شوف تشوف

الرأي

عن علمانية سوريا وليبرالية تونس

 

 

ياسر عبد العزيز

 

قبل عقد، وقعت أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربى» في سوريا وتونس، فأما سوريا فقد أخذها «الربيع» إلى حرب أهلية لم تضع أوزارها بعد، وأما تونس فبدا أنها نجت من أهوال الاقتتال الأهلي، وإن لم تبرأ من نزعات الصدام والاضطراب.

وفي تداعيات ما جرى، ظهر أن أحد أهم المكتسبات التي حظي بها الشعبان السوري والتونسي، في حقبة ما قبل «الربيع»، آخذ في التبدد والتبدل؛ فعوضا عن أوضاع دينية واجتماعية شهدت قدرا كبيرا من الانفتاح والحرية، بدا أن نزعات كامنة من التحجر والتصلب والتطرف الفكري المستند إلى دعاوى دينية، تنفجر وتتبلور وتفرض شروطها وأحكامها على الواقع.

ظهر «داعش» في سوريا، ومعه عشرات من الفصائل المقاتلة التي اتخذت من تأويلات دينية ذريعة لوجودها واستخدامها السلاح، وفي تونس ظلت حركة «النهضة»، التابعة لتنظيم «الإخوان»، عنوانا سياسيا أساسيا لكل ما جرى من تطورات على صعيد الحكم والدولة والمجتمع حتى وقتنا هذا، بكل ما تمتلكه تلك الحركة من ميراث متطرف وأحادي وإقصائي.

اجتماعيا ودينيا، جسدت سوريا وتونس في أزمنة الرؤساء حافظ وبشار الأسد، وبورقيبة ومن بعده زين العابدين بن علي، ما يمكن وصفه بواحتين للحرية والانفتاح في ما يخص القيم والتوجهات والعلاقات الاجتماعية والدينية.

وكان من المتداول عن سوريا مثلا أنه «يمكن لك أن تنتقد الأديان والمقدسات وتعود إلى بيتك آمنا سالما، لكن لا يمكن لك أن تنتقد الحكومة أو الزعيم وإلا أُطيح عالمك»، أما تونس، فقد كانت مضرب الأمثال في احتفائها بحقوق المرأة، وانفتاحها الاجتماعي.

يقول باحثون متخصصون إن دوافع الانفتاح والليبرالية الاجتماعية والدينية في سوريا، جاءت من الوضعية الطائفية لرأس النظام، والعداء السافر مع المكون «الإخوانى» وقاعدته السنية، وليس من منطلق الإيمان بالحرية ذاتها. وفى الحالة التونسية يعتقد هؤلاء أن النموذج القاسي من العلمانية الذي ظهر في عهد بورقيبة، واستمر من بعده، إنما تم استلهامه من العلمانية الفرنسية المتهمة أحيانا بالحدة والجنوح.

وقد عرفنا لاحقا أن النزعة العلمانية في البلدين، واتخاذ مواقف حادة حيال بعض أنماط التدين والسلوك الاجتماعي المحافظ، وما ظهر من توجهات وممارسات طبعت الحياة الدينية والاجتماعية والفكرية في كليهما، لم تنعكس في تمتين الدولة والمؤسسات والمجتمع، ولا أفلحت في الحفاظ على التماسك الوطني، ولا حفظت الدولتين من الاضطراب والصدام.

سنستخلص من ذلك التاريخ، الذي عمدته الدماء وسجلته الحروب والمشاحنات، أن العلمانية والانفتاح الاجتماعي و«العقلانية» الدينية لا يمكن أن تُفرض من أعلى إلى أسفل، وأن امتلاك النظام السياسي مشروعا وإرادة مُلحة لإنفاذها ليس كافيا لغرسها أو إدامتها، طالما أن ذلك لم يكن عملا مدروسا وتشاركيا بين النخبة والمواطنين، وطالما أنه لم يأت نتيجة لتطور سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي ممتد في الزمن.

وسنستخلص أيضا أن العلمانية والليبرالية الاجتماعية والانفتاح وقبول الآخر والابتعاد عن التوسل بالدين لتحقيق أغراض سياسية، كلها قيم ومعان إيجابية ومطلوبة، لكنها لا تزهر أو تصمد أو تستديم ويظهر أثرها إلا في بيئة عامة تتميز بالانفتاح والحرية أيضا.

لا يجب أن نتوانى عن دعواتنا لتبني العقلانية والانفتاح واحترام التعدد في المجالين الديني والاجتماعي، وسيتعزز هذا ويثمر عندما نتبنى القيم ذاتها في غيرهما من المجالات.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى