فاطمة ياسين
لم يكن انتخاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للمرة الثانية، نتيجة إنجازات استثنائية قدمها في الفترة الأولى من رئاسته التي شابها التوتر. لم يتمكن ماكرون من الظهور بالشكل الذي يجعل مسألة انتخابه أمرا هينا، ولكن صعود اليمين المتطرف وبروز نجمته مارين لوبان والتخوف الشديد من فوزها الرئاسي، حشدت كل الأوساط الكارهة للتطرف اليميني، بمن فيها من لا يستسيغ ماكرون، للتصويت له، لتجنب مطب يميني، يجعل الشعارات الفرنسية المميزة بالعدالة والمساواة تتزعزع، في حال فوز التطرف.
أعطى التخوف من اليمين المتطرف زخما لماكرون، جعله يجد نفسه في سدة الرئاسة مرة ثانية، وكان قد واجه، في فترته الأولى، أزمة «السترات الصفراء»، التي أضرمت الشوارع مدة طويلة، وجائحة كورونا. ولم يكن سجل الرئيس الفرنسي في الأزمتين عاليا، وربما كانت هاتان القضيتان كفيلتين بالتفكير برئيس جديد، ولكن تطرف لوبان وعلاقات حزبها المشبوهة مع الرئيس الروسي أَمَّنَا لماكرون الفوز.
أطل اليمين برأسه السنة الماضية، حين مرر قانون رفع سن التقاعد، وبشكل غير مباشر، قدم قبل أيام لماكرون خدمة جديدة بقبول قانون الهجرة، ومنحه فوزا تشريعيا كان من المشكوك الحصول عليه من دون دعم اليمين الذي صوت جميع أعضائه بالبرلمان لصالح القانون، فيما عارضه 186 نائبا من حزب ماكرون ومن الأحزاب اليسارية، بمعنى أن النجاح لم يكن خالصا، بل أمنته الأكثرية، كما تقتضي التقاليد البرلمانية. لم تكن المساعدة اليمينية مجانية، فقد خضع القانون لتعديل جعله مقبولا من اليمين، وهو تعديل أثار غضبا بالبرلمان والشارع الفرنسي، ولكن ماكرون دافع عنه بشكله النهائي، ووصفه بدرع حماية.
اجتاحت أوروبا موجة عارمة من اللاجئين بعد ثورات الربيع العربي، وكانت محاولات الهجرة قبل ذلك وبعده لمواطني كثير من بلدان آسيا وإفريقيا كبيرة، ووجد الفارون من جحيم الحروب والديكتاتورية والفقر في دول أوروبا الغربية، ومنها فرنسا، مقصدا أساسيا. كثافة الهجرة وتزامنها مع عمليات إرهابية شهدتها فرنسا جعلت أصابع الشك والريبة تتجه صوب المهاجرين، وكانت بعض العمليات كبيرة ومؤثرة، بحيث تركت جرحا واضحا في المجتمع الفرنسي، كعملية مجلة «شارلي إيبدو»، التي قتل فيها 12 شخصا، والعمليات التي اجتاحت باريس في نونبر 2015 والتي حصدت 130 قتيلا، وتنوعت بين إطلاق النار العشوائي على جمهور أو بمهاجمة الملاعب والحفلات، وتلتها حوادث أخرى ذات أثر كبير، جعلت جمهور اليمين يتضاعف، وأجبرت المشاعر الفرنسية عموما على الانزياح نحو اليمين قليلا أو كثيرا، ما عزز مكانة الحزب اليميني المتطرف وأهله للمنافسة المباشرة على منصب الرئاسة مرتين متتاليتين، وأعطاه اليوم أصواتا انتخابية مهمة، مكنته من تمرير قانون ماكرون، بعدما أدخلت لمستها اليمينية عليه.
حسابيا، فاز القانون ذو الصبغة اليمينية، وهي حقيقة تقابلها الحقيقة الأخرى، أن نواب اليسار والبيئة وربع نواب حزب الرئيس يقفون ضده. وفي مسح للشارع الفرنسي، يؤيد 70 في المائة من الفرنسيين القانون، رغم أنهم يعتقدون أنه يميني، لكن هذا لم يغير من موافقتهم عليه، وكنا قد رأينا بعد اختراق 7 أكتوبر الذي قامت به «حماس» والهجمات الإسرائيلية على غزة، مساندة فرنسا إسرائيل بقوة في البداية، ورغم رغبتها في إظهار القليل من الاعتدال، لكن الواقع يشير إلى انزياح عن مواقفها التقليدية في ما يخص بعض القضايا العربية، وتبدو اليوم بتبنيها هذا القانون تتحرك نحو اليمين.