بقلم خالص جلبي
سألته عن زوجته حين اجتمعت به. كان آخر عهدي بهذا الصديق الوفي أن زوجته ما زالت في حالة سبات (Coma) فأجاب: اليوم عيد ميلادها الـ51. صديقي أحب امرأة ملأت عليه حياته، وأنجبت له، وفي حملها الأخير مع كل المراقبة الطبية وقعت كارثة أثناء الوضع. أذكر من كلية الطب قول أساتذتنا يجب على كل عائلة أن تعتبر أن الإنجاب هو بمثابة عملية جراحية نازفة، ويجب أن يتم بإشراف طبي، وأن تتم الولادة في المشفى؟ أذكر من والدتي قصة (ناصر حدة) وزوجته وكيف نزفت زوجته بعد الوضع والطبيب يوصي بإحضار عصير الطماطم على وجه السرعة والزوج يهرع إلى سوق مغلق مع نسمات الصباح يلتقط أنفاسه والزوجة تلفظ آخر أنفاسها. أنا شخصيا استدعيت أكثر من مرة لإنقاذ حياة نساء نزفن بعد الوضع وأصبحن على شفا الهلاك فأنقذتهن بيدي وأنا جراح الأوعية الدموية بربط الشرايين المغذية للمنطقة. أسأل ربي أن تكون في ميزان حسناتي يوم يقوم الناس لرب العالمين.
صديقي كان يراقب الوضع بحذر. فعل الرجل ذلك وهو الميسور ماليا، وحين جاءت لحظة الوضع اتصل بطبيبها المشرف عليها طوال فترة الحمل فكان غائبا. أخذها الرجل حسب نصيحته إلى مشفى جيد. ماذا حصل بالضبط أثناء الوضع؟ دخلت في حالة صدمة وفقد الوعي. كان سببه تخدير نصفي موضعي وهي الموضة الحالية كي تجرى عملية قيصرية للمرأة بدون فقد الوعي الكامل، وما حصل هو ما تجنبه المخدر فدخلت بفقد وعي كامل. ولدت ورأت ابنها وفي لحظات داهمتها موجة من بطء ضربات القلب (Bradycardia).. في هذه الحالة يتناقص ضخ الدم إلى الدماغ فيموت وفي دقائق معدودات لا تتجاوز الخمس دقائق.. المخدر الهمام يبدو أنه لم يكن موجودا بجنب السيدة في محنتها العظيمة ومحنة زوجها الذي ينتظر رؤية الحبيبة وابنها فرأى بدل ذلك أجنحة ملك الموت تطوق الغرفة. اشتد الصراخ خلف الطبيب المخدر المختفي لكن الوقت كان كافيا قبل أن يلحق المريضة فانصدم الدماغ بما لا رجعة فيه وهكذا دخلت الغيبوبة ولم تخرج منها حتى لحظة كتابتي هذه الأسطر الحزينة لصديقي الذي لم يستفق من الصدمة إلا بعد سنوات طويلات. أثناءها كانت مشكلة تربية الأطفال عند سيدة قفزت لتساعد في الكارثة. وهكذا سجيت الحبيبة في فراش المرض لا حية فترجى ولا ميتة فتنعى.
صديقي الذي تزوج عن حب فوجئ بزوجته في حالة من غياب الوعي. لم يصدق. تمت معالجة الوضع وعاد النبض والضغط عادي أما الوعي فتبخر وغاب.. هي توأم روحه. هي حبيبته وأم أولاده. فقد تحولت كما في قصة ارنست هيمنجواي (وداعا أيها السلاح) إلى عمود من لحم.
