ. وحين كبر علي انتقل رفقة والديه إلى الدار البيضاء ليبدأ حياة النضال، سيما بعد استقراره في عمق المدينة القديمة.

أكمل علي دراسته بالجزائر، حيث حصل بها على شهادتي الدراسات التطبيقية العربية وأصول العربية من كلية الآداب بالجزائر، وظل يحمل الجنسية الجزائرية حريصا على التردد على منطقة القبائل، مسقط رأس والده.

في ذكرى تأبين علي يعتة، قال عبد الواحد سهيل، رئيس مؤسسة علي يعتة، إن علاقة الزعيم اليساري بالجزائر عميقة، مشيرا إلى نضاله من أجل استقلال المغرب والجزائر معا، مردفا في هذا السياق، أن «أصعب ما عاشه الراحل يعتة الذي قدم هذه التضحيات أن يواجه في فترة من تاريخه بمنعه من دخول بلاده، بحيث لا يستطيع دخول المغرب لكونه لا يحمل الجنسية المغربية، معتبرا ذلك قمة العبث التي عاشها الراحل قيد حياته».

وأضاف رئيس مؤسسة علي يعتة أن السلطان محمد الخامس استقبل علي يعتة، وأكد له أنه مغربي المنشأ ومغربي النضال ومغربي التكوين، مشيرا إلى أنه انتزع مغربيته بكل جدارة واستحقاق، دون أن يقطع خيوط النضال مع الجزائر.

وأوضح سهيل أن معركة علي يعتة ضد الاستعمار كانت معركة وطنية وأيضا معركة أممية، مؤكدا أن علي يعتة كان كذلك مساندا للشعب الجزائري والثورة الجزائرية وعدد من النضالات. بالإضافة إلى ذلك شدد المتحدث ذاته على أن «يعتة كان مناضلا من أجل الوحدة الترابية، ويحمل همها بهاجس غريب».

على الرغم من انتمائه للحزب الشيوعي ومعاناته من أجل ضمان موقع قدم لهذا التنظيم في مغرب محافظ إلى حد كبير، فإن علي يعتة كان متدينا، بل أدى مناسك الحج، وكان الملك الراحل الحسن الثاني يستلطفه حين يناديه بـ«الحاج الشيوعي»، من باب الدعابة.

شيخ الفن القبائلي يساهم في دعم ضحايا زلزال الحسيمة
في ماي من العام الماضي توفي الفنان القبائلي حميد شريت الشهير بلقب «إيدير» والتي تعني الحي. مات في منفاه الاختياري بفرنسا، التي استقر فيها لعقود، هربا من نظام عسكري يطوق إبداعاته. وفاة صاحب أغنيتي «أفافا ينوفا»، و«سندو»، كانت في مستشفى بيشات كلود بيرنات بالعاصمة الفرنسية باريس، بعد أن قضى سنوات عديدة وهو يتأبط غيتارته.

نال المغرب حظا وفيرا من اهتمام «إيدير»، حيث زار مدنا عديدة وتوقف كثيرا في الريف وسوس وعدد من المناطق بحثا عن متيمين بالفن الأمازيغي. واستنادا لتصريحات صحفية لرفيق دربه منير كجي، فإن الفنان القبائلي ظل يتردد عليه كلما زار المغرب. «أول زيارة لفنان القبائل إلى المملكة كانت سنة 1995، بدعوة من المعهد الفرنسي بمدينة الدار البيضاء، وبعدها بسنتين سيعود إلى المغرب، هذه المرة إلى العاصمة الرباط في إطار مهرجان المدينة سنة 1997، عقبها ستتوالى الزيارات إلى مختلف المدن، بداية بمكناس وأكادير والحسيمة وتيزنيت.

يقول كجي في الحوار الصحافي ذاته، إن «إيدير» هو أول من غنى في مهرجان «تيميتار» في دورته الافتتاحية سنة 2004. «غنى في سياق صعب عاشته البلاد، فقد كانت حديثة الخروج من بطش الهجمات الإرهابية، تلك السهرة التي جاءت بالناس من كل المدن، رغم الإنزال الأمني الكثيف، مخافة تكرر أحداث همجية مشابهة».

ويضيف رفيق درب المطرب الجزائري الراحل أن «علاقة «إيدير» بمنطقة الريف في المغرب كان لها طابع خاص، أتذكر التفاتة كبيرة للساكنة التي أرعبها الزلزال الشهير للحسيمة، وأحيا الفنان من أجلها حفلا بملعب «ميمون العرصي» بالمدينة ذاتها، وخصصت كل مداخيل السهرة التاريخية لإعادة الإعمار سنة 2004».

حين غادر «إيدير» الجزائر فتح له المغرب أبوابه، حيث زار كثيرا من المدن المغربية، كالقنيطرة وفاس ثم إفران، وكان له حلم معاينة مداشر الجنوب الشرقي والأطلس، من أجل الاستراحة من عناء المرض، لكن المنطقة التي كانت تأسره هي إملشيل التي تغنى بسحرها. كما كان متيما بالشاعر المغربي علي صدقي أزايكو.

تشبع الفنان القبايلي بأنماط التراث الفني المغربي، فاصطف في وقفات أحيدوس وأعجب بالفن الكناوي وقدم وصلات منه، كما زار تافراوت وقضى فيها أياما ذكرها في أكثر من حوار.

فرحات مهني يطالب بفتح تمثيلية دبلوماسية لشعب القبائل بالرباط
أشاد فرحات مهني، رئيس حركة تحرير القبائل وحكومة القبائل المؤقتة في المنفى، بموقف المغرب في ما يتعلق بحق شعب القبائل في تقرير مصيره، واصفا اياه بـ«الموقف التاريخي»، مضيفا أن «النظام الجزائري الذي صنع البوليساريو ويطالب بحق تقرير مصير الصحراويين، ينكر هذا الحق على سكان القبائل». كما طالب مهني بفتح تمثيلية دبلوماسية لشعب القبائل في الرباط.

لم يتوقف دعم المغرب الدبلوماسي في الأمم المتحدة للقضية القبايلية، بعد إثارة ردود الفعل المرحبة من البعض، حيث وجه اليزيد عبيد، نائب رئيس حكومة القبائل المؤقتة، تحية للمغرب بسبب دعم القضية القبايلية، وتوقع أن يكون ذلك الحدث الدبلوماسي مقدمة لاعترافات دول أخرى.

في حوار صحافي مع فرحات مهني قال رئيس الحركة، إن القبائل تطرق باب هذه المنظمة لتطالب بحقها في دخولها، والحصول على مقعد بداخلها. «سمع المغرب نداءنا واستجاب له، بل وطالب الأمم المتحدة بإدراج حماية والنهوض بحقوق شعب القبائل ضمن جدول أعمالها، لدراسة حقه في تقرير مصيره. إن هذا الاختراق الدبلوماسي الذي ستتلوه اختراقات أخرى، يعد سابقة بالنسبة إلى قضيتنا. ولذلك نحرص شخصيا على التعبير عن تشكرات القبائل على هذا الدعم الأخوي للمغرب».

تأمل الحركة الداعية لاستقلال الفبائل وجعل تيزي وزو عاصمة لها، في التعايش في سلم ورخاء مع باقي شعوب البحر الأبيض المتوسط، رافضة إملاءات السلطات الاستعمارية الجزائرية، «إنه طموح قوي من شأنه أن يشكل انتصارا آخر لقضيتنا، أن نتمكن من فتح أول ممثلية دبلوماسية للقبائل في الخارج بالرباط. لكن لندع الأشياء تتم بشكل منتظم وبعيدا عن أي تسرع».

وأضاف مهني أن مساعي الجزائر لشيطنة المغرب مجرد وسيلة لتحويل الأنظار. وحتى عندما لا تكون ثمة قلاقل على الأرض، يقوم النظام الجزائري باختلاقها كي يتمكن من اتهام المغرب، مشيرا إلى أم المفارقات حين ينادي حكام الجزائر بحق الصحراويين في تقرير مصيرهم، ويمنعون عن القبايليين هذا الحق.

ما بين تاريخ مولده بمنطقة القبائل في الخامس من مارس 1951، وتاريخ تحمله رئاسة حكومة القبائل في المنفى في الفاتح من يونيو 2010، عاش فرحات مهني تقلبات السياسة الجزائرية بكل فصولها، وعانى محنا كثيرة أثرت في مساره السياسي، ليس أقلها قسوة السجن والمنفى والانكسار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى