شوف تشوف

الرأي

فضاء المعرفة الإنساني

بقلم: خالص جلبي

تقدم شاب مفتول العضلات فوجه ضربة قاضية لعالِم البيئة، إلا أنه شعر أن هناك في داخله ما يوحي له بتخفيف عنفوان الضربة، فنزلت القبضة الفولاذية بعيار مخفف على صدر العالم، هوى بعدها العالم على الأرض مضرجا بدمائه وولى الفاعل الأدبار. كانت إشارات الإنذار قد انطلقت بعويل لا يتوقف وطوق المكان بعناصر الأمن، ولم يبق أمام المجرم ذي القبضة الفولاذية سوى القفز من سطح البناية، وحشر نفسه في نفق الأسلاك الكهربية تحت الأرض. عندما تأمل رجال الأمن المكان وقعت أعينهم على فتحة النفق الكهربي، فاستبعدوه تماما من حسابهم كمكان للهرب، وعندما سئل عالم البيئة الذي تحسن في العناية المركزة من أثر الضربة القاتلة، كان جوابه لا أعرف على وجه الدقة بماذا ضربت، الشيء الأكيد الذي أعرفه أن ضربة مروعة في غاية القساوة صدمت صدري.
استنفرت قوى الأمن نفسها لمعرفة الأثيم في ضوء معطيات جديدة عن كائن هو إنساني، ولكن فيه من المواصفات ما يخرجه عن التركيب البيولوجي الإنساني. وفي الوقت الذي كان الرجل ذو القبضة الفولاذية يلجأ إلى نزل بعيد في ولاية أريزونا القاحلة، كان يطارد من مجموعتين وليست واحدة. كان يطارد من البوليس الأمريكي، ومن مجموعة غامضة من محترفي الإجرام الذين طوروا بعدا جديدا في تسخير الإنسان للجريمة. لقد تناهى إلى سمع الاستخبارات الأمريكية أن هذا الرجل الذي اجتاز نفق التوتر الكهربي عالي الفولتاج، أن هناك مشاريع في الخفاء نحو إنتاج كائنات من نوع (السايبرج)، وهي تتطابق مع تحمل جسم المجرم الفار للتيار الكهربي المميت.
تعرض شاب إلى حادث مريع ترتب عنه ـ كما يذهب إلى ذلك الخيال العلمي، استبدال معظم أطرافه بأطراف صناعية، ومنها يده التي أصبحت فولاذية تضرب كمطرقة الحديد المرعبة؛ فتُهشم صدر عالم البيئة، وتَقطع لاحقا الثعبان ذا الأجراس عندما دخل مباراة مكاسرة الأيدي مع هنود صحاري أريزونا، التي تقوم المباراة فيها على دفع يد المهزوم في المصارعة إلى فم الثعبان كي يلدغها.
كان أجمل وأخطر ما في فيلم الخيال العلمي هو زرع شريحة كمبيوتر في غاية الرقة في دماغ هذا الشاب، بحيث أصبح تحت البرمجة الآلية، فإذا وُجه إلى قتل إنسان مضى بدون تردد. هكذا كانت رغبة الذين سهروا على المشروع وطوروه، ولكن ثبت أن الإرادة الإنسانية تتملص من قبضة السيطرة عليها، فينقلب السحر على الساحر، فيخفف ضربة قبضته على صدر رجل العلم، ويشدد منها على أسياد التكنولوجيا، فيقضي على الذين سهروا على تشويهه وتحويله من إنسان يتمتع بالحرية والإرادة والوعي إلى دمية متحركة بالريموت كونترول. ولكن ما هو الوعي؟ ما هي حرية الإرادة؟ وأين مكان هذه الكلمات الكبيرة؟
إننا لسنا في بحث في الجغرافيا ولا حتى في البيولوجيا، فالدماغ الإنساني ما زال عصيا على الفهم، فكيف يفهم الدماغ الدماغ؟ أم كيف نفهم كيف نفهم؟ في متحارجة مملوءة بالتحدي! تحت ضغط هذه الفكرة لجأ كثير من الفلاسفة والمفكرين إلى عدم الدخول في فهم الدماغ كآلة، بل فهمه كوظيفة ونحا القرآن هذا المنحى حينما تحدث عن التفكير؛ فلم يأت ذكر الدماغ أو المخ أو لفظة (العقل) مفردة في القرآن مرة واحدة كجهاز، ولكن وظيفة التأمل والتفكر والتدبر تكرر ذكرها بدون ملل (يعقلون .. يتفكرون .. يتدبرون). ليس المهم أن نعرف ما هو تركيب هذه الآلة؟ ولكن كيف تعمل هذه الآلة؟ هذا ما يقوله أصحاب هذا الاتجاه. وصبت مدرسة علم النفس السلوكي في الاتجاه نفسه، فهي لا تستطيع فهم الإنسان إلا من خلال تصرفاته، ولذا فالإنسان يُفهم من خلال السلوك الميداني، أكثر من الفهم التشريحي أو الفيزيولوجي للدماغ. إلا أن نهم العلماء لا يعرف التوقف، وعطشهم إلى المعرفة وفك أحاجي الوجود لا يرويه جواب واحد، بل يتركب السؤال على السؤال، وتتفرع من المعلومة معلومة جديدة، في حلقة تصاعدية نامية متطورة علمية حركية لا تعرف الاستراحة، فهذا هو فضاء المعرفة الإنساني.
يقول الدكتور محمد كامل حسين في كتابه «وحدة المعرفة»: «إذا أردنا أن تكون صورة المعرفة كاملة تامة، فليس لنا مناص من البحث في طبيعة العقل وكنهه، فهو جهاز التفكير الذي به تتحدد المعرفة». ولكن الدكتور حسين لا يرى البحث في هذه النقطة، لماذا؟: «ولكننا لا نرى البدء بهذا البحث، لأن ذلك يكون خطأ منهجيا. وقد بينا من قبل أن البدء بالبحث في تحديد العلاقات بين غايات الأمور ومعقداتها لا يؤدي إلى الحقيقة. والبحث في طبيعة العقل يجب أن يكون آخر البحوث كلها. ويجب أن لا نتناوله إلا بعد أن يتم علمنا بالكون والإنسان. ويكفينا الآن أن ننظر إلى العقل على أنه نور يلقى على الأشياء فيضيؤها، ويتيح لنا فهمها. ولنا أن نستخدمه جهازا للتفكير دون أن نفهم ماهيته، حتى تتم لنا صورة المعرفة كاملة فنضعه منها موضعا حقا لا نستطيعه في أول البحث».
وإذا كان العقل أو جهاز التفكير غامض الماهية، فكيف يمكن بناء إبستيمولوجيا المعرفة، حسب تفكير جراح العظام محمد كامل حسين؟

لجأ كثير من الفلاسفة والمفكرين إلى عدم الدخول في فهم الدماغ كآلة، بل فهمه كوظيفة ونحا القرآن هذا المنحى حينما تحدث عن التفكير؛ فلم يأت ذكر الدماغ أو المخ أو لفظة (العقل) مفردة في القرآن مرة واحدة كجهاز، ولكن وظيفة التأمل والتفكر والتدبر تكرر ذكرها بدون ملل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى