فيزل والهولوكوست.. رحل التاجر وبقيت التجارة (1/2)
إذا شاء المرء وضع إيلي فيزل (1928 ـ 2016) في سياق مقارن، على خلفية تصنيف، نادر جداً، مثل «الناجي من الهولوكوست»؛ فإنّ نموذج الروائي الإيطالي بريمو ليفي (1919 ـ 1987) سوف يحتلّ الصدارة، ضمن مستويات كثيرة ومتنوعة: «كان ليفي رجل نزوع عقلاني، وعلم، وأدب، سعى إلى توفير فهم أكثر إنسانية للمأساة التي عاشها؛ في حين أن فيزل أبرز التمركز اليهودي على الذات، وبقي منغرزاً في النظرة الأشكنازية إلى العالم (…) وكان فيزل جزءاً رئيسياً في محور إيب فوكسمان/ ألن درشوفيتز المؤسساتي، بينما واصل ليفي الدرب الفكري للتراث السفاردي فبات يُرى في مصافّ كتّاب عظام من أمثال خورخيه لويس بورخيس، إيتالو كالفينو، وأمبرتو إيكو». هذه خلاصة رأي الكاتب الأمريكي (اليهودي) دافيد شاشا، مدير «مركز التراث السفاردي» في بروكلين، نيويورك. تفاصيل المقارنة الأخرى تشير إلى أنّ ليفي مثّل تعددية التراث السفاردي من قلب قِيَمه الكوزموبوليتية، وظلّ يهودياً أوروبياً منتمياً، تعرّض مراراً لهجمات المتشددين الأشكنازي لأنه لم يكن «يهودياً» بما يكفي. في المقابل، ظلّ فيزل وثيق الصلة بالمؤسسة اليهودية، بدولة إسرائيل، بالمستوطنات، وبالنظرة اللاتاريخية إلى مأساة الهولوكوست. يكتب شاشا: «فيزل محبوب في أوساط المستوطنين والصهاينة المتشددين عموماً. ولقد اشتُهر برفضه الحديث عن معاناة الفلسطينيين على أيدي الإسرائيليين، مفضلاً التبنّي التامّ للسياسة الإسرائيلية الرسمية والتزام الصمت حول الاضطهاد اليهودي للآخرين». على نقيض ليفي، الذي أوضح مراراً أن القضية الفلسطينية مسألة حقّ وحقوق، ودعا ذات يوم إلى استقالة مناحيم بيغن، وهوجم في وسائل الإعلام الصهيونية، في إسرائيل وأمريكا على حدّ سواء، بأقلام فرناندا إيبرشتات ونورمان بودوريتز، وفيزل نفسه.
والحال أنّ فيزل فارق هذه الدنيا وهو لا يفضّل لقباً آخر على صفته الأثيرة، الأقرب إلى امتياز فريد ليس في وسع أحد أن ينافسه عليه: عميد ضحايا الهولوكوست من اليهود، والقيّم على شؤونهم الدنيوية والروحية، ومالك القول الفصل في كل ما يتصل بالشطر الهولوكوستي من التاريخ… قديمه وحديثه وقادمه، في آن معاً. والرجل، لمن لا يعرفه جيداً، ولد في رومانيا، وتمّ ترحيله مع أُسَر يهودية أخرى إلى أوشفيتز في عام 1944، وكان بين قلائل ظلوا على قيد الحياة. عاش في باريس ونيويورك، وعمل مراسلاً لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، وفي عام 1963 حصل على الجنسية الأمريكية، ثمّ مُنح جائزة «نوبل» للسلام في عام 1986. رواياته ومقالاته أعادت إنتاج ذكرياته عن سنوات معسكرات الاعتقال، كما فعلت أعماله في السيرة الذاتية.
وضمن أدائه لوظيفة الحامل الأوحد لأختام مأساة الهولوكوست، رفض فيزل على الدوام أيّ وجه للمقارنة بين الجثث التي كانت تتهاوى وتحترق في سراييفو (حيث كانت المأساة في أوج اشتعالها هناك)، وتلك التي تهاوت واحترقت في أوشفيتز. كذلك، في السياق ذاته، رفض حتى الاستخدام المجازي لتعبير «الهولوكوست الجديد» أو «أوشفيتز الجديدة» في وصف الفظائع التي ارتكبها الصرب، ميليشيات أو قوّات نظامية، في البوسنة والهرسك. ولكي يقطع الشك باليقين، سافر بنفسه إلى سراييفو لكي يناشد الصحافيين الكفّ عن هذه «الميوعة» في ابتذال ما هبّ ودبّ من «مصطلحات مقدسة»!
وليس الأمر أنه لم ير المأساة في ما شهدته الإنسانية من جرائم حرب بعد أوشفتز، بل المنطق عنده سار كما يلي، ببساطة عجيبة أين منها أعجب التبسيط: «أوشفتز تظلّ فريدة في التاريخ المسجّل لأنها انطوت على إبادة شعب بأكمله، حتى آخر طفل وآخر أسرة وآخر نفس. لا أحد سيقنع الثاني بأن رادوفان كراجيش وراتكو ملاديش، على قسوتهما، يسعيان لإفناء جميع المسلمين حتى آخر مسلم».
لكن فيزل كان لتوّه قد ارتكب زلة لسان ذات دلالة كبرى، وذلك حين أطلق على ضحايا اليهود صفة «الشعب»، وأطلق على الضحية البوسنية صفة «المسلم»؛ فأخرج المسيحي واليهودي من دائرة الإفناء (الأوّل أبقاه في الدائرة الحضارية الأوروبية، والثاني في الدائرة إياها بعد إضافة فظائع الهولوكوست)، وأبقى على المسلم في دائرة التراحم والشفقة والعطف، ليس أكثر.
وفي كتابه الشهير، «كلّ الأنهار تصب في البحر.. مذكرات»، شنّ فيزل حملة اتهامات جديدة ضد لائحة طويلة من اليهود الذين تعاطفوا مع عذابات الفلسطينيين، تحت الاحتلال وبعد أوسلو الأولى والثانية، وليس قبلئذ كما يمكن للمرء أن يتخيل. وبين ضحاياه كان جان دانييل، الصحافي الفرنسي (اليهودي) المعروف ورئيس تحرير أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور»، لأنه يواصل انتقاد دولة إسرائيل «حتى في هذه الأيام العصيبة»؛ كما هتف فيزل مندهشاً، وذلك يرقى إلى ارتكاب الإثم الأكبر في يقينه. وفي واحدة من فقرات ردّه، المطوّل، كتب دانييل: «يريدنا فيزل أن نصدّق أنه ما يزال يعيش في معسكر الاعتقال، وما يزال ضحية القمع والاضطهاد، وأنّ الحياة لم تخفف من آلامه أبداً، ولم تجلب له أي اعتراف بالألم، وأيّ تكريس، وأي شرف. ويريدنا أن نؤمن أن حيازة كرسي جامعي في هارفارد، والحصول على الجائزة الأدبية الأمريكية الأرفع (ميدالية الكونغرس الذهبية للإنجاز)، وجائزة «نوبل» للسلام، والصداقات الحميمة مع رؤساء فرنسا والولايات المتحدة، والشهرة العالمية، والنفوذ الواسع، والتوزيع الخرافي لأعماله الشخصية المترجمة إلى عشرات اللغات، كل هذا لا يُقارن إلا بصبر أيوب أمام عَرَض الدنيا الفانية»!
وأمّا في الولايات المتحدة، فقد بدا فيزل وكأنه مندوب غير مباشر عن منظمة الـ«AIPAC»، أشهر هيئات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة وأشدّها شراسة؛ في تأثيم عدد من كبار الكتّاب والصحافيين والفنّانين الأمريكيين اليهود، واتهامهم ليس بالتخاذل والخور في الدفاع عن دولة اليهود فحسب، بل كذلك بالتهمة العظمى: العداء للسامية! بين هؤلاء، مثلاً: وودي ألن، الممثل والسينمائي المعروف؛ وميلتون فيورست، المحرر المتجوّل في مجلة «نيويوركر»؛ وسيمور هيرش، الكاتب والمحقق الصحافي المعروف؛ ومايكل ليرنر، الحاخام المستنير ورئيس تحرير المجلة اليهودية الثقافية ـ الفكرية «تيكون». وحين سقط في فخّ النصّاب الأمريكي الدولي برنارد مادوف (اليهودي بدوره)، فاستثمر عنده وخسر 15,2 مليون دولار هو وزوجته؛ كان لافتاً كيف انقلب مادوف، في ناظر فيزل، من «سبط الإحسان اليهودي» إلى «اللص الأقذر على وجه الأرض»!
وفي الخطّ ذاته، ليس ثمة غرابة في أن الكاتب الأمريكي (اليهودي) المعروف نورمان فنكلشتاين ـ في كتابه المتميز «صناعة الهولوكوست»، وكذلك في عمله التالي «أمّة تحت المحاكمة.. أطروحة غولدهاغن والحقيقة التاريخية» ـ اقتبس مراراً مسلك فيزل الإجمالي وممارساته العملية ومواقفه وكتاباته؛ وذلك بغية تأمين قسط وافر من الحجج التي ساقها ضدّ تحويل عذابات اليهود إلى صناعة وتجارة، وتأثيم الأمّة الألمانية إجمالاً بهدف ابتزازها، حتى أنه أطلق على فيزل صفة «المهرّج المقيم في سيرك الهولوكوست». وحول شغف فيزل بالكذب والتكاذب، نختار من فنكلشتاين هذا المثال الصارخ: في كتاب مذكّراته يشير فيزل إلى أنه قرأ كتاب إيمانويل كانط «نقد العقل الخالص» وهو في السادسة عشرة من عمره، باللغة الإيديشية. لكنّ الحقيقة ـ وبمعزل عن اعتراف فيزل نفسه بأنه في ذلك الطور كان جاهلاً تماماً بالإيديشية ـ تشير إلى أنّ كتاب كانط… لم يُترجم أبداً إلى تلك اللغة!
فهل، بعد رحيل فيزل، القيّم عليها وحامل أختامها، سوف تنقرض صناعة الهولوكوست وتجارتها؟ أم أنها باقية، وتتمدد، في انتظار وَرَثة آخرين كثر؟