شوف تشوف

الرأي

فيروس كورونا

خالص جلبي
كنت في عيادة زميلي دكتور الأشعة بمدينة الجديدة، حين وقع نظري على رجل صيني قد وضع الكمامة على فمه وهو يسعل. قال لي الزميل إنه يريد صورة إشعاعية للصدر، فقلت له: ماذا تقول؟ تابع إنه لا يشكو من ارتفاع حراري. كان تعليقي أنه يجب أن ينتبه جدا إلى عدم حمله فيروس كورونا، بعد أن صعق العالم بخبر كورونا والصين. تقدم زميلي إلى الصيني وشرح له أن لا بد من مراجعة طبيب صدر، ليقرر الحاجة إلى صورة شعاعية من عدمها. الخوف من فيروس كورونا في العالم مع شتاء 2020، يضرب الأرض بأجنحة من الهلع الأعظم. بعد أن رأى الناس مناظر الموت تأتي من إقليم ووهان من الصين. قال لي زميلي دكتور الأشعة: هل هي حرب بيولوجية تقوم بها أمريكا لتحطيم اقتصاد الصين؟ أجاب الدكتور (حلوبي)، دكتور الأعصاب، إنها خطة ذكية من ملك الصين الجديد في التهام الاستثمارات الأجنبية في الصين (تم تطويب رئيس الحزب الشيوعي في سدة الحكم مدى الحياة، حتى لو ضربه الزهايمر، ما لم يتآمر عليه الرفاق فيطيحوا به).
هل هي حرب بيولوجية؟ هل هم الخفافيش والحناش (الثعابين) التي تلتهم الخفافيش، فتدلق الفيروس في أحشائها فتنقلها هي والخفافيش إلى بني آدم؟ هل هي قصة الإيدز (السيدا) وفيروس الإيبولا والسارز والطيور والزيكا مجددا؟ هل هو لون من العدوان على قوانين الطبيعة فتنتقم؟ هل هي مخابر سرية للمخابرات في أماكن سرية بأغراض سرية، فانفجرت من حيث أرادوا استخدامها في غير ما أرادوا؟ هل هي عقوبة من الله للصينيين لتشنيعهم في مسلمي الإيغور في الصين، وتعريضهم للعذاب فيحصل لهم ما حصل لفرعون وملئه؟ إن آخر تقليعة علمية وردتني هي من شيخ شيعي معمم، يقول: إن سببها عائشة وعمر حين أكلا الضب.
ولكن تنويرا للقارئ علينا فهم ثلاثة أمور الأول ما هو الفيروس؟ والثاني ما هو عالم الفيروسات؟ والثالث كيف تندلع الأمراض بصفة عامة؟
أما الفيروس فهو كائن في أسفل الدرج من الكائنات الممرضة، ويجب تكبيرها عشرات الآلاف من المرات حتى نبصرها، وهو ما يجب عمله مع الصيني الذي ذكرناه.
وأما عالم الفيروسات فهو طبقا عن طبق، ويحوي قبائل من أنواع شتى، تسبب الحصبة والجدري وشلل الأطفال (البوليو)، ولا ينفع فيها صاد حيوي (Antibiotic).
أما لماذا تنفجر الأمراض؟ فهذه فلسفة لوحدها، تحكمها معادلة من توازن الجهاز المناعي مع العوامل الإمراضية الخارجية.
باختصار الفيروس كائن عجيب فلا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى، بل هو بين بين. تارة يعد مادة جامدة لا حياة فيها فيتبلور مثل الملح، وينساه الناس، وتارة ينشط من همود؛ فيقفز إلى خلية فيقتحمها ويعشش فيها فيتكاثر ويضرب ويوجع، كما فعل فيروس الإيبولا، قبل أن يرجع فيهجع في الغابة من جديد حتى حين. هل هو ميت؟ يقولون نعم ولا. هل هو حي؟ فيقولون نعم ولا. وسبحان من يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون.
عند هذه العتبة من الانتقال بين الجمادات والأحياء بيت الفيروس، ومكان عشيرته، ومرتع صباه وفتوته. إنه صغير يحتاج إلى تكبير عشرات الآلاف من المرات، حتى يرى، ولكنه يتكاثر كلمح البصر أو هو أقرب، وأحيانا بالثواني.
لقد عرف أن هذا العالم المغيب مثل عالم الجن الدقيق، يعج بقبائل ضاربة من العوامل الممرضة، هي خلف الأمراض التي تفتك بنا؛ فهناك اللولبية الشاحبة تسبب مرض الإفرنجي الزهري، وهناك الأشكال المكورة مثل عناقيد العنب، وهناك الأشكال المنتفخة، مثل الأكياس المحشية، أو مثل شكل الكوسا والباذنجان، ومنها ماله شوك خارجي، أو دبابيس، أو شعر، ومنها ما هو أملس، واليوم نعرف مالا يقل عن خمسين ألف نوع من هذه القبائل الممرضة. منها ما هو ممرض للبشر، وغير مؤذي للقرود مثلا، كما اكتشف في فيروس الإيدز، ولم يعرف علة ذلك تماما. ومنها ما يغير طبيعته باستمرار، وهو ما يقف حائلا حتى اليوم، أمام تطوير لقاح ضد (رشح) الإصابة بالبرد الشتوي، مع انقلاب الجو، ومنها (الكريب) البسيط، الذي يغير طبيعته، كما حدث مع الكريب (الأنفلونزا) الإسباني، عام 1919 فقضى على ملايين الناس، وهم يرتجفون هلعا، ويسترجعون الذاكرة لأيام الجوائح القاتلة، من طواعين العصور الوسطى.
إن البشرية والحضارة كائنان هشان للغاية، وهناك من كتب كتابا مثيرا عن أثر الأمراض في رسم مصير التاريخ والحضارة، مثل الطاعون الذي قضى في العصور الوسطى على ثلث سكان مدينة لندن، وجاء ذكره في مقدمة ابن خلدون، حين وصف الحالة بكلمة (الطاعون الجارف)، أو كان له دور في القضاء على حضارات أمريكا الوسطى بالجدري، فاجتمع عليهم الطعن والطاعون والنهب والطرد. لقد كان الناس في ما سبق تأتيهم الجوائح والطواعين، وهم لا يعلمون كيف جاءت ولماذا غادرت، فكان الناس ينحنون على المريض فيقبلونه؛ وهم يبكون عليه، فينتقل المرض منه إليهم وهم لا يدرون، فلم يكن الطب معروفا، وكان الدجل سائدا، والخرافة متفشية.
وأنا شخصيا أتذكر نفسي وأنا طفل، عندما حضر إلى والدي رجل، قد اصفرت عيناه، فلما انصرف؛ روى لي والدي، أن سبب المرض هو الخوف الشديد، وكانت المفاجأة لي، عندما علمت أنه حتى يشفى، فلابد من تخويفه بجرعة رعب أفظع من التي تلقاها. وكان السؤال من يقوم بهذه المهمة؟ وحتى نأخذ فكرة عما يمكن أن يفعل الفيروس إذا انتشر، فيجب رؤية فيلم (الانفجار Outbreak)، أو تذكر الإيبولا وأنفلونزا عام 1918م.
وهذا يعني أن الجنس البشري مهدد بأصغر الكائنات وأضعفها، وفي كل لحظة. ولم يكن عبثا أن ضرب القرآن المثل بالذبابة والبعوضة، والنحل والنمل، وما يعقلها إلا العالمون. لنتذكر عبارة وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى