شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

في أدب الرسائل وفن الترسل

إعداد وتقديم: سعيد الباز

مقالات ذات صلة

 

كانت لأدب الرسائل أهميته الخاصة منذ القدم وحتّى عصرنا الحاضر. ولعلّ ميزة هذا الأدب تكمن في إتاحته للكثير من الكتاب والكاتبات أن يوطّدوا علاقاتهم بغيرهم من الكتاب والمفكرين وأن يتناولوا من خلالها بعضا من انشغالاتهم وهمومهم الشخصية والأدبية. إضافة إلى ذلك نجدها تمتد خارج هذا النطاق إلى مستوى اجتماعي وعائلي من خلال الأهل والأصدقاء… وأحيانا إلى علاقاتهم العاطفية المعلنة أو الخفية. لكن الأهم من ذلك كله أنها اتسمت دوما بروح الإبداع والكتابة الأدبية عموما، ولها، فوق ذلك، ارتباط قوي ووثيق بمنجزهم الإبداعي، وتكشف لنا وجها آخر لحياتهم وكتاباتهم من زاوية مغايرة وغير معتادة.

 

عبد اللطيف اللعبي.. يوميات قلعة المنفى

كتاب «يوميات قلعة المنفى» للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي عبارة عن رسائل في أغلبها موجهة إلى زوجته جوسلين التي ساندته في محنته خلال فترة اعتقاله من سنة 1972 إلى سنة 1980. في هذه الرسائل نعيش أطوار فترة اعتقاله في مقاطع نثرية مسترسلة تمزج بين التفاصيل الدقيقة لحياة المعتقل والتأملات في الكتابة والحياة يضبطها نفس شعري يتراوح بين الخفوت حد الهمس، والقوة أحيانا حد الصخب، وتتخلله بين الفينة والأخرى نبرة ساخرة مفعمة بالحزن والمرارة.

هذه الرسائل تختلف في مواضيعها لكنها تبرز تفاؤل الكاتب وصلابة مواقفه ووضوح رؤيته، فيكتب، على سبيل المثال، إلى زوجته جوسلين: «زوجتي الحبيبة، الأسر يمتد، ثلاث سنوات متبقية، قصيرة وطويلة في آن واحد، الحريّة أصبحت أقل تجريدًا، وبالتالي أكثر إغراءً… لا يمكن للمرء أن ينزع من ذهنه العد العكسي… لا يصل الأمر إلى الفكرة الثابتة بالطبع، ولكنّ الزمن يتأنسن، والمسيرة تصبح وئيدة… شيء وحيد أصبح أكيدًا، هو أنّي كلّما فكرتُ في ما بعد المنفى، لا يشغل بالي أبدًا ماذا سأصبح أنا، وإنما ماذا سنصبح نحن، وطننا، رجاله، عالمنا». أو إلى ابنيه ياسين وهند: «السجن ليس أمرًا خطيرًا، فكثير من الناس مثلي، في كل البلدان، ومنذ زمن بعيد، دخلوا السجن… هؤلاء الناس مثلهم مثلي كانوا يعملون دائمًا ليتمكن كل الرجال والنساء والأطفال أن يأكلوا جيّدًا، وكي لا يرتدوا ملابس وسخة وممزقة، وحتى يجدوا منزلًا نظيفًا وصلبًا وفيه ضوء… عندما نعمل من أجل ذلك، يكون السجن نصيبنا أحيانًا، لأن الناس الأغنياء لا يقبلون ذلك، وإلا فإنهم سيصبحون أقل غنى… على كل حال، سوف تفهمان هذه الأمور شيئًا فشيئًا، كما ستفهمان أشياء أخرى أكثر تعقيدًا، وأنا متيقن من أنكما أنتما كذلك ستدافعان عن الناس الفقراء، لأنني أعرف فيكما قلبيكما الكبيرين». أحيانا يكتب عبد اللطيف اللعبي إلى زوجته عن حياته في السجن: «… لقد كان ذهني شاردًا منذ يومين… لم أفعل شيئًا، ما عدا غسل ثيابي وترتيب زنزانتي ونفض الغبار… يمكنكِ أن تتصوري الطاقة التي أبذلها في مثل هذه الحالات… تذكرين عندما كنت أقلّب المنزل على عقبه، لا أترك شيئًا في مكانه، خصوصًا الغبار والأوراق القديمة… كنّا نغيّر بغبطة كل شيء في المنزل، نبدّل الأثاث والتحف من أمكنتها… كنتُ شخصيًّا أشعر بنشوة حقيقية وأنا أقوم بذلك (…) عندما نعيش هذه التجربة، ندرك أحسن من ذي قبل حجم العمل المضاعف الذي تقوم به النساء، أي استغلالهن المضاعف، والاستنزاف المفروض عليهن، هذا مع العلم أن هذه الأشغال لا تشكل إلا جزءًا يسيرًا من الأعباء التي تثقل كاهلهن». ومرة أخرى يكتب واصفا زنزانته بأسلوب ساخر: «معتقل! ما معنى ذلك؟ زنزانة لها تمام صفات الزنزانة: متران ونصف (طولها) متر ونصف (عرضها). إنه تكعيب قانوني على ما يبدو. جدران مجيرة بشحة. زجاجة ترشح ببؤس… مدفونة في الجدار، محفوظة في زجاج… مرحاض تقليدي وفوقه صنبور من النحاس. النافذة الصغيرة القانونية وبها قضبان من النوع الجيد، لا تقل عنها قانونية في سمكها المحترم. رف صغير (يا للبذخ !) يمكن «للنزيل» أن يرتب عليه حوائجه. قبالتنا الباب الرمادية بفتحتها المغلفة بنظام إغلاق حاذق يتكون من صفيحة معدنية ذات مزلقة هي نفسها متقنة بنظام إغلاق آخر مركب من خيط حديدي يمرّ بحلقة عند منتصف الصفيحة ليجمدها في الأسفل. لنا في الأخير مصطبة على شكل بناء مطلي بالإسمنت يحتل بفخامة نصف الفضاء ويستقبل الفراش. هنا يعتلي النزيل عرشه. ينام، يحلم بكوابيسه، وفي بعض الحالات يقرر الانتحار بعدما يتيه في سرداب من الهذيان والاستدلالات الغامضة. نحن طبعا في «السجن المركزي» جوهرة العقد بين معتقلات بلاد الشمس».

 

آرثور رامبو.. رسائل عدن

ما الذي يجعل شاعرا بحجم آرثور رامبو (1854-1891) Arthur Rimbaud أحدث ثورة هائلة في الشعر العالمي وعمره لم يتجاوز العشرين سنة، أن يتخلى عن الشعر بعد ذلك وبصفة نهائية، وأن يحزم حقائبه باتجاه الشرق تاجرا للبُن أو البخور والسلاح أحيانا. مغامرات خطيرة قادته إلى الحبشة ونواحيها لكن ظلت مدينة عدن اليمنية نقطة الانطلاق والعودة وفيها حرر العديد من الرسائل إلى أهله وأصدقائه في فرنسا. في هذه الرسائل لم يكن يتحدث عن الشعر أبدا، كان هوسه منصبا على جمع المال من أجل تأمين حياته المستقبلية مع قناعة أساسية بأن محاولته تلك كانت يائسة وأن مصيره سيكون مأساويا أكثر من حياته نفسها أو كما قال: «تعبت كثيرا من الجري في هذا العالم، دون جدوى». مات رامبو بسبب قدمه التي تورمت إلى حد أصبح من الضرورة بترها، لكن الورم سرى في جسده. وكان الشاعر فرلين محقا في قوله: «لقد متّ الميتة التي أردتها. زنجيا أبيض، رائع التمدن».

من مقتطفات رسائل آرثور رامبو من عدن:

«… أنا في صحة جيدة في هذا البلد القذر. استخدموني من جديد، لسنة قادمة، حتى نهاية 1885. ولكن من الممكن أن يجري إيقاف هذه الأعمال التجارية، مرة أخرى، قبل نهاية العقد. ساءت أحوال هذه البلدان منذ أحداث مصر. عملي هنا يقوم على شراء القهوة… وشراء أمور أخرى الصمغ، البخور، ريش النعام، العاج، الجلود المجففة إلخ… لا أرسل إليكم صورتي الفوتوغرافية، لأنني أتجنب بعناية المصاريف غير المجدية. على أية حال ما زلت سيّئ الهندام، لا يمكننا ارتداء غير الألبسة القطنية الحقيقية هنا، والناس الذين أمضوا عدة سنوات هنا، ما عاد يمكنهم تمضية الشتاء في أوروبا، سيقضون نحبهم لاحقا بنزلة صدرية. إذا عدت، فلن يكون ذلك إلا في الصيف، وسأكون مضطرا للنزول من جديد صوب المتوسط في الشتاء على الأقل. لا تأملوا في سائر الأحوال بأن يصير مزاجي أقلّ تشردا، بل على العكس من ذلك. لو كان في مقدوري أن أسافر دون أن أكون مجبرا على الإقامة للعمل ولكسب لقمة العيش، لما كان يراني أحد شهرين في المكان نفسه. العالم كبير جدا ومليء بالأماكن الرائعة التي تحتاج إلى أكثر من ألف رجل لزيارتها كلّها. ولكن لا أريد، من جهة أخرى، أن أتصعلك في البؤس. أريد أن يكون في حوزتي بضعة آلاف من الفرنكات من العائدات، وأن أقضي السنة في مكانين أو ثلاثة، أعيش حياة متواضعة، عاقدا بعض العمليات التجارية لتغطية مصاريفي. ولكن أن أعيش في المكان نفسه فإنني أجد هذا الأمر بائسا جدا. ختاما، إنّنا نتجه، في الأرجح، إلى حيث لا نريد، ونعمل ما لا نرغب بعمله، ونعيش ونموت بطريقة مختلفة دائما عن الطريقة التي رغبناها، دون أمل في التعويض من أيّ نوع كان. أمّا عن نسخ القرآن، فإنني استلمتها منذ وقت بعيد، منذ عام على وجه التحديد. أمّا عن الكتب الأخرى، فقد جرى بيعها فعلا، عندي رغبة لإرسال بعض الكتب إليكم، لكنني أضعت أموالا كثيرة في هذا الأمر.

عدن 15 يناير 1885

 

… لا عمل هنا راهنا، فالبيوتات الكبرى التي كانت تزوّد الوكالات التجارية هنا ببضائعها، أفلست كلّها في مرسيليا. من جهة أخرى، الحياة هنا باهظة الثمن لمن ليس مستخدما، والإقامة مضجرة بكيفية ظالمة، خاصة من بداية الصيف. وأنتم تعلمون بأنّ الصيف هنا هو الأكثر حرارة في العالم أجمع. لا أعرف أبدا أين يمكنني أن أكون بعد شهر. في حوزتي مبلغ يتراوح بين اثني عشر ألف فرنك وثلاثة عشر ألف فرنك، وبما أنّنا لا نستطيع أن نعهد بشيء لأحد هنا. فإننا مجبرون على جرجرة أموالنا خلفنا ومراقبتها دوما. وهذا المال الذي يمكنني بواسطته أن أضمن لنفسي دخلا متواضعا وكافيا لإعالتي دون أن أضطر إلى العمل أبدا. لا يجلب لي شيئا سوى المضايقات الدائمة.

أيّة حياة بائسة أسوقها تحت هذه المناخات المجنونة، وفي هذه الظروف الحمقاء. كان يمكنني، بما ادخرت من أموال أن أضمن دخلا متواضعا وأكيدا. وأن أعرف الراحة قليلا، بعد سنين طويلة من العذابات. لولا أنّه على العكس من ذلك، لا يمكنني أن أتوقف عن العمل، ولو ليوم واحد، ولا أن أسعد بما جنيته من أرباح. لا تتسلم الخزينة هنا إلّا الأمانات، ودون فوائد مالية وبيوتات التجارة ليست قوية أبدا. لا أستطيع أن أعطيكم عنوانا لي جوابا على طلبكم، لأنني أجهل شخصيا، وبصفة تامة، المكان الذي سأجد نفسي منقادا إليه قريبا، والطرق التي سأسلكها، ووجهة السير، وسبب ذلك وكيفيته.

قد يلجأ الإنجليز إلى احتلال «هرر» قريبا، وقد أعود إليها. يمكنني القيام بتجارة بسيطة هنا، ويمكنني ربما شراء حدائق ومزارع فيها، والسعي للعيش بهذه الطريقة. لأنّ مناخات «هرر» والحبشة الرائعة، أفضل من مناخات أوروبا، والحياة فيها غير مكلفة أبدا، والتغذية جيدة والهواء ناعم. بينما توهن الإقامة في شواطئ البحر الأحمر أعصاب الناس الأقوياء، وسنة واحدة من الشيخوخة هنا تساوي أربع سنوات هناك. حياتي هنا، كابوس حقيقي إذن. لا تتصوروا أبدا أنني أقضي حياة ممتعة على العكس من ذلك أعتقد دائما أنّه يستحيل العيش بمشقة أكثر مني.

إذا استعدنا العمل هنا في وقت قريب، فهذا يعني أنّ الأمور تتحسن أكثر فأكثر: لن أبدد أموالي في مخاطر المغامرات. في هذه الحالة سأبقى أطول فترة ممكنة في هذا الثقب الشنيع بعدن. لأنّ المشاريع الشخصية خطرة جدا في أفريقيا، في الجهة الأخرى.

اعذروني لسردي متاعبي عليكم. لكنني أتحقق من أنني سأبلغ الثلاثين من عمري (منتصف حياتي)، ومن أنني تعبت كثيرا من الجري في هذا العالم، دون جدوى»

عدن 5 ماي 1884

 

الرسائل.. والوجه الآخر للحياة

 

شكّلت الرسائل العاطفية حالة نادرة في الثقافة والأدب العربيين منذ رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، لذلك كانت هذه الرسائل تُنشر غالبا متأخرة عن زمنها الحقيقي، وعادة ما تقابلها ردود الاستهجان والرفض، رغم قيمتها الأدبية. لكن إقدام الكاتبة الروائية غادة السمّان على نشر رسائل كل من غسان كنفاني وأنسي الحاج الموجهة إليها، كشف وجها آخر لحياة هذين الكاتبين، حيث أبرزت لنا نصوصا أدبية تعد امتدادا لإبداعهما الروائي والشعري. إضافة إلى أنها تلقي الضوء على تفاصيل ظلت مجهولة عن حياتهما الخاصة.

 

غسان كنفاني.. إنّ قصتنا لا تُكْتب

لا.. أنتِ تعرفين أنني رجل لا أنسى وأنا أعْرفُ منك بالجحيم الذي يطوّق حياتي من كلّ جانب، وبالجنة التي لا أستطيع أن أكرهها، وبالحريق الذي يشتعل في عروقي، وبالصخرة التي كُتب عليّ أن أجرّها وتجرّني إلى حيث لا يدري أحد… وأنا أعْرفُ منك أيضا أنّها حياتي أنا، وأنّها تنسرب من بين أصابعي أنا، وبأنّ حبّك يستحق أن يعيش الإنسان له، وهو جزيرة لا يستطيع المنفيّ في موج المحيط الشاسع أن يمرّ بها دون أن… ورغم ذلك فأنا أعرف منك أيضا بأنني أحبّك إلى حد أستطيع أن أغيب فيه، بالصورة التي تشائين، إذا كنت تعتقدين أنّ هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة، وبأنّه سيغيّر شيئا من حقيقة الأشياء. أهذا ما أردتُ أن أقوله لك حين أمسكتُ الورقة؟ لستُ أدري… ولكن صدقيني يا غادة أنني تعذبتُ خلال الأيام الماضية عذابا أشكّ في أنّ أحدا يستطيع احتماله، كنتُ أُجلد من الخارج ومن الداخل دونما رحمة وبدت لي حياتي كلّها تافهة، واستعجالا لا مبرر له، وأنّ الله وضعني بالمصادفة في المكان الخطأ لأنّه فشل في أن يجعل عذابه الطويل الممض وغير العادل لهذا الجسد، الذي احتقر فيه قدرته غير البشرية على الصلابة، ينحني ويموت… إنّ قصتنا لا تُكتب، وسأحتقر نفسي لو حاولت ذات يوم أن أفعل، لقد كان شهرا كالإعصار الذي لا يُفهم، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبدها إلى حدّ الجنون وكنتُ فخورا بك إلى حدّ لمت نفسي ذات ليلة حين قلتُ بيني وبين ذاتي أنّك درعي في وجه الناس والأشياء وضعفي، وكنتُ أعرف في أعماقي أنني لا أستحقك ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيك حبّات عينيّ، ولكن لأنني لن أستطيع الاحتفاظ بك إلى الأبد.

 

أنسي الحاج.. جنوني نقيض جنون العالم

أين أنتِ الآن؟

العالم الحقير كبير وشاسع. البرد واقف في قلبي. المدينة؟ المدينة لفظة أدبية حلوة إلى حين. أمّا أنا فلم يعد يخرق رأسي لفظة واحدة. كأنّني شبّيت وراهقتُ وكهلتُ وهرمتُ في لحظة واحدة. العالم كلّه تحت حذائي، لكنّي لا أستطيع أن أقوم من فوقه وأذهب.

ماذا تفعلين الآن؟ نمتِ؟ هنيئا، أتساءل كيف تقدرين؟ أحسدك. أحيانا يُخيّل إليّ أنني لا أعرفك. أحيانا أكرهك. أحيانا كثيرة أحتقر نفسي لأنّني أكلّمك عن نفسي. وأحيانا كثيرة أقول إنني أظلمك. وأحيانا كثيرة يتولّاني من جديد أمل أعمى بأن تستجيبي إليّ. وأحيانا آخذ هذا الأمل معي إلى الفراش، فجأة، وقبل أن يفتح عينيه أغفو عليه…

هل فقد العالم عقله؟ ربّما.

أنا أيضا أحبّ، لكن بشكل آخر. إنّ جنوني نقيض جنون العالم.

وسأكون، في هذا العالم المجنون، العاقل الوحيد.

