فسحة قصيرة
جهاد بريكي
قضيت نهاية الأسبوع المنصرم في منطقة قروية بعيدة، يعود أصلي إليها، منها جاء أجدادي ومنها جئت دون أن يطلب أحد رأيي. جو جاف ويقطين شهي. هواء نقي، جبال متماسكة، شمس مشرقة، نجوم كثيفة تستحيل رؤيتها في المدن. والأرض. أسمع ناسها يتكلمون ويضحكون ويتسامرون، فأمعن النظر في عيونهم وملامحهم وأنصت لهمومهم. فأرى إنسانا لم أعتد عليه، رقيقا بسيطا يصنع بهجته بما تغرسه يداه. ثم أقلب نظري وسمعي وأتأمل سكان المدن، تفاصيل وجوههم الشاحبة وعيونهم الذابلة. فأرى إنسانا أشبهه، أرى الآلة. أرى الحديد والإسمنت وقليلا من اللحم والدم. أرى الآلات الحاسبة والفواتير ودخان السيارات، أرى الأحذية الرياضية وسراويل الجينز الضيقة وربطات عنق ملونة كأنها المشانق. أرى الثامنة صباحا وسهرة السبت، وأعياد الميلاد وحفلات الطلاق.
الأرض، رائحة التراب البني الممزوج بعرق الفلاح عند الغروب، تعيدك إلى البداية. هنا قرر جدك يوما ما أن يترك كل شيء وراءه ويمضي بحثا عن المال، عن العلم، عن القوة، عن السلطة عن الجاه. حمل ميراثه وأغراضه وهام على وجهه. فهل حمل الإنسان معه في رحلته تلك!؟ أم نسيه هناك، لتعثر عليه أنت كلما وطئت رجلك منطلق الرحلة!؟
أستيقظ باكرا، دون منبه مستفز، ودون سخط شبه يومي، صوت مؤذن يخبرك أنك منحت يوما جديدا لتعيشه، فقرر كيف تريده أن يكون، لقد أردته يوما لطيفا لا يزعجني فيه شيء. أنتبه للصمت الغريب، وأبحث تلقائيا عن أصوات السيارات التي صارت جزءا من يومي فلا أجدها، أجد صوت دجاجة توقظ زميلاتها، وكلبا يحاول لفت انتباه صاحبه وبقرة تنتظر من يحلبها. وامرأة طاعنة في السن تجر عربة في طريقها لجلب الماء تسبقها طفلة على ظهرها محفظة، تمسك بيد أصغر من يدها هي يد أخيها، يتوجهان لمدرسة صبغت بوردي مبهج، ظفائرها طويلة وناعمة، وجهها كدائرة متقنة الرسم. أراقب البسمة المطبوعة فوق الثغر الصغير واليد الملوحة لي بالسلام وأضحك. أقترب فأسألها عن المدرسة، عن المعلم وعن الدروس، وعن الأحلام الكبيرة. كان حلما واحدا، أراه صغيرا وتراه كبيرا، أن تصبح أستاذة تدرس في مدارس الدار البيضاء. تلفظت اسم المدينة فلمعت عيناها.
أترك لقلبي الحرية في اختيار الإحساس المناسب، أتجرد من الماضي والحاضر والمستقبل، من الطموح ومن الصراع. فيختار إحساس العودة للبيت بعد سفر عسير وطويل. إحساس الرجوع إلى الرحم، يختار شعور الدفء الذي تجده عند التحامك بأمك. أنا في مكاني الذي نزحت منه، لظروف قاسية. أتحسس جوارحي فأجدني ناعمة، مسالمة، على استعداد لأعانق ألد خصومي، وأسامح خيانة الحبيب السابق واللاحق.
رغبةٌ في الضحك تستأذنني، طفولية وبسيطة، تثيرها دجاجة تعثرت ببيضتها، أو حمار اصطدم بصاحبه أو طفل يلاحق قطة. لا أثر للوسواس الذي يجعل عيني ملتصقة بالهاتف، لعل مكالمة مهمة تأتي، أو رسالة منتظرة تظهر. يمر اليوم، ولا أحتاج للشاحن، ولا أتذمر لأن صبيب الأنترنيت غير كاف لإشباع فضولي في التجسس على الخصوم وتتبع أخبار المشاهير والمجاهيل. كل ما أحتاجه عينين تبصران الأفق، وأذنين تنصتان للنسيم يداعب الحقول وقلبا يبخع للأرض اللامنتهية.
قروية بجمال لا يوصف، غير منتبهة لجمالها ولا لعينيها اللتين تشبهان عيني غزال شارد، ولا للقوام الذي تلاحقه الفنانات البئيسات، والذي يدر على مصحات التجميل ملايين طائلة، غير مكترثة لبشرتها الصافية ولشعرها الثائر ولخدها الوردي. غير منتبهة لي، أنا التي أتخيل حجم الذهول الذي سيعتري العالم لو وضعت صورة لها على غلاف مجلة عالمية ترتدي فيها فستانا أزرق من دار أزياء باريسية. تطبخ الخبز، خبزها أنساني خيالاتي وجعلني أسألها، أي سحر تمارسينه لتصنعي خبزا بطعم الشهد. تضحك، وتخبرني أن الماء وأعواد الشجر والفحم والخميرة الطبيعية هي السبب. لكني لا أقتنع، كيف لخبز تعجنه فاتنة كتلك أن لا يكون بهذه الروعة!؟ تقدمه لنا مع قليل من زيت الزيتون، وكؤوس الشاي وابتسامة، فيتحول العالم لحفلة راقصة.
تسألني عمة لأمي بعدما قبلتني خمس قبلات متتالية مصحوبات بعناق حار، مع أنها لا تدري ابنة من أنا. إن كنت بخير وإن كنت أعرف شيئا عن اللقاح الجديد، أحاول تبسيط الأمر لها، فأشرح لها بتأن، تتنهد وتقول إن كل هذا بسبب البشر الذين يعتدون ولا يهتدون. أسألها عن عمرها، فتخبرني أنها تزوجت عندما عاد الملك من المنفى، وتتركني أهيم في حسابات كثيرة. تخبرني أنها كانت مولدة خلال شبابها. أسألها كيف كانت تفعل ذلك!؟ تصف لي طريقتها في توليد نساء القرية بالتفصيل، ذاكرة حادة وسمع جيد وعينان تبصران الطائر المحلق في السماء البعيدة وروح مرحة. أسألها إن حدث وتعسرت ولادة بين يديها، تخبرني أن ذلك لم يحصل، فعلى الرغم من كونها امرأة أمية إلا أن بداخلها طبيبة نساء موهوبة. فأضحك. ثم تودعني بدعاء غريب، تقول: جعلك الله بقوة مائة شخص، تنجزين وحدك ما ينجزون جميعا. أؤمن على الدعاء وأنا أنظر إلى الكائن الإسمنتي الكسول المتعب بداخلي.
أعود أدراجي إلى العالم الحديدي الذي أعيش فيه، أراقب المارة عاقدي الحواجب، وسائقي السيارات الفاخرة متجهمي الوجوه، الضوء الأحمر والخطوط الحمراء والعيون الحمراء، والشرطي الذي يصرخ بصفارته فيصيب رأسي بالارتجاج، يوقف السيارة ويطلب الأوراق، من أين أتيت وإلى أين تذهب!؟ لقد خرقت القانون، ادفع. أركب مصعد العمارة، ورقة معلقة كتب فيها أن أجل دفع مستحقات الاعتناء بالعمارة قد استوفى، أخرج المفاتيح وأفتح باب بيتي، رائحة الفراغ، أفتح الشباك لطرد الرطوبة، فأجد الإسمنت يحد بصري والزجاج يعكس صورتي، أسمح لقلبي بأن يختار الشعور الذي يريد، فيختار شعور الاختناق.