في وداع الرفاهية
إلى وقت قريب، لم تكن أكثر التحليلات السياسية والاقتصادية تتصور أن التاريخ سيعيد نفسه، وسيعيد وباء مستجد رسم العالم تماما كما فعلت أوبئة أخرى عندما كان الإنسان تحت رحمة الطبيعة بشكل مباشر في القرون الوسطى وما قبلها، إذ كانت أغلب التحليلات تنصب حول صلاحية المذاهب الاقتصادية والسياسية والفكرية والدينية، وعندما تحدث عالم الاجتماع الفرنسي الشهير “آلان تورين” عن نهاية المجتمع ونهاية الدولة، بسبب هيمنة رأسمالية المضاربات على حساب الرأسمالية الصناعية لم يخطر على باله إطلاقا أن الرأسمالية كأسلوب في الحياة ترسخ في القرون الثلاثة الماضية، تتعرض لرجة لم تستطع نظريات من قبيل الفوضوية والشيوعية والاشتراكية القيام بها، وهذه الرجة لا تقف وراءها فكرة أو نظرية أو مذهب بل فقط وباء، تماما مثلما فعل وباء الطاعون بالنظام الكنسي العتيد في القرن الرابع عشر، عندما قتل ثلث سكان أوروبا. واكتشف عموم الناس زيف المعجزات التي كان يدَّعيها رجال الدين.
إن فكرة “التاريخ يُعيد نفسه”، والتي تظهر من خلال حقيقة أن الأوبئة هي التي تقف دوما وراء إعادة تشكيل العالم، كانت دوما محط سخرية من طرف مفكري وفلاسفة وعلماء العصر الحديث، لأن الفكرة البديلة لهذا العود الأبدي هي أن الكمال الإنساني تجسد فعليا وواقعيا في الثورات العلمية والتقنية، وبالتالي فالتاريخ الإنساني لا يمكن إلا أن يكون تاريخا تقدميا. لأن الإنسان ما فتئ يسير في طريق الاكتمال la perfection. وهذا التقدم يحدث باطراد لا مجال فيه للصدفة أو الحظ لأن الإنسان أضحى سيد الطبيعة ومالكها ولا شيء يشاركه ملكه وينازعه صولجانه.
لكن ما يحدث الآن بسبب فيروس كورونا يشكل صدمة حقيقية لأنه يثبت أن هذا الاعتقاد بالاكتمال ما هو إلا وهم من الأوهام الكثيرة التي صنعها الإنسان لتبجيل قدراته وإنجازاته. وها هو وباء جديد لا يتجاوز من العمر ثلاثة أشهر يفتك بالأرواح في عقر أوروبا التي نصبت نفسها طوال قرون قائدة الإنسانية ومخلصتها. إنه يفتك بأوروبا التي لطالما اعتبرت نفسها وريثة المعجزة الإغريقية. ها هو الإنسان المتباهي بما حققه في الذكاء الاصطناعي يرى كبرياءه يتعرض للمرمغة في الألم والمأساة، لكونه بقي عاجزا عن أن يضمن لقاحا شافيا.
قد لا يبدو الأمر عندنا، نحن مواطنو العالم الثالث بهذه المأساوية، لكوننا كنا دوما على هامش ما يحدث عالميا، ولكنه بالنسبة للأوروبيين تحديدا، فالوضع صادم إلى درجات لا تتصور. ففي نظام اقتصادي واجتماعي أوروبي قائم على الرفاهية والحرية الفردية، لم يجد بدا من أن يترك كبار السن يموتون في أبواب المستشفيات وفي ممراتها لكون فرص نجاتهم شبه منعدمة، هؤلاء المسنون الذي ساهموا عندما كانوا شبابا في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وبدل أن تمنح لهم الأولوية في الحياة لكونهم استحقوها عبر عقود من العمل، هاهم يقدمون كقرابين للموت. تماما مثلما كان يحدث في القرون الغابرة عندما كان يُدفن المرضى أحياء لتجنب العدوى.
فما يحدث الآن في إيطاليا وفرنسا كان يحدث أيضا قبل خمسة قرون عندما كان يُحمَّل المرضى بالطاعون والجذري في سفن ويتم إلقاؤهم في البحر، لأن أمل نجاتهم متعذر. والآن يتم التعامل مع كل مُسن نجا من كورونا على أنها “معجزة”، وهو أكبر دليل على حالة العجز التي توجد عليها الإنسانية اليوم. مع فارق مهم جدا، وهو أنه في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تفسر الموت بالأوبئة بالأديان والمعتقدات، فإنها اليوم لم تجد في العلم والتقنية ما يفسر هذا العجز، وما الكلام المنسوب لرئيس وزراء إيطاليا، والذي لم يستطع قبل يومين أن يحبس دموعه، عن انتهاء حلول الأرض وانتظار حلول السماء، إلا الوجه الأكثر مأساوية لحالة العجز هذه. وهل هناك مأساة أكثر من ألا يجد طبيب كمامة تحميه من فيروس يتربص بحيوات المرضى المتألمين؟ هل هناك مأساة من إجبار إنسان الذكاء الاصطناعي على المكوث في منزله مثلما كان يفعل أسلافه في المغارات والكهوف؟ وهل هناك أيضا مأساة أكبر من أن تطلب من إنسان أن يتنظف بدل أن تطلب منه “أن يفكر” أو “أن يخطط” أو “أن يعمل” أو “أن يبادر”؟
وارتباطا بسؤال النظافة. فلطالما سخر الإنسان الحديث من رؤية أسلافه للوقاية من الأمراض. ففي العصور الوسطى كانت قناعة عند عموم الناس وخاصتهم، بأن الأمراض تدخل عبر مسام الجلد، لذلك كانوا لا يستحمون ولا ينظفون أجسادهم لأن في درن الأجساد سلامتها من الأمراض. والأدب الكلاسيكي يحتفظ بصور تبدو لنا اليوم صادمة، للكيفية التي تعامل بها إنسان القرون الوسطى مع الوقاية، من قبيل بشر لم يمس الماء جسمهم منذ ولادتهم، وعاشوا طوال حياتهم وآثار سائل المشيمة أو ما يعرف بـ”السائل الأمينوسي” على جلودهم. اليوم لا مجال للاستمرار في هذه السخرية، فالإنسان الحديث ليس نظيفا كما يتوهم، وعليه أن يتنظف أكثر فأكثر، بل ويتوجب عليه أن يضع أسس اقتصاد جديد، سماه الكاتب الفرنسي جاك أطالي بـ”اقتصاد النظافة”. وها هو هذا الإنسان المعتد بنظافة جسده وملبسه وتغذيته ومطاعمه ومسكنه ومدنه وحدائقه يتعلم درسا قاسيا مفاده أنه كائن غير نظيف ويتوجب عليه أن يتنظف لينجو. لأن هناك كائنا مجهريا يتربص به الدوائر ليطيح بادعاءاته.
فإذا كانت الأوبئة هي التي تشكل وتعيد تشكيل العالم دائما، فإن السؤال الأهم الآن هو ماذا بعد وباء كورونا؟ وما هي معالم هذا العالم الجديد الذي سيولد بعد أن يخرج البشر من مخابئهم وقد دفنوا إلى الأبد أحباءهم وقناعاتهم وكبرياءهم أيضا؟
في هذا المستوى، ليست المشكلة في أن تنتصر الصين، وهي المنافس الاقتصادي الرئيسي لأوروبا، لكونها نجحت في ما فشلت فيه هذه الأخيرة، بل في أن تصبح كل قيم الإنسان الأوروبي سياسيا وحقوقيا وفكريا موضع شك. ويصبح عالم ما بعد كورونا عالما تحكمه أنظمة شمولية تعيد إحياء أفكار رماها العالم خلف ظهره منذ سقوط أسطورة “ديكتاتورية البروليتارية” في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
لذلك فالأمل الآن، ليس هو الحفاظ على شكل النظام العالمي الحالي، فهذا أضحى مستحيلا، فمثلما تحدث فرانسيس فوكوياما عن “نهاية التاريخ” بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن النهاية هذه المرة تحدث في هذه الأثناء، والسبب ليس فكرة كما قلنا أو نظرية أو مذهبا أو حدثا إنسانيا، بل وباء لا أحد يعرف طبيعته.
ومثلما كان منظرو العصر الحديث رومانسيين وهم يتلمسون الطريق بعد انهيار العصر القديم، ها هي البشرية الآن تتلمس طريقا جديدا عنوانه، ما أسماه جاك أتالي بـ”التعاطف”. وهي فكرة مغرقة في الرومانسية، لأن الواقع أكد أن العقلانية والعقلنة والعلم والتقنية مجرد فزاعات.