شكري وبرادة في «ورد ورماد»

يقدّم لنا الكاتب المغربي محمد برادة، في كتاب «ورد ورماد» الذي يجمع رسائله المتبادلة مع محمد شكري في فترة ممتدة ما بين سنتي 1975 و1994 بقوله: «لفت نظري خلال محادثتنا التي امتدت إلى ساعة متأخرة من تلك الليلة، أنّ شكري أبعد ما يكون عن الصورة التي يرسمها له المعجبون. كان رزينا في حواره عقلانيا في حججه، جريئا في طروحاته ونقده. لمّا يقرأ لم يكن مشدودا إلى «أسطورة» ماضيه. بل كان مفتح العينين على حاضره. يعيش أقرب ما يكون إلى الواقع المعقّد المتسارع في تحولاته وأعجبني أنّه لم يكن يلغي ذاته وهو يتحدث أو يختبئ وراء العبارات الأدبية التي يلجأ إليها كثير من المثقفين. منذ ذلك اللقاء، أخذت أواصر الصداقة تنتسج بيننا واقتنعت بأنّ تجربة شكري في الحياة والكتابة تستحقّ أن تُعرف وأن تُقرأ لأنها تمتح من نسوغ غير مألوفة في كتابات وتجارب زملائنا الآخرين. الأهم من كل ذلك، أن الحوار امتد بيني وبين شكري خلال اللقاءات ثم عبر الرسائل لأنني وجدت فيه محاوراً قريباً إلى النفس، متصفاً بالتلقائية والصراحة. وكان يخيل إليّ، ولعلي كنت مخطئاً، أن شكري يحتاج إلى من يذكره بضرورة الاستمرار في الكتابة لمقاومة تفاهة المحيط الذي كان يعيش فيه. لكنني، وأنا أعيد قراءة الرسائل الآن، وجدت أن إلحاحاتي هي أيضاً نوع من التذكير لنفسي بأن الكتابة أهم من النشاطات السياسية والثقافية التي كنت مشدوداً إليها… وأظنّ أنّ كتابة الرسائل تستجيب للحظات جد حميمة نستشعر فيها رغبة البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع وللأسف أنّ تقاليدنا في المراسلات بين الأصدقاء المبدعين قليلة إن لم تكن منعدمة. من ثم وجدتُ، ومعي الصديق شكري أنّ نشر هذه الرسائل… قد تكون مضيئة لبعض التفاصيل التي التقطتها الرسائل وهي في حالة مخاض. وقد ترسم ملامح أخرى لا يتسع لها النص الإبداعي». أمّا رسائل محمد شكري، فرغم قلتها وقصرها مقارنة مع رسائل محمد برادة، فتحمل لنا صورة عن صراع محمد شكري الدائم في مواجهة أزماته المادية ومشاكله مع دور النشر المتعددة، وخوفه من نضوب معين الكتابة لديه واستسلامه لحياته الصاخبة. يقول في إحدى رسائله إلى محمد برادة: «تصالحتُ مع طنجة لأنّي تصالحتُ مع نفسي. لو أنني انتقلتُ إلى الرباط لهويت في جحيمه… لا أتعلّق بماضي إلّا عندما يخونني حاضري. هذه هي مشيئتي وسط الكلاب المبتورة الأذناب والآذان والقطط الليلية الولود.

بالأمس كان يعجبني الليل البرّاني أمّا اليوم فكفاني الجوّاني. إنني الآن أتماسّ معه وأحاول أن أغوص فيه حتّى لا تُسْمع للطعنة صرخة. مذاق هذا الكونياك الإسباني مثل مذاق الدفلى في العسل. لقد اشتقتُ إلى المراهم. لكنّي فقير بعدما قلّت أموال الخبز الحافي من «ماسبيرو». كلّ السكارى تنكروا لي إلّا الذين مازالوا يثملون بخمرتي… لكنّ تقاعدي عن العمل سيقوقعني بعيدا عنهم. سأسافر في كتبي، وأوراقي وموسيقاي. إذا أن تتوحد فما عليك إلّا أن تعيش فترة مع الأشرار والأغبياء. حينئذ ستكون لك تلك القوة الخفية التي تقهرهم وتجعل لك موعدا مع من تحبّه من المتّاب أو تسافر إلى بالي وجاوة، لقد انقطع التيار الكهربائي، فأشعلتُ شمعة. إنّ الشمعة لا تخون». وفي رسالة أخرى يصف عالمه الداخلي بين الكتابة والقراءة: «أنا ماض في استنساخ القصص الست مضروبة على الآلة، اخترت 18 قصة، الأخرى مزقتها. اثنتان منها نشرتا: «بائع الكلاب» في مجلة الآداب عام 69 و«الجنين لم يتحرك» في مجلة 2000، أيضاً مزقت رواية «الليل والبحر» التي كتبتها سنة 66، احتفظت بفصل منها، سأحوله إلى قصة قصيرة بالعنوان نفسه. هل يتنكّر الإنسان حتّى لنفسه؟ نعم، وحتّى الموت!

إنني أطهر نفسي. الكتب تنام معي. عادة اكتسبتها منذ سنين. القراءة والكتابة في الفراش. «مذكرات اللص» لجان جنيه أعيد قراءتها بالفرنسية والإسبانية. كذلك أقرأ «تاريخ العلم» لجورج ساتورن، «شعراء المدرسة الحديثة» لروزنتال، مجلة عالم الفكر العدد الخاص بالزمن. و«قصائد حب على بوابات العالم السبع» للبياتي. غارق في القراءة، لكن الإحساس بالكتابة لم يغزني بعد».

 

 

رفّ الكتب

               

أسطورة أغونشيش وحياته

تعدّ رواية «أسطورة أغونشيش وحياته» من أجمل أعمال محمد خير الدين الإبداعية الحافلة بأحداثها وشخصياتها المثيرة، بداية من بطلها أغونشيش الذي استوحاها خير الدين من ذاكرته الأسرية. هذا البطل طالب ثأر والمطارد في زمن «السيبة» ما بين مدينة تزنيت وتارودانت يواصل تمرده لكن توغل الاستعمار في الجنوب المغربي جعل أغونشيش يدفن سلاحه ويرحل إلى الدار البيضاء ليذوب في هذا العالم الجديد ويضرب صفحا عن الماضي رغم يقينه أنّه سيلاحقه ما دام حيا، وكما يقول: «لقد أنبأه أسلافه من قبل بأن الأموات سيظلون يرافقونه حيثما حلّ ومضى، ولن يستطيع منهم إفلاتا.» من أجواء الرواية نقرأ: «لقد قرر أغونشيش، علما بأنّ ذلك الشتاء سيكون قاسيا جدا، الذهاب إلى تزنيت. ألقى نظرة أخيرة مفعمة بالمرارة على الوادي الذي ولد فيه، وصرّ أمتعته في بطانية أثبتها على ظهر بغلته، ومضى في طريقه. كان يعرف أكثر منعرجات الجبل خفاء… وهكذا قال في نفسه بأنّه لن يتعرض للالتقاء بالرعاة أو متشردين منعزلين.

سيتفادى القرى المتاخمة للطريق التي شقّها جنود اللفيف الأجنبي مؤخرا، ويتبع سبيل الذُرى، وفي الليل سينام كعادته في العراء. لكن يلزمه أن يحصل على العلف والماء لمطيته، ولم يقلقه ذلك، فهو يستطيع أن يدفع الثمن دون نقاش.

وصل إلى تزنيت بعد أربعة أيام من المشي، لم يكن بعدُ قد رأى قط هذه المدينة التي امتُدحت له بطلاوتها وبهائها، وقد تعلّق ناظراهُ طويلا بأسوارها، يقال إن مؤسستها كانت مومسا تائبة، وقد جاءت من الصحراء مصحوبة بكلبة. كانتا مائتتين من العطش منذ ساعات.

وفي لحظة ما، اختفت الكلبة قبل أن تعود في النهاية مبللة عن آخرها، اقتادت مالكتها دون إبطاء إلى موضع فيه عين ثرّة نقية، إذاك شطبت المومس السابقة على ماضيها الفاسق، وأقامت في ذلك المكان وصارت متورعة لا غبار عليها. لم يتمكن أحد من التحقق من هذه الحكاية الأسطورية لكن أغونشيش كان يؤمن بها كما يؤمن بوجود الكائنات الخارقة وقوى الظلام المستترة التي حفظته على الدوام من وشيك الدمار.

لدى وصوله، اكترى غرفة في نزل مقابل ساحة المشور، كانت هذه الساحة المستطيلة الشاسعة تستقبل أخلاطا من البشر في مطاعمها الحقيرة وغرفها المفروشة المتواضعة، هنالك يأكل المرء حتى الاكتفاء بلا شيء تقريبا، ورغم جدّة الشاحنات والحافلات على الناس، فقد كانوا يؤثرون السفر على ظهور البغال أو الحمير حاملين أمتعتهم على الجمال. كان المتدينون أو المتطيرون يرون في المخترعات الحديثة تجليا للشيطان، وكانوا يقولون إنّ الفرنسيين جلبوها هنا لتضليل المؤمنين وتضخيم صفوف الكفار.

… أخيرا استطاع أغونشيش أن يتنفس الصعداء. كان مقتنعا بأنه بات في مأمن من مطارديه لردْحٍ من الزمن، بل صار يفكّر جدّيا في مستقبله، حقا أنّ لديه ما يكفي من المال ليعيش سنة أو سنتين، لكن ماذا بعد ذلك؟ كان يقول لنفسه لم يكن واردا أن يصير لصا قاطع طريق. لقد انتهى الانشقاق إلى غير رجعة «مضى الوقت الذي كانت لي فيه كلّ الحقوق على أعدائي، إذن؟ أأصير تاجرا مثل بقية التجار؟ هل أستقر في مكان ما في الشمال أم أغادر إلى الجزائر أو تونس؟ يقال فعلا بأنّ ثمة الكثير ما يُفعل هنالك، وعلاوة على هذا، فلا أحد يعرفني في تلك البلاد». كانت هذه الأفكار تذهب به بعيدا أحيانا إلى حدّ أن ينسى في النهاية أنّ مصيره مغاير لأيّ مصير آخر، «وماذا ستقول العائلة إذا ارتحلت دون إخطارها بالأمر؟ سيقولون: إنّه مفقود… وستذهب النساء إلى سيدي عبد الجبار للدعاء مناديات إياي على صخرة، سينقبن في أحلامهن لمعرفة ما إذا كنت سأعود بعد اختفاء طويل أو كنت ميتا. لا! ليست العودة إلى القرية ضرورية، بل سيكون ذلك من باب التهور!»

في هذه المدينة العاجّة بالخلق، لم يكن له صديق يركن إليه، لم يكن يكلّم أحدا أو يجلس إلى منضدة حولها آخرون. لقد حاول صاحب النزل أن يسبر أغواره ليعرف من هو ومن أين يجيء، لكن أغونشيش تلافى كلّ مناقشة، ومذاك لم يعد صاحب النزل إلى مضايقته، لم يكن لأغونشيش أوراق شخصية، وما كان أحد يملكها وقتها، كان إذن مطمئنا من هذا الجانب، لم تكن السلطات تُرسل أعوانا إلى الأماكن العمومية، وبالنسبة لها فإنّ الذين يمرون من هذه المدينة متسكعون يجب إجبارهم عاجلا أو آجلا على العمل، «ليس هناك خير من بيداء بني آدم هاته للتخفي، كرّر أغونشيش لنفسه، هنا على الأقل، يشعر الإنسان بأنه وحيد حقا. الوقت كله متوفر للتخطيط للمستقبل، لو بقيت في الجبل لكانت بغلتي قد ماتت من القرّ، وأجهل ما كنت سأصير إليه أنا نفسي. هنا، آكل حتّى الشبع، وأرى مشاهد طريفة: أتلقن أصول حياة أخرى، ليس ثمة طارئ، لكن عليّ أن أبقى يقظا. هنالك ما أخشاه من ناحية السيارات أكثر منه من جهة البشر، هذه الماكنات التي تدهسك ككلب أو تجعل منك كسيحا، وهو الأدهى، فأن يموت الشخص أفضل من أن يصير مقعدا مثل هؤلاء الشحاذين الذين يغزون مداخل الحوانيت».

(المقاطع من ترجمة مبارك وساط)

 

مقتطفات

 

حياة الصورة وموتها

عُرِف الكاتب الفرنسي، ريجيس دوبري Régis Debray، المفكر والمثقف الموسوعي ورفيق سابق للزعيم تشي غيفارا، وصاحب «الميدولوجيا» أو علم الوسائط، بانتقاده الشديد للرأسمالية ومجتمع الاستهلاك والصورة، ربط في تحليله ودراساته بين الفلسفة والدين والسياسة والفن الروائي… لإبراز مدى التأثير الكبير لوسائل الإعلام والاتصال على مجتمعاتنا المعاصرة.

في «حياة الصورة وموتها» يلخّص المؤلف موضوع كتابه واستنتاجاته الخاصة بقوله: «لنلخص الآن. في عصر الخطاب، الذي جاء بعد ابتكار الكتابة، كان ما موجود فعلا هو ما هو غائب. فقد كان الارتياب يختص بالمرئي، هكذا كان الأمر مع الثقافة المصرية القديمة والإغريقية والبيزنطية والوسيطة، وذلك أمر الثقافة البوذية اليوم، ومعها الثقافة الهندوسية والإحيائية. فالرب لا جسم ولا وجه له في ديانتين من الديانات التوحيدية الثلاث. إنّه كلمة، لذا فإنّ إعطاءه صورة يعتبر جُرما وحمقا. أمّا في الديانة الثالثة، أي المسيحية، على الأقل في صيغتها الكاثوليكية، فإنّ الصورة المادية للإلهي ظلت قابلة للتفاوض. ومع عصر الأشكال الذي تأسس على المطبعة، استعاد المرئي كرامته، لكن باعتباره عرضا مسكونا ومنظما من قبل ضرورة يمكن التوصل إليها منطقيا عبر الخطاب أو التجريد. يقول ديكارت بهذا الصدد: (إنّ أفضل شخص مؤهل لممارسة الهندسة هو الأعمى)، فقد كان الاعتقاد سائدا بأنّ العالم يُفسّرُ بما يخفيه عنّا). ففي هذا العصر، وكما يقول ليفي ستراوس، تعيّن «الحقيقة نفسها بالجهد الذي تبذله في إخفاء نفسها عنّا).

أمّا في عصر الشاشة فيؤكد هذا الإخفاء ما هو خاطئ وهشّ ليتجه الشك والارتياب جهة ما لا يقبل الملاحظة. فما لا يقبل الرؤية لا يتمتع بأيّ وجود. وبذلك تبخّرت الكائنات اللفظية، تلك الأشياء التي لا توجد إلّا بالقول، وتلك الأساطير الخالصة التي عليها تأسس الواقع القديم، أعني مثلا: الأمة، والطبقة، والقانون، والجمهورية، والواجبات، والتقدّم، والصالح العام، والكوني، والعدالة، والدولة… إلخ. إنّها الأعمدة «المجردة» (التي كانت مع ذلك فعلية) للمحسوسات المزيفة التي تحيط بنا والتي لن «تظهر» بالمقابل على أيّ شاشة. فكلّما فقدت حوامل الإرسال طابعها المادي كلما قلّ حظ الروحانيات في الوجود في الحياة الاجتماعية. هل ستكون اللاماديات الوحيدة المباحة لنا ذات طابع تقني؟ إنّ شخصيتنا المعنوية بكاملها في حالة أزمة… إنّه مثال للبداعة المحسوسة سابقا، وللبلاغة الأدبية اليوم. فبإمكاني طبعا أن أرى على صورة التقطها القمر الاصطناعي قطعة أرض يابسة على الجانب الأيسر من آسيا تسمّى اصطلاحا فرنسا. لكنّي لن أستطيع أبدا رؤية ألف عام من التاريخ التي تشكّل من خلالها تلك البقعة الحمراء الخضراء ذات الأرضية السوداء هذا البلد المسمّى فرنسا. فتلك خصوصية غير مادية وحاسمة».

ويضيف المؤلف أخيرا: «… حين يغدو كلّ شيء مرئيا، لا شيء يغدو ذا قيمة. فتجاهل الاختلافات يتقوى مع اختزال الصالح في المرئي، والمظهر، باعتباره مثالا، يحمل في طياته جرثومة فتّاكة تتمثل في التشابه. كلّ المُثل المتميزة تحظى بعيانية اجتماعية قوية. وما ينتج عن ذلك هو أنّ لغة الأغنى تصبح لغة كلّ الناس. وقانون الأقوى القاعدة المثلى.

إنّ عصر الشاشة حين يغدو مسيطرا أينما كنّا ستكون فضيلته الفساد. ومنطلقه الامتثالية وأفقه عدمية مكتملة. لذا فإنّ غريزة البقاء لدى الجنس البشري، مثلها مثل الرغبة البسيطة في تقصي اللذة لدى الفرد أو الأمم. سوف نضطر، إن عاجلا أو آجلا، إلى الحدّ من الامتيازات التي تحظى بها الصورة. ولكي يتمّ إيقاف الاختناق واليأس، سوف يتمّ إيلاء الأهمية للفضاءات الباطنية اللامرئية. وذلك عبر الشعر والمخاطرة، والقراءة والكتابة والافتراض أو الحلم».

(حياة الصورة وموتها/ ريجيس دوبري) ت. فريد الزاهي

 

متوجون

«فوضى» تفوز بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح

 

حازت مسرحية «فوضى» لفرقة الفكاهيين المتحدين للثقافة والفنون بفاس، على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح في دورته الرابعة والعشرين، المقام بمدينة تطوان. وتمّ تتويج أسماء هموش بجائزة السينوغرافيا، وجائزة الأمل لأشرف مسياح للفرقة ذاتها. أمّا فرقة «نحن نلعب للفنون» من الرباط، بمسرحيتها «أحْ وبردت»، فنالت جائزة أحسن تشخيص إناث جليلة التلمسي وجائزة أحسن تشخيص رجال سعيد عامل، وجائزة التأليف المسرحي الكاتب المسرحي أحمد السبياع والمخرج مح مود الشاهدي بجائزة الإخراج. في حين عادت جائزة الملابس لنادية فركاني لتصميمها ملابس مسرحية «في مكان ما» لفرقة فركانيزم للفنون والثقافة والتنمية بسلا. إضافة إلى ذلك جرى تكريم كل من الفنانين المسرحيين المغاربة: محمد الشوبي ومحمد الدرهم، وحجرية عمارة والزبير بن بوشتى وحسن بديدة، تقديرا لمسارهم المسرحي وإسهاماتهم في إغناء التجربة المسرحية بالمغرب.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى