فيلم أمريكي
الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها كل من تابع آخر مناظرة رئاسية بين ترامب وبايدن هي أنهما يتهمان بعضهما بالفساد، فترامب فاسد بنظر بايدن لأنه يرفض الكشف عن بياناته الضريبية ولديه حسابات سرية في الصين، وترامب يتهم بايدن بالفساد لأن ابنه كان يتقاضى مبالغ خيالية من أوكرانيا كرشوة. خلاصة القول أن المرشحين معًا يحاولان إقناع الناخب الأمريكي بفكرة واحدة هي: انتخبوني أنا لأنني أقل فسادا من الآخر .
الحقيقة أن أكبر رابح في الانتخابات الأمريكية هي شركات صناعة الأسلحة، فالأمريكيون يستعدون ليوم الاقتراع كما يستعدون للحرب الأهلية.
والسلاح في أمريكا شيء مقدس، صناعته تدر المليارات على الخزينة ورؤساء الشركات التي تصنعه هم من يحددون اسم من سينجح في الانتخابات ومن سيسقط. إذا أغضبت هؤلاء السادة، كما فعل أوباما، فعليك أن تستعد لجمع حقائبك وإخلاء البيت الأبيض.
التعديل الثاني في الدستور الأمريكي يعطي الحق للشعب الأمريكي في تنظيم مليشيات للدفاع عن أمن البلد وحريته، وبالتالي فالدستور الأمريكي يسمح لكل مواطن أمريكي بحمل سلاح.
تاريخ الأمريكيين مرتبط بحمل السلاح، منذ اليوم الأول لوضع المغامرين القادمين من القارة العجوز لأقدامهم فوق أرض العالم الجديد حاملين الإنجيل في يد والبندقية في اليد الأخرى.
بالسلاح تم إخضاع السكان الأصليين، وإبادة الملايين منهم. بالسلاح اقتتل المستوطنون في ما بينهم حول الأراضي وممرات طرق السكك الحديدية وحقول النفط ومناجم الذهب، وحول العبيد الذين جلبوهم من أفريقيا لكي يستغلوهم في حقول الذرة وقصب السكر والبن، إذ هناك من طالب بتحريرهم لكي يصبحوا مواطنين أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم وهناك من وقف ضد هذا القرار معتبرا أن هؤلاء الزنوج لا يستحقون أن يرقوا إلى مرتبة البشر وأنهم لا يصلحون سوى لخدمة الرجل الأبيض أبا عن جد.
واستمروا يتقاتلون مرة تحت غطاء الدين بين البروتستانت والكاثوليك ومرة تحت غطاء العرق والعصبية بين البريطانيين وبقية الأعراق الأوربية الأخرى المعادية للتاج البريطاني. وبعد حروب دامية وطويلة بين الجنوبيين والشماليين استعمل فيها السلاح بضراوة اتفق المتحاربون على قبول فكرة تحرير العبيد وتوقيع السلام وتشكيل الولايات المتحدة الأمريكية تحت راية واحدة تحمل نجومًا بعدد ولايات القارة.
ولأن السلاح رمز للدفاع عن النفس والملكية فقد ضمن الآباء المؤسسون للمواطن حق حمله للدفاع عن نفسه وأرضه وبيته في الدستور. ولذلك فالأمريكي يمكن أن يطلق عليك النار إذا وضعت رجلك فوق عشب حديقة بيته دون إذنه.
وربما قليلون يعرفون أن المصافحة باليد لم تكن معروفة من قبل وأن اكتشافها يرجع إلى السلاح تحديدًا. فعندما كان يلتقي أمريكي أمريكيا مثله ويمد يده لمصافحته فهذا يعني أنه لا يريد به شرا ولن يطلق النار عليه، لأن اليد التي سيضغط بأصابعها على الزناد مدها للمصافحة.
هكذا أصبحت المصافحة مرادفًا للرغبة في السلام. وما يعزز ذلك أنه ليست كل الشعوب تصافح باليد، فهناك من يصافح بأنفه وهناك من يضم معانقا وهناك من يكتفي بوضع راحة يده على صدره أو يشبك أصابع يديه.
من يريد أن يتعرف على تاريخ أمريكا الحقيقي وكيف نشأت كدولة ما عليه سوى أن يذهب إلى أقرب سويقة لكي يشتري المسلسلات التي تباع بعشرين درهمًا للسلسلة، أحبها إلي شخصيا سلسلة جحيم الغرب Hell on Wheels، التي تحكي قصة أول شركة لوضع خطوط السكة الحديدية لربط ولايات القارة ببعضها، وما رافق ذلك من صراعات حول الأرض والبشر والحجر.
ثم هناك سلسلة هاتفيلد وماكويز Hatfields & Mccoys، التي تحكي قصة عداء عائلتين تلخص الجراح العميقة والطرية للمجتمع الأمريكي القابلة للفتح في أية لحظة.
والأهم سلسلة Deadwood التي عندما تشاهد جميع حلقات مواسمها تفهم أن القوة والعنف والاستغلال والاستعباد والدعارة والدم والسلاح والمال وشيء من القانون هي المواد الأساسية التي شيدت فوقها الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنك عندما تشاهد هذه السلسلة تكاد تتعرف على أحد أجداد دونالد ترامب الذي بدأ حياته صاحب فندق للدعارة في مدينة صغيرة يقطنها الباحثون عن الذهب. وهي التجارة التي توارثها أجداده وتحولت من بعد إلى دور القمار والكازينوهات التي سمنت ثروة آل ترامب إلى درجة التخمة.
أما فيلم “سيكون هناك دم” There Will Be Blood للممثل الرائع Day-Lewis فيشرح بجمالية في التصوير وروعة في الأداء العطش الأمريكي للثروة البترولية والسعي وراءها بكل الوسائل وكيف يتم استعمال الدين في خدمة هذا المسعى للسيطرة على الحشود وإخضاعهم.
أما إذا صدمتكم مشاهد العنف الذي انفجر فجأة في شوارع نيويورك فما عليكم سوى مشاهدة فيلم “عصابات نيويورك” Gangs of New York لساحر الشاشة مارتن سكورسيزي الذي جمع بين عبقرية داي لويس وموهبة ليوناردو ديكابريو، لكي يصور مدى الهمجية التي يمكن أن يصل إليها الأمريكي لكي ينتزع بالقوة خبزه اليومي وخبز غيره إذا اقتضى الأمر ذلك.
لذلك فلأجل فهم ما يحدث اليوم هناك في تلك القارة تجب العودة إلى جذور الحقد التي نمت وتجذرت بين البيض والسود، والتي ظلت تسقى بمياه الكراهية بانتظام حسب ما يناسب السياسيين وحملاتهم الانتخابية في فوكس نيوز وغريمتها سي إن إن. لفهم هذا التناظر بشكل أفضل يمكنكم أن تشاهدوا بهذا الخصوص سلسلة The Loudest Voice In The Room التي تحكي صعود ونزول Roger Ailes مدير قناة فوكس نيوز بسبب استغلاله الجنسي لنجمات قناته، والتي جسد فيها دوره الممثل Russell Crowe ببراعة كبيرة، ففي هذه السلسلة تظهر قوة أذرع مردوخ الإعلامية في صناعة الزعماء، وخصوصا في صناعة دونالد ترامب.
لذلك فسواء فاز ترامب أو جو بايدن بالانتخابات الرئاسية فإن الفائز سيخضع لقواعد اللعبة التي تضعها الدولة العميقة، ولكي تفهم ما معنى الدولة العميقة في أمريكا ما عليك سوى مشاهدة حلقات مواسم سلسلة Scandale لكي تعرف أن الرئيس مجرد قائم بالأعمال لدى تجمعات مصالح أخطبوطية يكرعون كؤوس الشامبانيا في نواد يختلط فيها صانع السلاح بتاجر النفط وبائع الأدوية ومدراء القنوات التلفزيونية وبعض تجار الدين.
والرئيس عليه أن يساير مشاريع ومصالح هذه الشلة مقابل أن يضمنوا دعمه وتغطية سوءاته وفضائحه الأخلاقية، وإذا رفض فأمامه مثال كلينتون مونيكا لوينسكي لكي يتأمله جيدا.
أما السياسيون فيلعبون دور الكومبارس في هذا الفيلم الواقعي. هؤلاء السياسيون يشبهون تجار العبيد سابقا والذين يتاجرون بمأساة السود في كل مناسبة انتخابية منذ اعترف بهم أجدادهم كبشر وتوقفوا عن تعليق جثثهم إلى جذوع الأشجار ومنحوهم حق التصويت وحق العيش، قبل أن يشعر أبناؤهم اليوم بالندم ويشرعوا في مصادرة حقهم حتى في مجرد التنفس.