شوف تشوف

الرأيالرئيسية

عن الحمقى والمجانين..

لماذا لا يهتم أحد في المغرب بتاريخ الحماقة والجنون، ما دامت الكلمات التي تنتمي إلى هذا الحقل، والتوصيفات المشككة في السلامة العقلية، والتي يطلقها المغاربة على بعضهم البعض، تُتداول يوميا أكثر من تحية الصباح والمساء؟

الأجانب الذين أقاموا في المغرب وكتبوا عنه انتبهوا إلى هذه المسألة. وهي ظاهرة ما زالت موجودة إلى اليوم، رغم أن أشياء كثيرة تغيرت. لكن المرضى الذين يجوبون الشوارع لا يزالون مشهدا أساسيا في الأماكن العمومية، قرب الحدائق، بل وفوق كراسيها، وخلف أسوار المعامل، وقرب المحطات الطرقية، تجد دائما متشردا يهيم في عالمه الخاص غير عابئ بأحد.

والخطير أن هناك بعض المرضى النفسيين الذين يشكلون تهديدا على الناس. إذ إن الواحد منهم يمكن أن يمسك في يده حجرا أو سكينا ويصوبه في اتجاه المارة، دون مقدمات، وقد حدث هذا أكثر من مرة. حتى أن العائلات التي يوجد بين أفرادها مضطربون نفسيا، لا تكلف نفسها عناء رعايتهم أو تفقد أحوالهم، وتردد دائما الجملة المغربية الشهيرة التي تُقال كلما اشتكى أحد ما من الشخص المريض: «مريض وعندو الأوراق».

كما لو أن الأمر يتعلق بمركبة تابعة لوزارة التجهيز، وليس مواطنا يجب ألا يُسقط عنه المرض النفسي أو العقلي حقوق المواطنة.

حتى عندما تم إغلاق أشهر تجمع للمرضى نفسيا، «بويا عمر»، قبل سنوات، لم تُوفر الرعاية لمرتاديه، بل تُركوا يتجولون في الشوارع بكل حرية، إلى درجة أن بعض الأسر لما علمت بالخبر سافرت بسرعة لكي تتفقد أحوال أقربائها، الذين قضوا سنوات هناك خلف أسوار «الضريح»، مكبلين بالسلاسل.

صحيح أن تلك الظاهرة كانت وصمة عار اجتماعية تنتمي إلى ظواهر القرون الوسطى، لكن القطع معها ما كان ليتم بنفس الحماقة والارتجال.

وبالعودة إلى الكتاب الأجانب الذين عاشوا في المغرب وانتبهوا إلى انتشار هذه الظاهرة، نجد أن أحد أهم القناصلة والدبلوماسيين الذين عملوا في المغرب، وهو السيد «هولت» والذي كان يعمل في مقر المفوضية الأمريكية بمدينة طنجة، وأرخ لفترة 1909 في مذكراته، بعد انتهاء خِدمته في المغرب.

هذا الدبلوماسي انتبه إلى ظاهرة انتشار الحمقى في الشوارع، وتملكه الفضول لكي يسأل عن قصة رجل مغربي، يبدو في الظاهر أنه أحمق، لكنه في الحقيقة كان يتمتع بكثير من الحكمة. مشكلة هذا المتشرد أنه كان يشرب كثيرا، ويعربد في شوارع المدينة وكثيرا ما اتهمه الناس بسب المقدسات، لكنه كان يفلت من العقاب، بدعوى أنه في حالة سُكر. ومن كثرة المرات التي كانت تتم فيها إحالته إلى السجن، رغم أنه كان يعاني مرضا نفسيا، وثق به الحراس بعد أن تأكدوا أنه لا يُضمر أي نوايا إجرامية. ومرة أراد السيد «هولت» الاطمئنان عليه في السجن، ليكتشف أن حراس السجن كانوا يسلمونه المفاتيح، ويتفقون معه على حراسة السجناء، وبينهم قتلة وسفاحون.

هؤلاء الحراس كانوا يضعون أمن السجن بين يدي رجل يعاني من أمراض عقلية ونفسية، ويذهبون لقضاء الوقت مع أولادهم، خصوصا في الأعياد، وكلهم كانوا متأكدين أن الرجل الذي وثقوا به وسلموه المفاتيح لن يرتكب أي حماقة.

اليوم تغيرت أمور كثيرة في المغرب، من المستحيل اليوم أن يسلم حارس سجن مفاتيح الزنازين وباب «الحبس» إلى رجل آخر، حتى لو كان سويا. لكن المجانين هذه الأيام تسلموا ما هو أخطر من «سوارت الحبس». لقد أصبحوا يملكون هواتف نقالة ويتحدثون في كل شيء، ويقتحمون الحياة الخاصة للناس، ويشهرون بالمواطنين ويعرضون حياتهم للعامة، من أجل حوالات مالية بالدولار آخر الشهر.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى