يعرف دارسو تاريخ الفكر إلى أي حد شهِد الفكر السياسي على الانتكاس والتراجع، طوال حقب العصر الوسيط، مقارنة بما كانت عليه حاله في العهد الهلليني الإغريقي والعهد الروماني الأول قبل المسيحي (أي قبل القرن الثالث للميلاد). ومن أظهر القرائن على ذينك الانتكاس والتراجع أن التفكير في مسألة المواطن، مثلا – وهو التفكير الذي كان مألوفا من قبل – اختفى تماما، وعزت الأدلة عليه في مؤلفات مفكري العصور الوسطى وفلاسفتها. والحق أنه بمقدار ما انتكس التفكير في مسألة المواطن، في هذه العهود، في سياق انتكاسة إجمالية للفكر السياسي، تراجعت علاقاتُ المواطَنة وبنيتها ومَقامها في دول تلك العهود: أوروبية كانت أو غير أوروبية.
ولعلنا نعزو أسباب الانتكاسة تلك (في نظام المواطَنة) إلى أسباب ثلاثة متضافرة الأثر، نكتفي بالإشارة السريعة إليها. أولها، انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية تحت وطأة ضربات البرابرة الجرمان وبعدها، سقوط الدولة البيزنطية على أيدي العثمانيين، وثانيها، انفلات سلطان الكنيسة الغربية – التابعة لروما – من كل عِقال وصيرورتها القوة السياسية والاقتصادية والمالية المتحكمة في ممالك أوروبا وإماراتها جميعِها (خاصة بعد الذي عُرِف باسم «الإصلاح الغريغوري» الذي أطلق يد الكنيسة في كل شيء، بدءا من النصف الثاني من القرن الحادي عشر للميلاد)، أما ثالثها فطغيان نموذج سياسي رث – في تلك العهود – هو نموذج الاستبداد العثماني في بلاد الإسلام.
ولم يكن عالم الإسلام ليختلف في هذا عن العالَم الأوروبي المسيحي. ومع أن الفلسفة السياسية لم تتجدد – بعد خريفها في العالم الإغريقي – إلا في الثقافة العربية الإسلامية، وعلى يد فلاسفة مثل الفارابي، والعامري، وابن سينا، وابن باجة، وابن رشد، إلا أنها ما عرفَتْ مفهوم المواطن ولا شُغِلَت به لسبب معلوم؛ هو اتصال وجودِه وإمكانه بوجود المدينة (الدولة في مفهومها اليوناني) وإمكانها: هذه التي لا مقابل لها في الدول التي قامت في بلاد الإسلام. هكذا سيكون على مبدأ المواطنة أن يهجع هجعة مديدة منذ ذلك الحين من العصر الوسيط، وإلى أن تجدد الحديث فيه في القرن السابع عشر، في نطاق الفلسفة السياسية الحديثة (مع فلاسفة العقد الاجتماعي خاصة)، وإلى أن أُعِيدَ العملُ به – ثانية – في الهندسة السياسية للدول الحديثة.
أول ما يسترعي انتباه القارئ في نصوص فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر (توماس هوبز، جون لوك، باروخ سبينوزا، مونتسكيو، جان جاك روسو، إيمانويل كانط…) أن مفهوم المواطن في فلسفتهم لم يتغير عما كانه في أصوله اليونانية، بوصفه ذلك المشارك في الحياة السياسية؛ إذ في هذه المشاركة في الشؤون العامة – لا في الانتماء إلى البلد فقط – يكمن مبدأ المواطنة. هذا جان جاك روسو، مثلا، يؤاخذ جان بودان – منظِّر فكرة السيادة في الفكر السياسي الحديث – كما يؤاخذ الفلاسفة الفرنسيين، على عدم تمييزهم بين المواطنين بهذا المعنى الذي ألمحنا إليه – أي بوصفهم مشاركين في الحياة السياسية – وسائر من يجاورونهم في المسكن مشيرا، في هامشٍ من كتابه في العقد الاجتماعي، إلى أنهم (أي الفلاسفة) «لا يعلمون أن البيوت تصنع مدينة، بينما يصنع المواطنون دولة».
لا غرابة، إذن، إنْ لم تعترف الفلسفة الحديثة بمواطنية العبيد والنساء، نظير عدم اعتراف فلاسفة الإغريق بها، كما لا غرابة إنْ لم تلْحظِ الدولةُ الحديثة الحقوق السياسية لهذه الفئات – أُسوة بالمواطنين – على نحو ما فعلتْه، تماما، الدساتير اليونانية التي حللها أرسطو. مع ذلك، لن يكون في وسع أحدٍ أن يتجاهل مكتسباتٍ عدة تحصلتها مجتمعات أوروبا وأمريكا من ثوراتها السياسية الحديثة ودساتيرها؛ فلقد مَثّل الدستور الأمريكي، مثلا، كما وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أقرتها الثورة الفرنسية، وصادق عليه مجلسها التأسيسي، منعطفا في النظر إلى حقوقٍ مدنية وسياسية نبهت إليها فلسفة السياسة منذ هوبز وسبينوزا حتى الثورة الفرنسية. غير أن الذي لا يستطيع القارئ في الوثيقتين التأسيسيتين معا (الأمريكية والفرنسية) أن يمنع نفسه منه هو ضغط الشعور عليه بأن في الوثيقتين قدرا من الغموض يتعلق بالفارق بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن، وقدرا من الشك في أن تكون حصة الأخيرة (حقوق المواطن) أوفر، على ما في الوثيقتين من الإفاضة في الحديث عن حقوق الإنسان بإطلاق.