شوف تشوف

الرأي

فوائد الكورونا

بقلم: خالص جلبي
أصعب ما يمر على الإنسان الوحدة. فالله خلقنا أزواجا كما هو حال الطبيعة. ومن كل شيء خلقنا زوجين، وسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. المخابرات البعثية اخترعت العبثية الاعتقالات التي تدفع بالمعتقل إلى الزنزانة الانفرادية. أنا شخصيا دخلت واحدة منها في سجن اسمه (كراكون الشيخ حسن)، وهو في حي الميدان بدمشق. بقيت في الزنزانة الانفرادية 54 يوما. وفي الليلة الأخيرة وفيها ختمت القرآن، ثم غلبني النعاس فرأيت نفسي في صلاة خلف رجل لا أعرفه. ما زلت أتذكر الآية في تلك الليلة: «أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بل ورسلنا لديهم يكتبون»، (الزخرف 79 ـ 80). في المنام رجل بسيط يصلي واقفا، ثم يبسط يديه في الدعاء. قالها بكلمات قليلة ولكنها كانت نورا لي. تضرع إلى الله وقال: «دخيلك يا الله»، أي ارتمينا على أبواب رحمتك. في اليوم التالي أفرج عني، ولكن استبقوني في الغرفة الإجماعية لمدة أسبوع، ثم خرجت إلى الحرية. في الزنزانة بقيت سورة البقرة منقوشة على الجدار. وتحتها عبارة: كل من دخل السجن خرج، ولكن ليس كل من خرج سلم. رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق. كان (أبو راكان) الذي حضرت حفلة تعذيبه على يد الجلاد (يوسف طحطوح) يقول: «سوف أخرج غصبا عنكم، فإما أطلقتموني أو مت فأخرجتم جثتي!».
أذكر من ديكارت قولته الشهيرة لماذا كانت الوحدة عذابا لا يطاق؟ لأنها مواجهة الذات. أذكر من سجين كندي في معسكرات اليابانيين، أن ما أبقاه على قيد الحياة هي الذاكرة.
ما يحصل في أيامنا الحالية من فرض العزلة على الناس وعدم التقارب، هو لون من الوحدة ولكن بصورة جماعية. أذكر من المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي حديثه عن فضائل المشقة في كتابه «مختصر دراسة التاريخ». وفي القرآن أن الابتلاء بالخير والشر فتنة، بل وهناك آية مزلزلة حين تقول: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله»، (البقرة ـ الآية 214). بل وفي سورة يوسف تتجلى المحنة بأجل صورها، مع فقد الولد الثاني بعدما غاب الأول أكثر من عشرين عاما، فاستحق أن يعمى الأب فابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. وفي أول سورة العنكبوت التي كان الأخ (مروان خياط) يقرأها علينا ونحن معتقلون في سجن المزة العسكري، «أم حسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون». ووضعت أنا شخصيا كتابا جاءني وحيا، ونحن على ظهر زورق في نهر الراين بألمانيا، بعنوان «ظاهرة المحنة دراسة سننية». حيث وضعت أربعة مفاصل للبحث، لماذا كانت المحنة لزاما لأي شخص يسلك درب البناء الوعر، أو الجماعة التي تريد تغيير المجتمع، أو الدولة التي تريد الارتقاء، أو الأمة التي تقفز الى مسرح التاريخ لتكون خير أمة أخرجت للناس؟
في الواقع ما نرى الآن هو محنة كبيرة للدول والأمم (أمريكا يموت فيها يوميا أكثر من ألف شخص)، ولكن فيه الخير العميم لمن يريد أن يفقه جدل التاريخ وأسراره المغيبة.
ستمر الكورونا وتعصف، وتأخذ إلى المرض والمقبرة ما شاء لها، ولكن الجنس البشري سوف يتغلب على التحدي الجديد، بل وفيه الخير العميم من جوانب عدة قد تبلغ العشرة:
1 ـ انتعاش الطبيعة وتقلص ثقب الأوزون؛ فالطبيعة للمرة الأولى تتنفس الصعداء بعدما توقفت عوادم السيارات من نفث السموم..
2 ـ قلة التلوث في البيئة، فرأينا برميل البترول يباع مجانا، بل وفوقه علاوة مال لمن يريد شراء البرميل مجانا! وهو أمر لم يحدث في التاريخ حتى اليوم.
3ـ ورأينا شدة التراحم العائلي والتقارب الأسري، ولعله للمرة الأولى يكتشف الأزواج سحر الحياة الزوجية، ويتمتع الأجداد برؤية الأحفاد بين أيديهم يسعون.
4 ـ كما رأينا إلى حد ما توقف قوافل القتل والدمار من حفتر وأشباهه، والبراميلي السوري وميليشياته وهو يحرق المدن والضيعات والقرى ويبيع البلد لقوزاق الروس والفرس والهزارة.
5 ـ كما روعنا اكتشاف هشاشة الحياة فعرفنا أن الإنسان خلق ضعيفا، وأنه خلق من طين لازب وكونه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وحسب الفيلسوف البريطاني «هوبز»، إن أعمق دوافع الإنسان هو خوف الموت، وهو الحاصل من ووهان حتى سان فرانسيسكو.
6 ـ كما رأينا في تعلق البشر بالحياة، كم هي معجزة كبرى تمر أمام أعيننا كل لحظة ونحن عنها معرضون ونمر بها ونحن عنها غافلون، تلك اللحظات النادرة من هذا الوجود الرائع بكل المقاييس.
7 ـ اكتشاف وحدة الجنس البشري. هنا نسينا الصين وكوريا ولبنان والمغرب، فالجنس البشري كله مستهدف من عدو خفي سارب بالنهار، مختف بلحف الظلام.
8 ـ عرفنا طبيعة الحرب حقا. كانت الحروب العالمية تجري في ما سبق في جبهات بعيدة؛ أما الآن فهي في كل زاوية، إلى درجة خلق الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من وجود فيروس لا يرى إلا مكبرا مائة ألف مرة، ولكنه يسري في كل مكان من عدو مختلف مهددا كل الجنس البشري، يزحف في كل زاوية، وفوق كل ورقة، وتحت كل مقبض ومنصة.
9 ـ عرفنا روعة العقل الإنساني وخبرته التي تطورت؛ في تخاطب الناس مثل الجن المجنحة، على ثبح البحر الأخضر الإلكتروني، وتقضى كل الأمور من خلف جدار(online)، بل ووصل العلم إلى قدرة أن يرى هذا العدو الغاشم الشبح، فيكشف الستار عنه ليراه حقيرا مقنفذا بأسنان من أشواك، ومكبرا مائة ألف مرة.
10 ـ تنظر العين البشرية إلى السماوات العلى لترى بعد النجوم في مسيرة 13 مليار سنة ضوئية، حيث يفرقع الانفجار العظيم.
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى