تكلمت مع صديقة قبل أمس حول الأوضاع في المغرب فوجدت أنها متوجسة مما نشاهده ونسمعه في منصات وسائل التواصل الاجتماعي من «حشد» للغضب والاحتجاج، وقالت إنها غير مرتاحة بسبب كل ما تسمع وترى.
قلت لها عليك نسيان كل هذا «الفاست فود» الرقمي الذي تستهلكين من شبكات التواصل والعودة إلى النبع، أي إلى الكتب المؤسسة، واقترحت عليها إعادة قراءة الباحث الأمريكي جون واتربوري الذي كان أحسن أجنبي فهم المغرب والمغاربة.
وحسب واتربوري فالمغرب يبدو دائما على أهبة الانفجار الذي لا يحصل أبدا. وقد أعدت مؤخرا الاستماع إلى حوار أجراه صحافي فرنسي مع الراحل عبد الرحيم بوعبيد سنة 1972 فوجدت أنه يتحدث عن المشاكل نفسها التي يتخبط فيها المغرب اليوم، وكأنه يصف واقعنا في 2023.
يسرد واتربوري حكاية وقعت له سنة وصوله إلى المغرب مع اندلاع انتفاضة 1965. كان المهدي بنبركة قد اختطف للتو والبلاد تعيش حالة الطوارئ. خرج واتربوري بعدما سمع جلبة في الشارع وأخبر زوجته أن تبلغ السفارة الأمريكية إن هو لم يعد بعد ساعتين إلى البيت. تقدم عبر دروب الرباط بحذر، ولما وصل إلى غايته وجد بضعة طلبة، فيما في الملعب المقابل لكلية الآداب كانت هناك مباراة لكرة القدم تجمع فريقي الرباط والبيضاء. العبرة التي استخلصها واتربوري من هذه الحكاية هي أنه في المغرب لا شيء يحصل في الواقع كما يمكن أن نتوقع منطقيا.
لذلك فمن يعتقد أن بأغنية راب ساخطة أو بمقالة نارية أو ببودكاست باستطاعته إسقاط أو مجرد زعزعة نظام لم تفلح في إسقاطه الطائرات المقاتلة في السماء ولا المدرعات على الأرض، عليه أن يعيد قراءة واتربوري.
لكن مع ذلك أتفهم هواجس الصديقة، فهي طبيعية وعادية خصوصا في ظرفية صعبة يعيشها المغرب وسط محيط إقليمي ودولي ملتهب.
وسنكون واهمين إذا اعتقدنا أن ثقافة العدوانية التي يتبناها من يسمون أنفسهم بـanti système أو الـgangster، أو «القباحة»، ليس لها أتباع في المغرب. فقد تحولت «القباحة» إلى نموذج يقلده الأطفال والمراهقون ويسعون للحديث بنفس طريقتهم مرددين moder faker، مرتدين نفس السراويل الهابطة والثياب التي تشبه الأسمال وترديد نفس اللغة البذيئة التي نصف كلماتها شتائم. وهؤلاء ليسوا قلة، فعددهم يصل حوالي ثلاثة ملايين وهم من المراهقين والشباب الذين يمثلون سبعين بالمائة من العاطلين عن العمل.
ويبدو أن قنوات التواصل الاجتماعي في المغرب بين الشعب ومسؤوليه تغيرت، فلم يعد الممثلون في البرلمان أو النقابيون أو الأحزاب السياسية هم من يحمل مطالب وانتظارات الشعب وغضبه نحو مسؤوليه، بل أصبحت جماهير الإلترات في الملاعب هي من يعلق اللافتات حيث لائحة المطالب، وتؤلف الشعارات التي تختزل معاناة الشعب وآلامه..
أما الشباب فملاذهم الوحيد الْيَوْمَ هو أغاني الراب التي تلخص حالة التيه الوجودي الذي يعيشونه في بلد فشل سياسيوه في توفير الشغل والكرامة لأبنائه العاطلين وتركهم يغوصون في الرمال المتحركة للإدمان على جميع أصناف المخدرات والمهيجات.
الراب نوع من التعبير الموسيقي لا يحتاج تكوينا في الصولفيج أو إجادة على العزف على آلة موسيقية، حتى أنه لا يحتاج صوتا رخيما، كل ما يحتاجه علبة إيقاعات وصوت نشاز وملامح «قبيحة» وأوشام، والبقية تصنعها الكلمات، وكلما كانت الكلمات بذيئة كلما حقق الطراك انتشارا أوسع.
الراب أعطى الشباب فرصة أن يصبحوا رابورات، وهي مهنة يعيش بها كثيرون ويكسبون الملايين شهريا بعائدات المشاهدات على قنواتهم في اليوتوب، وأهم من ذلك بالنسبة للشباب أنه يحقق لهم الشهرة التي يحلم بها أي واحد منهم.
وفِي الراب المغربي هناك الروابة الذين يعطون الانطباع أنهم «قباح»، رغم أن أي واحد منهم لم يقض ليلة واحدة في الكوميسارية ووجهه ألمع من «طبسيل دلبديع»، أي أنهم يتصنعون القباحة لكي يظهروا أمام معجبيهم «صلاب»، مثل البيغ.
وهناك نوع آخر هو أصلا منتوج خالص للسجون، «محبس وشابع صونطورو»، هؤلاء «عندهم كي الرباح كي الخطية»، فهم متصالحون مع كونهم «وجوه الشرع»، وأن قدرهم هو أن يعيشوا طوال حياتهم كبرمائيين، فترة داخل السجن وفترة خارجه.
هؤلاء يمنحهم الراب فرصة إثبات ذواتهم، يمارسون نوعا من السادية ضد أنفسهم وضد المجتمع، وتستهويهم فكرة التحدث باسم الشعب، ولعب دور المخلص والمنقذ الذي يفدي البسطاء والفقراء بحريته وحياته.
والمشترك بين هذا النوع الثاني من الروابة هو أنهم كلهم لديهم عدو واحد مشترك هو الدولة، واليوم هناك تسابق بين الروابة حول من سيشتم الدولة أكثر من الآخر طالما أن هذا الموضوع هو الذي يحتل قمة الطوندونس، ويجب انتظار موجة من الطراكات في القادم من الأيام حول هذا الموضوع، وهو أمر عادي جدا ودليل على أن صفارة كوكوت المجتمع تشتغل بشكل جيد.
وكما يقول سواسة «ملي كاتكون الكورارة واسعة كلشي كايبغي يلعب أحواش»، فالجميع يريد أن يظهر بمظهر المعارض المناضل «القبيح» المستعد للتضحية من أجل الشعب، ومنصات التواصل الاجتماعي سهلت هذا الحلم، أو الوهم.
الدولة من جانبها أصبحت ملقحة ضد الخوف الناتج عن إعطاء الأشياء أكثر من حجمها الطبيعي، والنهايات غير المتوقعة، والمخجلة أحيانا، لرموز ووجوه و«أيقونات» حركة 20 فبراير خير دليل على أن الدولة متقدمة بسنوات ضوئية على الحراكات ومستعدة للتعامل مع أسوأ السيناريوهات.
إذا كان واتربوي قد انخدع بصوت شعارات في الشارع حسبه مظاهرة فيما كان مجرد زعيق جماهير الكرة، فإن الزعيم المصري سعد زغلول حدث معه نفس الشيء في القاهرة عندما كان على فراش الموت، فنظر إلى زوجته وقال لها: “غطيني يا صفية مفيش فايدة”. وكان يقصد الوضع السياسي في مصر في مجمله آنذاك.