أتذكر قصة (تاج محل) فالملك أنجبت له حبيبته أكثر من عشرة أطفال بحالة سليمة، ولكنها في الحمل الأخير ماتت نزفا، فصدم وطاش لبه وبقي صامتا لا يتكلم، وأخلد إلى نافذة من بناء تاج محل الذي بناه للحبيبة وما زال على هذه الوضعية حتى اضطربت أوضاع المملكة فقد خسر مملكته الفعلية. تسلم ابنه مقاليد الحكم وترك والده غارقا في آلامه ووحدته القاتلة بفقدان توأم الروح.
علماء النفس يعرفون أن أعظم صدمة عاطفية يتعرض لها الإنسان هي فقدان الزوجة وبالعكس فقدان الزوجة لزوجها. أذكر من السيرة أن العام العاشر من البعثة عرف بعام الحزن حين فقد رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم خديجة فنزلت سورة يوسف ترمم الروح وتواسي الحزن.
نفس الشيء حصل معي مع خسارة زوجتي ليلى سعيد بعد عشرة 36 عاما. لم أكن أتصور أن يتألم الإنسان بهذا القدر مع خسارة توأم الروح لذا فهمت حزن الصديق وهو يتسلم الجثة الميتة الحية فيضعها في فراش الزوجية ويتأمل الجسد الذي تمدد بدون نهوض؟
قلت له كم أصبح لها في الرقاد قال 21 عاما وشهرين وخمسة أيام ما يعادل 7736يوما؟ تعجبت قلت بقي لك أن تقول أصبح لها في الرقاد كذا ساعة ودقيقة وثانية.
يا سبحان الله ماذا يفعل الحب وكم هو امتلاء خزان الوفاء للحبيبة عند هذا الرجل. لقد وظف لها ممرضتين تسهران عليها الليل والنهار تقلبانها مثل أصحاب الكهف وهم رقود تغسلانها وتنظفان من تحتها وتطعمانها وتلبسانها الجديد والأنيق كل نهار وليلة. في إحدى الليالي اصطحبني الرجل لأراها فعلا كانت شمسا مضيئة من الجمال وهي في هذا النوم الملائكي. حرك أصابع قدميها فضحكت ولكن لا كلام. هل هي معنا؟ هل تسمعنا؟ هل ترى حرص زوجها الرهيب أن يحافظ عليها ولو لحما بالشكل.
أتذكر من (مدام كوري) التي اندمجت مع زوجها إلى درجة دخولها في اسمه وعمله وهو الفرنسي وهي البولندية ولكن الحب لا يعرف إلا الحب؟ وحين نزل زوجها إلى الشارع لتصدمه عربة فيموت وضعت جسده أمامها مسجى أياما لا تصدق أنه فارق الحياة؟
هل الحياة نسمة عجيبة تتبخر بصدم ولسعة ونزف وفيروس وعضة كلب ونهشة مرض؟ ما هذه الحياة الهشة السريعة الزوال؟ مرور في لحظات فيقولوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين؟
نفس المنظر أتذكره من (جودت سعيد) حين فقد هالة فحفر بجنب قبرها حفرة آوى إليها عساه أن يلحقها إلى دار القرار فلا فراق؟
وفي قرية زوجتي المغربية ازباير حدثتني رحمة حماتي عن (فلاح) الذي خسر هنية وهي تلد للمرة الثالثة بتوأم بعد أن ولدت له فوزية وفاطمة فنزفت فماتت وماتت معها البنتان فما رأوا الحياة؟ فجن أبو فوزية وهام على وجهه سنوات؛ فعثروا عليه حطاما فقيرا بائسا جائعا وهو يردد ما من هناء بعد هنية.
صديقي مازال على عقيدته بعد مرور 21 سنة وشهرين وخمسة أيام أو 7736 يوما أنه سيأتي ذلك اليوم فتعانق حبيب الروح وتقبله وتقول الحمد لله الذي بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
أما في عالمنا الفاني فهي معجزة، أما الدار الآخرة فهو لقاء بدون فراق وحزن ومرض وغيبوبة بل لا يبغون عنها حولا وتلك الدار الآخرة أعدت للمتقين.