فصول خاصة
جهاد بريكي
تتعاقب علي الفصول منذ صرخت الصرخة الموجعة التي حكمت علي بمغادرة رحم أمي الدافئ. كيف لم يستشرنا أحد إن كنا فعلا نريد مغادرة أحشاء أمهاتنا أم أننا مستمتعون بظلمتها وسكونها!؟ كيف يخرجوننا عنوة تحت إشراف طبيب ومولدة وطاقم كبير لا نعرفه ولا يعرفنا. كيف سولت لهم أنفسهم فتح بطون أمهاتنا وإخراجنا قسرا بمقص ومشرط!؟ أي تعسف هذا الذي مارسوه علينا فاكتفينا بصرخة مدوية ورضينا بالأمر ثم شققنا طريقنا وسط هذا العالم نبني حضارات ونهدم أخرى ونتبنى القضايا الكبرى ونخون عهودا أكبر، نقرأ عن الأساطير ونحلم بالحب الكبير ونتجنب البوح والعناق، ونتوالد ونتكاثر.. ثم فجأة نموت. عدم يرسلنا لآخر وبينهما قليل من الهزل وكثير من الصدمات.
أظن أنه قد يكون من الجيد والمفيد محاكمة كل هؤلاء الذين قرروا حرماننا من أرحام أمهاتنا يوما ما. وأنا طفلة مسلوبة العقل بالسماء والفصول وقوس قزح وابن جارنا الفظ، لم أستطع يوما استيعاب طريقة الكبار في توقع حرارة الغد، تساقطات الأسبوع المقبل، العواصف، الفيضانات، الصقيع.. فكنت أسأل، ولمَّا لم يشف فضولي، وأمام عنادي وإصراري، كان على أبي اختراع جواب يخرسني إلى الأبد ويعفيه من كثرة الشرح وصداع الرأس، فقال لي بيقين نبي إن هناك من يصعد كل ليلة للقمر، يلمسه بيديه. فإن كان ساخنا سيكون جو الغد ساخنا وإن كان باردا سيكون جو الغد باردا. والغريب المضحك أن الجواب كان مقنعا لي بشكل جعلني أغلق فمي والموضوع نهائيا، وأكف عن التفكير لسنوات طويلة جدا.
أحاول فهم الفصول وأجد أننا لا نختلف كثيرا عنها، أعتقد جازمة أني، في نهاية الأمر، لا أعدو أن أكون سنة مكونة من شتاء وربيع وصيف وخريف، إلا أني سنة متهورة، لا تلتزم بهذا الترتيب ولا بهذا التوقيت، فقد أعيش كل الفصول في يوم واحد، وقد أمكث في فصل واحد السنة كلها. أنا الشتاء بسيوله الهائجة وصقيعه القاتل، أتفحص قلبي فأتوقع حدوث فيضانات تغرقني وتجبرني على حمل أثاثي وكتبي وفساتين السهرة والهروب، عندما رأيت صور مدينة البيضاء غارقة في سيولها ضحكت، كنا متشابهتين بشكل مخيف، إلا أن سيولي مالحة فقد اختلطت بكثير من الدموع والدماء، أما سيول البيضاء فقد اختلطت بنفاياتها ودخان سياراتها وأصبحت عصيرا مروعا مذاقه الأسى. ونحن والمدن نتشابه في الأسى على كل حال.
أنا الربيع الأخضر، يزهر قلبي فلا أجد متسعا فيه لدمعة، يلفني عطر الزهر وتغمرني سعادة الطيور العائدة للوطن بعد رحلة اكتشاف مضنية. حقول روحي منتشية بسنابلها وزرقة السماء تداعبها كأم صبور. أنا الليل الربيعي الدافئ أغدق على أحبابي بالجمال وأحفزهم على السهر. أنتشل الناس والأشياء من حولي ونمضي نحو المتعة. أنا فساتين الصبايا المصممة على كشف سيقانهن، أنا أحمر الشفاه المناسب لليلة تسكع على ضفاف واد خجول. أنا الحبيب الناظم لقصائد الوله، المرابط أمام نافذة محبوبته حتى الصباح. أنا العناق المسروق خلف أسوار الجامعات، وأنا القبلة الأولى المطبوعة على الخد الخائف. أنا وعود البقاء وعهود الأبد، أنا دفتر الذكريات، وهدايا البدايات ورسائل الشوق المتقد. أنا التوازن والكمال وسلام الروح وراحة الجسد.
أنا الصيف، أنا جنون الشباب على الشواطئ، أنا أجساد النساء المتمايلة وعيون الرجال الجاحظة، وأنا الأشعة الحارقة والموج الأبيض، أنا اليوم الطويل والسماء الصفراء الماجنة. أحترق وأحرق من حولي، أشعل اللهيب في أدغال نفسي فتنفث الغضب اللاسع، شمس ممتعضة وقمر ساخن يحومان في فلكي دون توقف، وأنا الليل القصير يغشاه نوم متقطع مريع. أنا التوتر والتأفف والعصبية الزائدة، أنا العيون الحمراء والألسنة السليطة والكلمات الساقطة.
أنا الخريف، أنا الذبول والسقوط والانحلال، قلبي شجر أصفر يتساقط ورقه رغما عنه، يحاول بكل قواه الخائرة أن يتشبث بأزهاره، بغصونه، بعصافيره، بأي شيء. فيفشل فشل بطل كرة شاخ وفقد ألقه. أنا الصمت البارد والهدوء المريب والريح المستعجلة. أنا الشحوب والضمور، أنا سيارات أجرة دون ركاب وقطار دون سكة، وساعة حائط دون حائط، أنا الوقت الذي لا يمر والانتظار الذي لا ينتهي، والتأخير المستمر. أحسب الساعات وأوراق الشجر وأنتهي بالانكماش.
أنا الفصول على اختلافها، شتاء يغرقني في الشجن وربيع ينتشلني من الحزن، وصيف يشعل في أوصالي الغضب وخريف يجهض كل محاولاتي في التماسك.