شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

في الحاجة إلى وقفة للتأمل..

 

مقالات ذات صلة

 

يونس جنوحي

 

بعض المشاركين في جمع بيانات المواطنين خلال عملية الإحصاء الأخيرة، تعرضوا فعلا لاعتداء جسدي. وهذا الأمر يستدعي التوقف عنده، بل وإخضاعه لدراسة اجتماعية ونفسية أيضا.

قد يُفهم سياق سرقة الأدوات التقنية التي استُعملت في عملية الإحصاء، ما دامت هذه العادة ضاربة في القدم منذ أيام الحواسيب الضخمة، التي اختفى بعضها من قلب الإدارات والجماعات المحلية، وفُتحت في شأنها تحقيقات لا يُعلم مصير بعضها إلى اليوم. لكن أن يتم الاعتداء على مواطنين مغاربة مُؤطّرين لإدخال بيانات المغاربة وطرح الأسئلة عليهم، فالأمر يعني أن هناك مغاربة معطوبون نفسيا إلى درجة أنهم يعتدون على مواطنين مثلهم، فقط لأنهم يطرحون الأسئلة.

قبل بداية الإحصاء، سرت إشاعات كثيرة مفادها أن الهدف الوحيد من وراء العملية، تحديد المستوى المعيشي للمواطنين، بقصد فرض الضرائب أو تقييم المؤشر الاجتماعي، وبالتالي الحرمان من المساعدات الاجتماعية التي تصرفها الحكومة للعائلات المغربية.

عندما نعود مثلا إلى حملات الإحصاء الأولى في المغرب، نجد أن الإدارة الفرنسية مثلا، في أول إحصاء للمغاربة، قبل أكثر من سبعين سنة، سجلت حالات فرار للمواطنين هربا من لجنة الإحصاء. ووقتها لم يكن المُستخدمون يطرقون أبواب المنازل، بل كانوا يجمعون الناس في الساحات والأسواق الأسبوعية ويجعلونهم يقفون في الطوابير، ثم يطرحون عليهم الأسئلة واحدا واحدا، إلى أن تنتهي العملية. والمغاربة الذين كانوا يقفون قرب الحاكم العسكري، أو المراقب المدني المسؤول عن المنطقة، كان المغاربة مثلهم ينظرون إليهم على أنهم خونة و«بياعة»، رغم أن مهام بعضهم لم تكن تتجاوز الترجمة، وآخرون منهم كانوا يقفون في صف المغاربة مثلهم ويدافعون عنهم أمام المُراقبين.

الإحصاء كان في ذلك الوقت لا يختلف في شيء عن حملات التلقيح ضد الجدري والحصبة والُسل.

وعلى ذكر السل، فحملة الإحصاء الأخيرة، بحسب ما يفسره متخصصون في الأوبئة، مناسبة موسمية لمعرفة العدد الحقيقي للمغاربة المصابين بأمراض مزمنة، من بينها السُل، لا يخضعون لأي علاج حكومي لمواجهتها.

معظم المغاربة اليوم لا يُدركون أن المرضى بالسل يتجولون بيننا، ويعيش معظمهم في الأحياء العشوائية والمساكن التي لا تتوفر فيها شروط التهوية، ولا تدخلها الشمس. وما أكثرها بطبيعة الحال..

وهؤلاء المرضى لا يتوجهون إلى أي مركز صحي للتزود بالعلاج، رغم أنه مجاني. بعد انتهاء الإحصاء، قد توفر المندوبية قاعدة بيانات جديدة ومُحيّنة، تُسلم إلى وزارة الصحة للعمل على إخضاع المصابين، الذين لا تعلم الوزارة أنهم موجودون أصلا، لنقلهم إلى أقرب المراكز الصحية، للحد من انتشار الإصابة بين المغاربة الصامتين.

بالعودة إلى موضوع الإحصاء، فإن المرة الوحيدة التي أحصت فيها فرنسا المغاربة، عُرضت الأرقام وكانت صادمة، إذ إن سكان المغرب تضاعف عددهم أكثر من أربع مرات، واقتربوا لأول مرة في تاريخ المغرب من 9 ملايين نسمة. وبعد الاستقلال، كان المغرب على موعد قار مع حملات الإحصاء. وبقيت تلك المناسبات شبه مقدسة، لكن المغاربة لم يبارحوا العادات القديمة التي ورثوها عن فترة الحماية، وهي التهرب من الإجابة عن الأسئلة وتضليل المراقبين، حتى بعد أن أصبح المشاركون في الإحصاء يطرقون عليهم باب المنزل ويشربون معهم الشاي، وقد يُصلون معهم في المسجد، أو في قلب الدار. ولم يشفع هذا التقارب لتغيير المفهوم العام، خصوصا في الأوساط الهشة التي تنتشر فيها الأمية، وبقيت العادات الاستعمارية الموروثة عن طوابير الأسواق الأسبوعية، سارية المفعول إلى اليوم.

استعمال سيارة الإحصاء في النقل السري، وحتى اختفاء المعدات والتلاعب بالفواتير، كلها عادات تدخل في إطار عقلية «استغلال الظرفية»، التي لا يحتاج ممارسوها إلى انتظار «فرصة» الإحصاء، لكي يزاولوا هوايتهم المفضلة المؤدية مباشرة إلى السجن، لكن الاعتداء على المشاركين في جمع البيانات، يحتاج فعلا إلى دراسة، ووقفة تأمل.. هل نحن فعلا بخير؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى