شوف تشوف

الرأي

عن القطب والأقطاب

وجهت القيادة الروسية رسالة إلى القمة العربية، التي انعقدت في الجزائر، حسب ما نقلت الأنباء، تتضمن المعتاد من رغبة روسيا في تعزيز التعاون مع العالم العربي. لكن الإشارة التي ذكرتها بعض التقارير إلى اعتبار روسيا العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط مهمين في التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب، هي التي لفتت نظري.

فموسكو تكرر، ومعها الصين أحيانا، منذ فترة أن المشكلة مع أمريكا والغرب هي ضرورة تجاوز العالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، لا تكون فيه الهيمنة لقوة عظمى وحيدة، هي الولايات المتحدة. في المقابل فإن الهدف الرئيسي للاستراتيجية الأمريكية لوقف صعود الصين وروسيا، هو تعزيز الريادة الأمريكية لما تسميه «تحالف غربي واسع»، واستعادة المكانة الدولية لواشنطن، التي ترى إدارة الرئيس بايدن أنها تراجعت.

ومن بين التفسيرات للحرب في أوكرانيا، أن روسيا إنما تتصدى لهيمنة القطب الواحد، وأن أمريكا تسعى إلى استنزاف روسيا في أوكرانيا، وأيضا جر الصين لاستنزاف اقتصادي وغيره بالحصار الاقتصادي لموسكو، والعقوبات المتصاعدة على بكين. ويبدو الوضع وكأننا نعيش أجواء الحرب الباردة التي انتهت بأواخر ثمانينيات القرن الماضي، بانهيار الاتحاد السوفياتي، الذي مثل القطب الثاني أمام أمريكا في عالم ثنائي القطبية.

ورغم أن كل ذلك الإنشاء السياسي قد لا يخلو من بعض الصحة، إلا أن العقل والمنطق يدفعان نحو التمحيص الشديد لمسألة القطب والأقطاب، وحتى كل الحديث عن «نظام عالمي جديد».

بداية، ورغم أن روسيا باعتبارها أكبر دولة كانت ضمن الاتحاد السوفياتي أصبحت وريثته، منذ نحو ثلاثة عقود، إلا أنها ليست الاتحاد السوفياتي السابق. ولا أتصور أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «يسعى إلى إحياء الاتحاد السوفياتي»، كما يصور بعض الكتاب في الغرب، وأنه يريد فعل عبر ضم ما تفتت منه بالقوة المسلحة. حتى وإن كانت موسكو تريد أن تعامل من قبل أمريكا والغرب، والعالم بالتالي، على أنها قوة يتعين احترام مصالحها.

فحماية المصالح والعمل على تعزيزها شيء، والسعي نحو القطبية العالمية شيء آخر. وقد يكون ذلك ما يجعل كثيرين يرون أن سعي روسيا نحو عالم متعدد الأقطاب، مقدمة لريادتها لقطب مناوئ لأمريكا في قيادتها للغرب، ضمن إعادة إنتاج «ثنائية القطبية»، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

لا حاجة إلى توضيح أن روسيا ليست في وضع قوة يمكنها من ذلك، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا، وأن كل محاولتها حتى لفك الارتباط الأوروبي بأمريكا ولو قليلا لم تنجح على مدى نحو عقدين.

في الوقت نفسه، فإن سعي أمريكا إلى تعزيز ريادتها لتحالف غربي على أساس «التصدي للأطماع الروسية»، إنما يغذي بالتفريغ السلبي فكرة أن مكانة أمريكا كقطب وحيد في العالم تتراجع فعلا. لكن بالتأكيد ليس بالقدر الذي يضعها في ذات المستوى مع روسيا، ولا حتى الصين التي تقدمت اقتصاديا بقوة، في العقود الأربعة الأخيرة.

ثم إن العالم، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي يسعى للوصول إلى نظام جديد يحكم العلاقات الدولية، بعد نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين: الشرقي والغربي. وفي تلك العقود برزت قوى صاعدة على الساحة الدولية، بعضها اقتصادي، مثل تجمع «بريكس»، الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وبعضها على شكل تحالفات وتجمعات إقليمية أخرى.

في النهاية، لم يشهد العالم لا صعود «قطب» أو «أقطاب» تقف على قدم المساواة مع القطب الأمريكي الوحيد، ولا هو اقترب حتى من صياغة نظام عالمي جديد. ومن الصعب تصور أن الحرب في أوكرانيا، على أهميتها وخطورتها، ستؤدي إلى تشكل مثل هذا النظام الذي يتحدث الكل عنه الآن. فنظام عالمي جديد قد لا يتشكل على الأرجح، إلا نتيجة حرب عالمية ثالثة مثلا.

كل ذلك لا يقلل من أهمية أن حالة «الميوعة» العالمية التي نشهدها، تمثل فرصة لكل من يرغب في تعظيم مكانته وتوسيع مصالحه، والسعي للعب دور إقليمي أو دولي. ومن حق العرب، بل وواجبهم، انتهاز تلك الفرصة إذا أرادوا الصعود على الساحة الدولية – ليس بالضرورة كقطب مناوئ لأقطاب، ولكن كقوة يحسب لها حساب وتؤخذ مصالحها في الاعتبار من قبل القطب أو الأقطاب.

ليس بالضرورة أن يكون ذلك من خلال الانحياز إلى روسيا، أو حتى الصين، على حساب علاقات العرب مع الولايات المتحدة والغرب. فذلك فضلا عن كونه غير منطقي حاليا، فإنه لا يحقق أفضل المصالح العربية. ولعل الموقف الذي اتخذته أغلب الدول العربية من رفض الاصطفاف خلف أمريكا في موضوع أوكرانيا، وفي الوقت نفسه عدم تأييد أو دعم التدخل العسكري الروسي في شرق وجنوب جارتها، هو الموقف الأكثر صحة والأنسب للمصلحة القُطرية لدول المنطقة، وللمصالح الإقليمية بشكل عام.

يبقى في النهاية أن الأقطاب لا تتكون بقرار، أو دعوات واجتماعات وبيانات. إنما هي عملية مثمرة قوامها العمل الجاد في بناء القوة الذاتية وإدارة العلاقات مع الآخرين على أسس الندية والمصالح المشتركة. وأن يكن في خلفية التفكير أن أحدا لن يمنحك مساحة لم تكتسبها بقدراتك، يستوي في ذلك الأمريكيون والغرب مع الروس والصينيين.

أحمد مصطفى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى