عندما طرد حكام الجزائر مغاربة يوم عيد الأضحى وسكنوا في الخيام ثلاث سنوات
«جاء بعض الرجال الأقوياء، لا يتجاوز عددهم 5 أفراد، في سيارة من نوع «بوجو»، وطرقوا باب منزل الأسرة وطلبوا الحديث مع الوالد. عادوا مرة أخرى في المساء، ووجدوه بصدد تناول طعام العشاء مع أبنائه، فيما كان الصغار يلحون عليه لكي يتجه نحو الضيعة لإحضار كبش العيد، حتى يتسنى لهم اللعب معه». هذه صورة لما قبل الكارثة بقليل. بعد ذلك سيأتي رجال بلباس مدني مدججين بالسلاح، يجبرون كل المغاربة على إفراغ منازلهم وعدم حمل أي متاع معهم، ليتم وضعهم في شاحنات يحرسها رجال مسلحون لترمي بهم في الحدود المغربية الجزائرية. جزائريون كانوا يبكون على فراق أحبائهم المغاربة، ومصاهرات كثيرة تمزقت وتركت جرحا غائرا في نفوس هؤلاء الناس. 45 ألف عائلة موزعة في كل بقاع المغرب، لكل واحدة منها قصة مع «الحدود».
«ولاد الحدود».. عائلات مغربية شردتها الجزائر
بيت عتيق خلف شارع 2 مارس الشهير بالدار البيضاء. في شقوق الجدار تترسب قصص كثيرة، وفي البوابة الصدئة ملامح ترحيل إجباري من الجزائر، بعد أن نجح قاطن البيت في بناء حياة جديدة في مدينة تلمسان، وأسس أسرة هناك لتنقلب حياته رأسا على عقب. لم يعد يملك إلا أوراقا بالية مغلفة ببلاستيك يقيها فِعل الزمن، تؤرخ لوجود سابق على أرض أخرى، انتهى ذات عيد أضحى.
سيدة مقعدة اسمها لطيفة، تحمل وشما أصيلا أسفل ذقنها. لا تحب الصور وتقول إنها لم تلتقط لنفسها صورة، منذ اليوم الذي توفي فيه زوجها خلال سنوات الثمانينات، ليرحل بندبة كبيرة في القلب سببها تهجير إجباري، بعد أن كان قد بدأ حياته في الجزائر. لطيفة جزائرية، لكنها اختارت أن ترحل مع زوجها المغربي وأبنائها. لكنتها تحمل إشارات قوية من الشرق لا تخطئها الأذن. الموسيقى؟ لم تعد تسمع أي شيء. حتى أن صوت الناي يُدمي قلبها كلما عُزفت مقطوعة شرقية من بعيد. لم تعد تقوى على مواجهة أي شيء، منذ اليوم الذي أصبحت فيه مقعدة تسير على كرسي بعجلات. فكرت كثيرا وحزنت كثيرا على فراق أمها. بعض الجزائريين المقيمين في المغرب كانوا يتوجهون إلى الشرق بانتظام، وتوصيهم بحمل أخبار عائلتها إليها، بعد أن تدلهم على منزل والديها هناك. مرة عاد أحدهم، وحمل إليها رسالة من إخوتها، وعلمت وهي التي لا تقرأ ولا تكتب، أن سطور الرسالة كانت تحمل خبرا سيئا. كان والدها قد فارق الحياة وبعده أمها بأشهر قليلة فقط حزنا عليه، هي التي رحلت قبل عقود مع زوجها، وحزنا على شريك حياتها لأنه كان يردد دائما أنه فقد ابنته.
شاب في مقتبل العمر، اسمه محمد، بذقن أشعث وعينين تحملان الكثير من الألم الظاهر. يحمل معه قصة حياة عاشها بكل تفاصيلها رغم حداثة سنه، وقصة حياة أخرى كبرت معه هنا في بلده، ولم يمر عليه يوم دون أن يتذكر فيه أن والده كان يملك زمام حياة رغيدة في الجزائر، قبل أن يُكتب عليه أن يأتي إلى خيمة على الحدود، ثم تمنحه الدولة سكنا وظيفيا صغيرا يقيه وأبناءه مرارة التشرد إلى أن يشتد عودهم، ويتسوس عوده هو. في أيامه، كان يملك عددا من المنازل في الجزائر، بالإضافة إلى بيت كبير من ثلاثة طوابق. انتهى كل شيء في الأسبوع الثالث من شهر دجنبر، عندما قررت السلطات الجزائرية وقتها أن يتم ترحيل المغاربة إجباريا، لأنها لم تعد ترغب فيهم.
لكن المثير أن الخلاف السياسي الذي كان بين الرباط والجزائر، عصف بحياة عدد من الأبرياء الذين لم يكونوا يفقهون شيئا في السياسة. حتى أن الذين تم ترحيلهم في هذا الإطار، وجدوا في وجدة مواطنين جزائريين كانوا يعتصرون ألما وهم يسمعون كيف أن مغاربة الجزائر قد جُمعوا في الخيام. ويروي البشير، وهو ابن أحد الذين تحدثنا إليهم في هذا الملف، أنه كان في العشرين من عمره عندما رأى كيف أن مواطنا جزائريا مسنا كان يأتي إلى مكان المخيمات، ويسأل عن الاسم العائلي لأحد أصدقائه المغاربة الذي كان مستقرا بالجزائر.. وعندما وجده بعد سنة ونصف السنة من البحث المضني، انخرط الاثنان معا في نوبة بكاء حاد عجزا خلالها عن الكلام، لأن ما جمع بينهما كان أكبر من أن تفرقه الحدود، خصوصا أن الجزائري كان قد جاء إلى المغرب ليستقر به نهائيا بتشجيع من صديقه المغربي، الذي كان قد اختار الجزائر ليستقر بها ويتزوج جزائرية.
وزارة الداخلية رفضت رد الصاع ولم تُرحّل جزائريا واحدا
يشعر جزائريون كُثر بالحسرة على ما آلت إليه الأوضاع سنة 1975، خصوصا منهم الذين كانوا يقطنون في المغرب ولا يزالون. عندما وصل خبر تجميع الجزائر للمواطنين المغاربة ورميهم في الحدود، إلى الرباط تحركت وزارة الداخلية وقتها عبر مكتب الشؤون السياسية ومصالح إدارية أخرى، إلى الاتصال بالسلطات المحلية في مدينة وجدة، وإصدار تعليمات عاجلة لاستقبال المُرحلين وتوفير الخيام حتى لا يبيتوا ليلتهم الأولى في العراء.
لكن الليلة الأولى تحولت إلى ليال طويلة في الخيام، ببردها وحرها، ولم يتفكك المخيم إلا في أواخر سنة 1977 عندما تم إدماج الـ45 ألف أسرة التي تم ترحيلها من الجزائر إلى الحدود. يحمل الكثيرون من الذين التقيناهم ذكريات كثيرة عن ذلك المخيم، حتى أن بعضهم يحملون إهداءات منه على أجسادهم ويحملون معهم آلاما في المفاصل نتيجة تعرضهم للبرد الشديد، وتروي سيدة اسمها لطيفة بلحاج، وهي من الأمهات اللواتي تم ترحيلهن من الجزائر بالرغم من أصولها الجزائرية، أن بعض النساء وضعن أبناءهن في المخيم وتمت عمليات الولادة في ظروف بدائية جدا، وكانت السلطات المغربية توفر بعض الدعم للعائلات في انتظار انتهاء الأزمة.
في الرباط، كانت بعض المشاورات قد جرت بين موظفين في وزارة الداخلية لاقتراح ترحيل المواطنين الجزائريين ورميهم في الحدود كرد مغربي على ما قام به هواري بومدين، الذي كان وقتها يقود سياسة عدائية ضد المغرب، بالرغم من التاريخ المشترك بين البلدين، خصوصا خلال سنوات الخمسينات والستينات.
صوت حكيم، يقول بعض الذين اشتغلوا في وزارة الداخلية في مرحلة السبعينات، وأحدهم هو لحسن بروكسي، وهو الآن أستاذ جامعي متقاعد، إنه ارتأى ألا يقترح أحد على الملك الراحل الحسن الثاني أن يرد المغرب بالمثل. الملك كان موقفه حاسما، وارتأى أن تركز الدولة على احتواء المشكل بدل دراسة رد على الجزائر، خصوصا أن المغرب كان منتصرا بفضل الخطوة الكبيرة التي قام بها في الصحراء، بعد المسيرة الخضراء بشهر واحد فقط.
لذلك كان الهدوء يسيطر على المشهد كلما ابتعدت من الحدود من الداخل. وبقيت المخيمات قائمة إلى أن تمت دراسة كل الملفات التي تم إنشاؤها لكل أسرة تم ترحيلها من الجزائر، وظل موضوع ممتلكات المرحلين موضوع صراع، خصوصا وأن البعض فكروا في التوجه إلى محكمة لاهاي الدولية، للمطالبة بتعويض عن ممتلكاتهم التي فقدوها في الجزائر.
بعض الذين التقيناهم قالوا لنا إن الجزائريين الذين أشرفوا على الترحيل كانوا يركزون على ألا يصطحب أي مغربي وثيقة إدارية معه، لكن الجميع تقريبا حرصوا على أن يدسوا أوراق ممتلكاتهم وبطائقهم في أجساد أبنائهم الصغار أو في تلابيب ثياب زوجاتهم لأنهن كن معفيات من التفتيش. وهكذا نجح أغلب المُرحلين في أن يحتفظوا بوثائق ملكية عقارات وحسابات بنكية في الجزائر، لكنهم لا يملكون حق استردادها لأنها صودرت من طرف الدولة بشكل رسمي.
بخصوص موضوع الجزائريين القاطنين في المغرب، فقد بقوا مقيمين بشكل طبيعي ولم يشملهم أي ترحيل مغربي، حتى أن بعضهم قدموا الدعم النفسي والمعنوي للأسر المغربية التي تم ترحيلها من الجزائر، وأبان أغلبهم عن استعدادهم للعب دور الوسيط بين الأسر المُرحلة إلى المغرب وبين الأسر الجزائرية هناك، بشكل تطوعي، بما أن الجزائريين كانوا يتحركون بحرية بين البلدين، في مشهد إنساني تحدى الحدود والخلافات السياسية، فيما أغلب المغاربة لم يستطيعوا العودة إلى الجزائر لصلة أرحامهم إلا في التسعينات، ليجدوا أن كل ملامح وجودهم في الجزائر قد ضاعت، وإلى الأبد.
مأساة عيد الأضحى.. لحم بطعم المرارة ولعنة طاردت الأسماء العائلية
في الأسبوع الثاني من شهر دجنبر سنة 1975، كان هدير الحافلات يسمع من مكان بعيد في المنطقة الحدودية بين المغرب والجزائر.
كنا يومها في المغرب نعيش أجواء احتفالية بنجاح المسيرة الخضراء، والصيت العالمي الذي اكتسبته فكرة الملك الراحل الحسن الثاني لتوحيد جنوب المغرب مع شماله. كان الرد الجزائري، والذي كان وقتها ممثلا في سلطة هواري بومدين الذي كان على عكس بن بلة، هو ترحيل مغاربة بعدد الذين شاركوا في المسيرة الخضراء، واقتُرح عليه أن يسميها مسيرة «سوداء»، أو «كحلا» باللهجة المحلية استفزازا للمغرب. لكن تلك المرحلة التي طوتها الجزائر بعد ذلك، كانت مأساة إنسانية بكل المقاييس عانت من ويلاتها أسر مغربية وجزائرية أيضا.
تروي سيدة جزائرية مسنة مقيمة في المغرب بشكل نهائي منذ 1975، واسمها لطيفة بلحاج، وهو الاسم العائلي الذي منحه لها زوجها المغربي بعد أن انقطعت أسباب الاتصال بينها وبين أسرتها الجزائرية، ولم تعد تعلم الاسم العائلي الذي اختارته أسرة والدها، بعد تسجيل الأسماء العائلية في الجزائر.. تروي هذه السيدة لـ«الأخبار» كيف أن عاملا بسيطا من أصول مغربية جاء إلى الجزائر ليعمل لدى والدها أجيرا لسنوات، ليقرر في الأخير بعد أن توطدت علاقتهما أن يزوجه ابنته الكبرى، وهي لطيفة، ومنحهما بيتا ليقطنا فيه في نواحي مدينة وهران الجزائرية. كان هذا الأمر عند نهاية الخمسينات. أنجبت لطيفة من زوجها المغربي بلعيد، 5 أبناء ذكور و3 بنات، كانت البنت الكبرى قد تزوجت من شاب جزائري، وبقيت في الجزائر ولم يشملها قرار الترحيل، وظلت الأسرة بعد ترحيل 1975 تبحث عن سبل للتواصل معها دون نتيجة، إلى أن حلت سنة 1984 ليأتي أحد أقارب زوجها بحثا عن أسرتها، ويخبرهم أنها بخير وأنها أصبحت تقطن في العاصمة وليس في وهران. لكن لم يكتب اللقاء أبدا بينها وبين والدها، لأنه توفي بعد ذلك بسنة. توفي بلعيد دون أن يرى ابنته التي تركها خلفه في الجزائر، ولم يصرح للسلطات الجزائرية باسمها لأنها كانت في عهدة زوجها الجزائري، ولم يرد أن تشمله لعنة الترحيل أيضا، خصوصا وأنها كانت حاملا في شهرها الثالث.
لطيفة، السيدة التي تتحرك اليوم في كرسي بعجلات، تقول إن الحياة بالنسبة إليها توقفت في تلك السنة المشؤومة التي انتهت فيها حياتها في الجزائر، وكتب عليها ألا ترى والديها بعد ذلك أبدا. كانت في بيت زوجها بلعيد تنظف الأرضية الإسمنتية من بقايا دماء الأضحية. وفجأة سمع طرق عنيف على الباب، ظنت أن الضيوف قد جاؤوا لتناول الغذاء رفقة الأسرة، لكن زوجها فوجئ بسيارة سوداء متوقفة وأشار إليه أحد راكبيها إشارة مستفزة من يده ليأتي نحوه بلعيد مهرولا، ويخبره بأن عليه أن يعد نفسه للعودة مع أبنائه إلى المغرب. وفجأة تجمع الجيران كلهم في المكان لتتحرك السيارة السوداء وتترك خلفها دخانا كثيفا. عادوا فجرا وأجبروه على إيقاظ الجميع، ليتحركوا مشيا على الأقدام وسط الصمت المطبق، لمئات الأمتار ليجدوا حافلة في انتظارهم، وبداخلها أسر مغربية أخرى، لتتوجه بهم صوب الحدود.
تقول الابنة الصغرى للطيفة إنها لا تتذكر كل التفاصيل لأنها كانت صغيرة، لكنها تتذكر بوضوح بعض الذكريات المتعلقة بالمخيم الذي أقاموا فيه، قرب وجدة، في انتظار توزيعهم داخل المغرب. تقول: «كنا صغارا ونلعب طيلة اليوم، لكن الكبار كانوا يحملون هما أكبر. كنت أسأل والدتي دائما ما إن كنا سنعود إلى بيتنا. وكان أخي الذي يكبرني بسنتين يبكي ويسأل والدي عن مصير أضحية العيد، التي تركناها معلقة في بهو المنزل. أحضرنا معنا خادمتنا الجزائرية، وكان عمرها وقتها لا يتجاوز 12 سنة، وكانت تبكي وتنتحب وتطلب منا تدبر أمر عودتها إلى أهلها في الجزائر. نسينا شكل المنازل والأثاث، واندمجنا في حياة الخيام إلى أن جاء يوم جمعونا في شاحنة وأرسلونا مع والدي إلى مدينة سطات، لنسكن في منزل صغير جدا خلف مدرسة ابتدائية، ولم نرحل عنه إلا في سنة 1994 عندما أصبح إخوتي قادرين على فتح منزل أكبر للعائلة».
مغاربة وجزائريون: «افتحوا الحدود لعودة الأسر وصلة الأرحام»
برد دجنبر كان يصفع الوجوه. أسرة مغربية أخرى، كان معيلها يعمل تاجر خضر في أحد أسواق مدينة تلمسان. تقطن الأسرة في بيت بسيط جدا اختارت أن تستقر فيه. في البداية جاء محمد الرجمي كشاب يطمح إلى تغيير حياته، وهناك في تلمسان سيتزوج فتاة تقيم مع أسرتها، لكنها من أصول مغربية أيضا. أنجب محمد أولى بناته الإناث، وبدأ عمله كبائع بسوق للخضر في الازدهار. مع اقتراب عيد الأضحى، الذي تزامن مع شهر دجنبر سنة 1975، كان منزل سي محمد يعج بالضيوف الجزائريين والمغاربة. سمع الجالسون طرقا عنيفا على الباب، فتحه محمد لترتطم عيناه بشبان أقوياء أخبروه أنهم من الأمن رغم أنهم كانوا بلباس مدني، وأخبروه أيضا أنه يتعين عليه أن يعد نفسه للرحيل إلى المغرب، ولم يقدموا أي شروحات رغم تدخل الضيوف الجزائريين الذين طلبوا من رجال الأمن أن يشرحوا لهم أسباب القرار. يقول محمد الرجمي بهذا الخصوص: «عادوا فعلا ليؤكدوا علي الالتزام بالقرار. وفي اليوم الثالث من أيام عيد الأضحى، عادوا مساء وأخبروني أنه يتعين علي أن أكون مستعدا في الثامنة صباحا، وتدخل الجيران وحاولوا منعهم، لكن القرار كان أقوى من الجميع. لم أكن عازما على الرحيل في الحقيقة، لكنهم عادوا في اليوم الموالي وأخبرونا أن نرافقهم إلى «الكوميسارية» لمقابلة رجال الأمن هناك. طلبوا مني ألا أحمل أي أمتعة. ظننت وقتها أنهم سيعيدونني إلى منزلي بعد انتهاء الإجراءات الأمنية، لكني صدمت عندما توجهوا بنا إلى حافلة كانت متوقفة في الحي. لم يمهلونا لحظة. في الحافلة كان هناك رجال مسلحون يحرسونها حتى لا يقع أي تمرد. كانوا أقوياء ويحملون رشاشات ويوزعون نظرات قاسية على الجميع. وصلنا إلى مكان وجدنا به حوالي 40 حافلة. وهناك رمونا على مشارف الحدود، بالضبط في منطقة «زوج بغال» الحدودية، وتسلمتنا السلطات المغربية وأقمنا في مخيمات لفترة طويلة. حوالي ثلاث سنوات ونحن معلقون في الخيام في انتظار حل للمشكل، إلى أن حلت نهاية سنة 1977، وأخبروني بأن السلطات المغربية تقترح علي عملا في إدارة بالدار البيضاء. أدليت بجواز سفري المغربي وتوجهت إلى الدار البيضاء وتركت خلفي زوجتي المسكينة وبناتي، وكنت أزورهم بانتظام في المخيم إلى أن منحوني في العمل سكنا وظيفيا صغيرا، فجئت بأسرتي وبقيت في نفس المكان إلى اليوم».
يقول محمد رجمي إنه زار الجزائر سنة 1995، بدعوة من أصدقائه الجزائريين الذين ظلوا يراسلونه منذ السنوات الأولى للترحيل الإجباري، وأخبروه بأن منزله منحته السلطات وقتها لأسرة أحد الشهداء الجزائريين، والمصير نفسه عرفته ممتلكات مغاربة آخرين، فيما تم السطو على الحسابات البنكية للتجار المغاربة الأغنياء. أما أمثال محمد رجمي، كما يقول، فلم تكن لديهم ممتلكات مهمة. يقول رجمي إن زيارته الأولى إلى الجزائر سنة 1995 جاءت بعد أن زاره أصدقاؤه الجزائريون في الدار البيضاء، وألحوا عليه لكي يعود معهم، خصوصا وأن زوجته توفيت قبل سنوات، وكانت تردد أن أمنيتها أن تزور الجزائر لتصل رحمها، لأنها من أسرة مختلطة وأصولها مغربية لكن من أب جزائري.
يعيش محمد رجمي اليوم على إيقاع من الترقب، ويقول إنه متابع بقرار إفراغ للسكن الوظيفي الذي يقطن به في مقر نيابة تابعة لوزارة التعليم، تتوفر «الأخبار» على نسخة منه، وهو الأمر الذي أعاده إلى ذكريات المخيم رغم أنه طواها منذ أربعين سنة بالضبط. يقول بخصوص علاقته بأصدقائه الجزائريين: «عندما زاروني عبروا عن رغبتهم في فتح الحدود وإزالتها، لكي نمارس حياتنا بشكل طبيعي. هناك آلاف الأسر تعاني من هذه الحدود، ففي الأخير نحن متقاربون جدا، هناك مناطق في الجزائر أغلب سكانها مغاربة، وهناك قرابات عائلية قوية تجمع أسرا من المغرب والجزائر. أرغب دائما في زيارة أصدقائي في الجزائر، لكن الرحلة متعبة والخلافات السياسية تجعلك متخوفا من حدوث الأسوأ عند كل زيارة، رغم أن المغرب لم يطرد يوما أي جزائري».
قصة مؤثرة لترحيل أسرة تاجر ثري وجد نفسه حارسا ليليا
«ملّوك»، وهو الاسم العائلي غير المسجل في لوائح الحالة المدنية بالمغرب، لأسرة من 10 أفراد كان ربها يعمل في الجزائر تاجرا للقماش المستورد من إسبانيا. كان يتوفر خلال سبعينات القرن الماضي على سيارة من نوع «مرسيدس»، وبيت من ثلاثة طوابق، بالإضافة إلى ضيعة فلاحية تقضي فيها الأسرة العطل الدراسية للأبناء.
كل شيء انقلب رأسا على عقب، حتى بعد أن عقد قران إحدى بناته على شاب ينحدر من أسرة جزائرية. في سنة 1975، في أواسط دجنبر، يومين قبل عيد الأضحى، جاء بعض الرجال الأقوياء، لا يتجاوز عددهم 5 أفراد، في سيارة من نوع «بوجو» وطرقوا باب منزل الأسرة وطلبوا الحديث مع الوالد، وبما أنه لم يكن في المنزل، فقد ألحوا على معرفة المكان الذي يوجد فيه، بما أنه لم يكن في المحل التجاري الذي يملكه. عادوا مرة أخرى في المساء، ووجدوه بصدد تناول طعام العشاء مع أبنائه، فيما كان الصغار يلحون عليه لكي يتجه نحو الضيعة لإحضار كبش العيد، حتى يتسنى لهم اللعب معه.
ملّوك مات الآن، لكن سي محمد، وهو أحد أبنائه الأربعة الذكور، يروي كيف عاشت الأسرة مأساة الترحيل الإجباري من الجزائر. يقول محمد لـ«الأخبار»: «لم يكن عمري يومها يتجاوز 7 سنوات. لم نحس بطعم العيد، وظل هذا الإحساس يرافقني إلى اليوم، كلما حل عيد الأضحى. أمضينا يوم العيد في الترقب، فقد كنا رفقة جيراننا المغاربة، وكانوا يقطنون معنا في نفس الحي، ننتظر أن يتم ترحيلنا من الجزائر العاصمة نحو المغرب، كما أخبرونا. في ثاني أيام العيد جاء الأشخاص نفسهم الذين أخبروا والدي بأن عليه أن يرحل إلى المغرب، وأخبرونا بأنه يتعين علينا الرحيل فورا، دون أن نحمل معنا أي أمتعة، باستثناء الأمور الضرورية والبسيطة أيضا. تركنا كل شيء خلفنا، وترك والدي محله التجاري الفخم في قلب العاصمة ومستودعا للسلع. أركبونا بالقوة حافلة وجدنا بها بعض الأسر المغربية الأخرى. كان الأمر عصيبا لأني رأيت أقراني منخرطين في نوبات بكاء حادة. نسوة كان عويلهن يسمع قبل صعود الحافلة. واستمر هذا الجو الكئيب إلى أن وصلنا وجدة، وهناك رمونا على الحدود. لا أنكر هنا أننا شعرنا ببعض المواساة، عندما وجدنا السلطات المغربية في انتظارنا. لقد خفف عنا الأمر بعض الألم».
بقيت هذه الأسر التي تعتبر أسرة «ملّوك» واحدة منها في الخيام على مشارف مدينة وجدة الحدودية، لسنتين. كانت الوضعية النفسية لرب الأسرة تتفاقم، خصوصا وأن الأخبار القادمة من الجزائر كانت تقول إن ممتلكات المغاربة الذين تم ترحيلهم قد صودرت من طرف السلطات، وهكذا فقد أمله في استعادة حياته الطبيعية، وفارق الحياة سنة واحدة بعد ترحيل أسرته إلى مدينة الرباط، حيث تم منحه سكنا وظيفيا في إقامة سكنية تابعة لإحدى الوزارات، وتم منحه صفة حارس ليلي، وهو الحل الذي اقترحته الدولة على عدد هائل من الأسر المرحلة، حتى لا يبقوا عرضة للتشرد بدون مأوى. توفي الوالد، وبقيت الأسرة تحمل ذكريات كثيرة عن الجزائر، إلى أن حلت سنة 1993، لتفاجأ الأسرة برسالة من أسرة جزائرية، كانوا جيران لهم، بالإضافة إلى الأسرة التي كانت تنوي عقد قران أحد أبنائها على أخت محمد، واقترحت الأسرتان الجزائريتان على العائلة القيام بزيارة إلى الجزائر وصلة الرحم مع الحي الذي قطنت فيه الأسرة لأزيد من 15 سنة، قبل الترحيل الإجباري. بهذا الخصوص يقول الأخ الأكبر: «والدي لم يستطع نسيان الصدمة التي تعرض لها والتحول المفاجئ والعنيف في حياته. ظل يهذي ويقول إن هواري بومدين حطّم حياته. والدتي حزنت لوفاته المبكرة وعندما رافقتها إلى الجزائر لنزور أصدقاءنا القدامى، كانت تعانق نساء الحي وتصيح بأنها عادت إلى أهلها الحقيقيين. اليوم نتبادل التهاني في المناسبات الدينية، وكلما سنحت الفرصة لزيارة الجزائر نستغلها جيدا. إخوتي درسوا بفضل إعانات الدولة، ونحن اليوم موظفون ونعمل ونعيش حياة طبيعية في المغرب، لكن فرحتنا غير مكتملة لأننا تركنا حياة أخرى هناك».
الهرواشي: «هناك أسر من المرحلين تسكن صهاريج مياه ومئات الآلاف يعانون نفسيا»
- بداية، 45 ألف أسرة رقم كبير جدا، هل تغطي الجمعية جميع الأسر التي تم ترحيلها؟
بطبيعة الحال، لأن جمعية ضحايا الترحيل التعسفي من الجزائر تتوفر على فروع في مدن مغربية كثيرة جدا، وهناك تنسيق دوري مع مكاتب الفروع التي تستقبل طلبات العائلات للوقوف عند وضعيتها الاجتماعية، وهنا أستطيع القول إن أغلب الأسر تعيش أوضاعا اجتماعية صعبة.
بخصوص الرقم، فقد شمل الترحيل 350 ألف فرد، موزعين على 45 ألف أسرة وهو الرقم نفسه الذي شارك في المسيرة الخضراء، وهذا الأمر جاء استفزازا للمغرب في ذلك الوقت.
- لمسنا عند لقاء بعض العائلات غياب شروط السكن المريح لدى الأغلبية. ما تعليقك؟
هذا صحيح وراجع إلى أن الدولة وقتها حاولت احتواء الرقم الكبير للمرحلين، وتم تدبير توزيعهم انطلاقا من المخيمات على مساكن تابعة للإدارات العمومية في إطار «السكن الوظيفي». والقانون واضح، أي أنه يتعين على هذه الأسر إفراغ السكن الوظيفي، فور انتهاء مهام رب الأسرة، الذي يتم تعيينه في الغالب حارسا للإدارة التي تمنحه السكن. لكن حالة هؤلاء الناس استثنائية ومختلفة، لأنهم لا يتوفرون بالتوازي على مساكن شخصية وهم ضحايا حالة إنسانية فريدة، جُردوا من ممتلكاتهم ورحلوا وشردوا.
هناك أسر مُرحلة من الجزائر، تقطن في صهاريج بمنطقة خميس الزمامرة. أزيد من عشر أسر استغلت صهاريج للمياه وبنت فوقها أسقفا وتستغلها للسكن، لأنها لم تجد بديلا. وقد سبق لنا في الجمعية أن تبنينا عددا من ملفات الإفراغ التي كانت تواجه بعض العائلات المُرحلة من الجزائر سنة 1975، والحمد لله أننا استطعنا فتح باب الحوار مع السلطات المعنية لإيجاد الحلول.
- هناك أيضا الجيل الثاني وربما أيضا الثالث من العائلات التي رُحلت من الجزائر، هل لديكم أي معلومات بخصوص وضعيتهم الاجتماعية؟
بالنسبة إلى الجيل الثاني فقد أدمجوا بشكل عادي في الحياة العامة بالمغرب. المشكل بقي قائما بخصوص الجيل الأول، أي الذين كانوا ضحايا مباشرين لتبعات الترحيل وصودرت ممتلكاتهم وتوقفت مصالحهم. هناك حالات كثيرة جدا لمغاربة كانوا ناجحين في التجارة وتركوا خلفهم ممتلكات طائلة في الجزائر ولم يتم تعويضهم، وهناك من ترك أقاربه في الجزائر بحكم أنهم جزائريون. أما الجيل الثاني، أي أبناء المُرحلين فقد اندمجوا بشكل عادي وهم الآن يعيشون بشكل طبيعي، رغم التبعات النفسية التي لحقتهم بسبب ما يسمعونه من الذين عاشوا الحدث، وعن أصدقاء العائلة والأقارب الباقين في الجزائر، أي أن التبعات هنا نفسية. أما من الناحية الاجتماعية، فهم يعيشون حياة عادية مثل باقي إخوانهم المغاربة.