عندما أرسل المغرب أبناءه إلى عواصم أوروبا لتعلم الهندسة والدفاع
وثقتها مذكرات شاب مغربي في إيطاليا سنة 1888
في يوم 24 يونيو 1885، توجه اثنا عشر مغربيا إلى فرنسا، وبالضبط إلى مدينة مونبوليي، للالتحاق بمدرسة الهندسة العسكرية. هؤلاء التلاميذ ذهبوا ليدرسوا في فرنسا، واحدا من أكثر التخصصات العلمية تعقيدا، علما أنهم لم يكونوا يتحدثون الفرنسية.
والغريب أن البلاد استعانت بسفير برتغالي سابق في المغرب، اعتنق الإسلام، لكي يتولى مهمة «الترجمان» لهؤلاء التلاميذ، ولم يعد إلى المغرب إلا بعد أن اطمأن إلى أنهم صاروا قادرين على التواصل مع أساتذتهم بأنفسهم.
المثير أن هذه التجربة لم تكن سوى شرارة من الشرارات الأولى، التي تجمع بين الطرافة والغرابة، وتوثق لأولى البعثات الدراسية المغربية إلى الخارج.
هذه الأوراق تكشف سيرة «ثورة علمية» مغربية منسية، قبل قرابة قرن وأربعين سنة.
يونس جنوحي:
هكذا اختار سفير إيطاليا المرشحين المغاربة للدراسة في بلاده سنة 1888
في شهر شتنبر من سنة 1888، أنيطت بسفير إيطاليا في المغرب، السيد «جينتيتي»، مهمة اختيار الشبان المغاربة الذين سوف يتوجهون إلى إيطاليا على متن باخرة حربية، لكي يدرسوا هناك.
وقع الاختيار على طلبة تتراوح أعمارهم بين 13 و16 سنة، على إثر الجولة التي قام بها السفير الإيطالي في كل من الرباط، التي اختار منها عشرة أولاد، وسلا التي اختار منها خمسة، وأربعة من العرائش، بالإضافة إلى ثلاثة من طنجة، واثنين من فاس.
في أيام المولى الحسن الأول، أطلقت مبادرة إرسال الطلبة إلى الخارج لتعلم التقنيات الحديثة، رغم أن عصره عرف تشددا كبيرا في صفوف العلماء الذين حسموا مبكرا في التعامل مع الأجانب، خصوصا الفرنسيين الذين احتلوا الجزائر سنة 1830، واعتبروا أن التعامل معهم يشكل خطرا على المغرب، مخافة أن يلحقه ما لحق الجزائريين بعد هزيمة العثمانيين ورحيلهم.
لكن كل هذا لم يمنع المولى الحسن الأول، الذي فطن مبكرا إلى ضرورة تحديث كل ما يتعلق بالجيش والإدارة، وجعلهما ينفتحان على التجارب الأوروبية. ولم يكن هذا ممكنا أبدا، بدون إرسال تلاميذ مغاربة إلى أوروبا.
هذا لا يعني أنه لم يسبق أن خصصت بعثات للدراسة على الإطلاق، قبل عهد المولى الحسن الأول. لكن الأكيد أنها لم تصبح مهيكلة إلا في عهده، سيما وأن السفارات السابقة إلى أوروبا منذ عهد المولى إسماعيل قبل سنة 1720، كانت زيارات دبلوماسية بالكاد تعرف فيها الدبلوماسيون المغاربة الأوائل، أمثال السفير بن عائشة، على الحياة في أوروبا، وتعاملوا معها بكثير من الحذر.
بالعودة إلى رحلة الطلبة المغاربة إلى إيطاليا، فإنها تبقى قيمة جدا، حيث إن أحد الذين استفادوا من التكوين، كتب مذكرة سجل فيها مشاهداته.
يتعلق الأمر بطالب اسمه الحسين الزعري السلاوي – أي أنه من الطلبة الذين وقع عليهم الاختيار في مدينة سلا- والذي كتب مذكرة حكى فيها عن التجربة الإيطالية. وبما أنه عاش إلى حدود سنة 1955، فقد كُتب لتجربته أن تُسجل وتحفظ، بعكس بعض الرحلات العلمية الأخرى التي لم تسجل شهادات أو مشاهدات. وبدا واضحا أن حداثة سن المشاركين لعبت دورا كبيرا في مجايلتهم لانتشار التأليف والنشر والصحافة، لكي يتم توثيق بعض مشاهداتهم.
يقول الطالب السلاوي الزعري في مذكرته، التي يعود الفضل في اكتشافها إلى أحد أعلام مدينة سلا، وهو الحاج أحمد معنينو. ونص المذكرة كما كتبها صاحبها الزعري يبدأ هكذا:
«توجهنا إلى طنجة في فاتح سنة 1306 – الموافق لسبتمبر 1888- ومكثنا بها 18 يوما، ريثما هُيِّئَتْ لنا «الكساوي»، وفي الثامن عشر من الشهر نفسه، رست الباخرة الحربية «داندولو» الإيطالية ونقلتنا إلى إيطاليا. وبعد يومين رست بنا الباخرة في مدينة جنوة، وهناك وجدنا في استقبالنا مدير المدرسة التي سوف نلتحق بها، وهو السنيور «أوغوستين دي كروسي». وبعد أن بتنا ليلة بالفندق، اتجهنا على طريق السكة الحديدية إلى مدينة «تورينو»، الكائنة بسفح «بييمونتي» بين نصف دائرة جبال الألب. وعند الوصول أقيمت لنا حفلة بالمدرسة بمجرد دخولنا إليها، واستقبلنا التلاميذ والأساتذة.
وقد كان مرورنا من المحطة إلى المدرسة محط التفات الأنظار إلينا بكامل العجب، خصوصا وقد كنا لا نزال نرتدي الزي المغربي «كساوي المحصور من ثوب الملف» التي لبسناها في طنجة».
هنا قضى المرشحون سنوات من التكوين العسكري
اسم المدرسة كان «المدرسة الملكية الدولية الإيطالية»، وقد كانت دولية بالفعل، حيث إن هؤلاء المحظوظين المغاربة الذين ذهبوا إليها وهم في سن مبكرة جدا، تعرفوا هناك على ولي عهد مصر، الذي كان يدرس هو الآخر هناك، بحسب ما أكده الحسين الزعري السلاوي في مذكرته.
وصف هذا الأخير المدرسة كالتالي: «المدرسة مربعة الشكل، طبقتها السفلية تحتوي على بيوت للدراسة، وعلى قبة بمدخل الباب تعلو قاعة فسيحة لاستقبال الناس، وقاعة فسيحة أخرى لجلوس التلاميذ، وقت الراحة. والطبقة العليا عبارة عن حجرات من الخشب: هي بيوت لنوم التلاميذ الداخليين الأجانب مثلنا.
وهناك تعرفنا على عدد من الشبان جاؤوا من أمريكا الجنوبية، ومن روسيا ومن ألمانيا، ومن فرنسا، ومن مصر، والتحقت بنا البعثة الحبشية التي أرسلها الملك «ليكوس منليك». كما كان هناك وفد من بلاد البلقان، من بينه أخ ملك الجبل الأسود، وهذه العائلة كانت لها مصاهرة مع البيت المالك، من حيث تزوج ولي عهد إيطاليا بـ«هيلينا»، ابنة ملك الجبل الأسود. وتعرفنا في هذه المدرسة على ولي عهد مصر، سمو الأمير أحمد فؤاد. (..)
بدأنا في أول الأمر بتعلم مبادئ اللغة العربية، وذلك على يد أستاذ لبناني يعرف بـ«دون ماركس»، وبتعلم الإيطالية على يد أستاذ إيطالي، وأخذنا ننتقل من طبقة إلى طبقة.
وفي السنة الثالثة استدعانا مدير المدرسة وقرأ علينا أمرا ورد من جلالة مولانا السلطان عن طريق نائبه بطنجة وسفير إيطاليا، وأخبرنا أن مولانا يريد أن نفترق إلى ثلاث فئات».
كان المولى الحسن الأول يريد أن يقسم طلبته إلى فرق، إحداها لتربية الجنود وأخرى لتعلم علوم البحار، والثالثة لتعلم صناعة السلاح.
ومنذ رحيل الطلبة سنة 1888 لبدء التكوين، كان السلطان يتابع أخبارهم أولا بأول، وفي سنة 1892 أمر السلطان بإرسال وفد رسمي مغربي لتفقد الطلبة المغاربة، وتقديم هدية باسم المغرب إلى ملك إيطاليا. وقد عاش الحسين الزعري هذه الواقعة وكتب عنها في مذكرته:
«وصل إلى إيطاليا وفد يترأسه عبد السلام برشيد الشاوي، وذلك خلال سنة 1892، بأمر من مولانا السلطان الحسن الأول، وكان يحمل هدية ثمينة إلى ملك إيطاليا، تشتمل على أنفس المصنوعات المغربية من الذهب والفضة مرقومة ومنقوشة، مما جعل الصحف الإيطالية تشيد بذلك مفتخرة. فلما عزم السيد عبد السلام برشيد على مبارحة روما، قدم الإمبراطور هدية ثمينة فاخرة إلى مولانا الحسن الأول، وذكرت الصحف ذلك. وقال لنا مدير المدرسة إن الإمبراطور نزع خاتما من أصبعه وأعطاه إلى السيد عبد السلام برشيد، قائلا له: اجعل هذا في أصبع جلالة سلطان المغرب، مغزى للمحبة والوداد اللذين بيننا. ثم أذن للسيد برشيد بالتجول في المدن الإيطالية، فلما وصل إلى مدينة ميلانو، اتصل تلفونيا بمدير المدرسة وطلب منه أن يأتي مصحوبا بكافة الطلاب المغاربة، وفعلا ركبنا في الغد قطار السكة الحديدية، ومعنا المدير والأستاذ، مدرس اللغة العربية «ماركس»، وكان استقبالنا بأعظم فندق موجود بساحة الدومو، وأقيمت لنا مأدبة فاخرة، وزودنا قبل الافتراق بـ«لويز» ذهبي لكل واحد منا. ورجعنا إلى أعمالنا، وسافر السيد عبد السلام إلى ألمانيا».
يقول الزعري إن التلاميذ المغاربة تعلموا الإيطالية وصاروا يتحدثون بها بطلاقة خلال سنوات إقامتهم في إيطاليا، وبعد عودتهم إلى المغرب، كانت تجربتهم العلمية مرجعا في تأسيس الإدارة المغربية، رغم أن المغرب حقيقة لم يستفد من هذه الكفاءات، حيث ظلت الإدارة المخزنية تقليدية إلى ما بعد سنة 1912، وهو ما جاء في عدد من الكتابات. إذ إن الأحداث التي عرفها المغرب، والتي أدت في جزء منها إلى توقيع معاهدة الحماية لصالح فرنسا، وأدت هذه الثورة العلمية في مهدها، وحالت دون وصول هؤلاء الشبان المغاربة إلى مناصب تسمح باستثمار ما تعلموه، سواء في هذه التجربة، أو في تجارب أخرى سوف نأتي إليها في هذا الملف، للنهوض بالمغرب كما تصوره المولى الحسن الأول.
++++++++++++++++
قصة 62 شابا بُعثوا ليتعلموا المهن في أوروبا قبل 139 سنة
ما بين سنتي 1883 و1884، أمر المولى الحسن الأول بإرسال بعثة مغربية إلى أوروبا، لإجراء تدريب في عدد من المهن، والسبب أن المغرب كان في حاجة كبيرة إلى اليد العاملة الخبيرة في الصناعات.
في هذا الصدد، جاء في مرجع «مظاهر يقظة المغرب»، لمؤلفه المؤرخ المغربي محمد المنوني، ما جمعه من الوثائق والمخطوطات القديمة التي تعود إلى تلك الفترة. ومن الكتابات التي أرخت لبعثة الحسن الأول، ما يلي: «أمر مولانا أيده الله بتعيين عدد من المتعلمين لتعليم الحرب ببر النصارى على يد الأمين الحاج محمد برگاش، والأمين التازي. فعينوا وتوجهوا من مكناسة وأقاموا في التعلم عامين. وكان سرح منهم برگاش لصلة الرحم بفاس 13. وبمكناس 10. وحاضر منهم هنا في الخدمة 23. وباقي غياب 16.
في الجميع 62، وهؤلاء كلهم تعلموا، فمنهم من تعلم صنعة استخراج الحديد من المعدن، ثم استخراج الهند من هذا الحديد، ومنهم من تعلم صنعة المدافع وما يتعلق بها، ومنهم من تعلم صنعة جعاب المكاحل، ومنهم من تعلم سرائرها، ومنهم من تعلم زناداتها، ومنهم من تعلم حل المكاحل وتركيبها وطلاء جعابها. ومنهم من تعلم صنعة قرطوسها، ومنهم من تعلم صنعة قرطوس الصيد وقرطوس الكوابيس».
هذه الوثيقة التاريخية الثمينة، تعد أحد أقدم الأدلة على وجود بعثات تعليمية مغربية أرسلت بإشراف من أعلى سلطة في المغرب إلى دول أوروبا، خصوصا إيطاليا وفرنسا، لكي يتعلم أفرادها بعض المهن الضرورية لإطلاق المصانع المغربية.
وبعيدا عن الوثيقة، فإن المغرب سبق وأن استجلب مدربين وخبراء من الخارج لتدريب المغاربة، بالإضافة إلى إنشاء مصانع مغربية بإشراف خبراء أوروبيين، مثل ما وقع في تجربة «دار الماكينة» في فاس، لكن أغلب هذه التجارب لم يُكتب لها أن تنجح، بل وعرفت انتقادات كبيرة تتعلق بالمصاريف الطائلة التي صُرفت عليها. ولذلك جاءت فكرة المولى الحسن الأول بإرسال بعثات من الشبان المغاربة، لكي يتعلموا المهن والحرف في قلب أوروبا.
هل كان الطلبة الذين يتم اختيارهم محظوظين؟ المعطيات التاريخية المتوفرة تقول إن الطلبة الثلاثة والعشرين الذين بقوا حاضرين في الخِدمة، بحسب الإحصاء الذي قدمته الوثيقة التاريخية أعلاه، وقع عليهم الاختيار لاعتبارات قدّرها خدام المخزن الذين كلفهم المولى الحسن الأول بالاختيار. إذ توزع هؤلاء الثلاثة والعشرون على التخصصات المذكورة، وكان بعضهم من عائلة البخاري التي ذهب أربعة من أبنائها في فريق تكون من سبعة أفراد لكي يتعلموا أصول صناعة الماكينات. بينما أربعة أفراد آخرين من الأسرة نفسها، أي البخاري، توزعوا على تخصصات أخرى من بينها صناعة البنادق.
عائلة بركاش النافذة في عهد المولى الحسن الأول، والتي سبق لبعض أبنائها أن كانوا وزراء، ثم أشرفوا لاحقا بأمر من سلاطين الدولة العلوية على تدبير شؤون مدينة الرباط، هم من أشرفوا بالإضافة إلى التازي، على اختيار اللائحة النهائية. وكان معروفا أن عائلة التازي توارثت مناصب تسيير وإدارة الموانئ، خصوصا ميناء سلا، وعُرفوا بإخلاصهم لسلاطين الدولة العلوية.
التازي وبركاش، أشرفا على هذه التجربة، ولم يُعرف المسار الكامل لهؤلاء الشبان في المغرب بعد عودتهم من الرحلة التعليمية. بل سُجل خصاص كبير في الأطر المغربية بعد سنة 1912، وتطلب الأمر سنوات طويلة لكي تتكون نخب مغربية قادرة على الاشتغال في المهن العصرية والإمساك بزمام أمور المصانع الأولى التي أنشئت في المغرب، باستثناء ابن التازي الذي كان أحد أوائل المغاربة الذين التحقوا بالبورصة في الدار البيضاء، رغم أنه لم يكن عضوا في أي بعثة من هذا النوع.
مغاربة درسوا الهندسة العسكرية في فرنسا سنة 1885!
في يوم 24 يونيو 1885، توجه اثنا عشر مغربيا إلى فرنسا، وبالضبط إلى مدينة مونبوليي، للالتحاق بمدرسة الهندسة العسكرية.
كيف وصل هؤلاء الطلبة الاثنا عشر إلى فرنسا، علما أنهم لم يكونوا يتحدثون الفرنسية، ولم يسبق لأي منهم أبدا أن زار فرنسا؟
كان مع الوفد مرافق من نوع خاص، تكلف بتسهيل الرحلة، وهو القنصل البرتغالي السابق في المغرب «ميكيل دوكاسترو».
والمثير أن هذا القنصل السابق اعتنق الإسلام، بعد نهاية مهامه في المغرب، وفضل البقاء بين المغاربة، والتحق بالقصر الملكي لكي يعمل في خدمة السلطان، وتقرر أن يتم توظيفه لمرافقة الطلبة المغاربة في رحلتهم إلى فرنسا، ويسهل مهمتهم ويتكلف بالترجمة عنهم والتنسيق بينهم وبين إدارة مدرسة الهندسة.
مهمة هذا القنصل السابق لم تكن تتجاوز تأمين التواصل بينهم وبين الإدارة، إذ مباشرة بعد مضي عامين على وصول الوفد المغربي، حتى عاد القنصل أدراجه إلى المغرب، بعد أن اطمئن إلى أن الطلبة أصبحوا يتحدثون الفرنسية، ولم يعد لديهم أي مشكل في التواصل مع مؤطريهم وبقية الطلبة الفرنسيين.
ويفهم من هذه المعطيات أن هذا القنصل كان يتولى مهمة «الترجمان»، ولم يثبت أنه مارس مهمة أخرى خارج وظيفته في الترجمة.
المثير أن الدولة المغربية تكلفت بمصاريف هؤلاء الطلبة. وحسب المعطيات التاريخية المتوفرة، والتي أشار إليها المؤرخ محمد المنوني في «مظاهر يقظة المغرب»، اعتمادا على نصوص ومخطوطات أصلية من الخزانة المغربية، فإن هؤلاء الطلبة سكنوا في ثكنة داخل المؤسسة، وذهبوا إلى فرنسا بلباسهم المغربي، واضطروا مع وصولهم إلى فرنسا لاقتناء لباس عصري لكي يحضروا به الدروس، مع الاحتفاظ بالطربوش المغربي الذي لم يستغنوا عنه.
وأمر السلطان المغربي، المولى الحسن الأول، بأن يُصرف لكل طالب منهم فرنكان في اليوم. وشملت الدروس الهندسة التطبيقية والحساب واللغة الفرنسية.
لكن المثير أن طالبين من البعثة عادا إلى المغرب في شهر ماي من سنة 1886، أي أنهما أكملا بالكاد السنة الأولى من التكوين، وبقي عشرة طلبة فقط.
تدرب هؤلاء الطلبة المغاربة على تكتيك الحروب، وحفر الخنادق والتصويب والرماية وأجهزة الدفاع وصنع بعض المصدات الدفاعية، وتقنيات الحرب التي كان يعتمدها الجيش الفرنسي في ذلك الوقت.
اثنان من الطلبة العشرة الذين بقوا مستمرين في التكوين، ترقيا وأصبحا يتلقيان تكوينا من الطلبة الفرنسيين في استعمال التلغراف الجوي، تلتها دروس في التلفون والبصريات والكهرباء، ثم الهندسة الميدانية ووضع الخرائط.
هذا النوع من التخصصات كان ثوريا جدا، بل لم يكن مجال لتطبيقه أصلا في وحدات الجيش المغربي الذي كان وقتها لا يزال يسير على إيقاع التجمعات القبلية التي تحارب تحت راية المخزن باستعمال البنادق محلية الصنع.
ورغم أن هذا التكوين كان ثوريا، إلا أن المشرفين الفرنسيين لاحظوا أن بعض الطلبة لم يكونوا مستعدين لهذا التكوين، وسجلوا «سوء اختيار الموظفين المغاربة لبعض أعضاء البعثة».
ولم يكد خريف سنة 1886 يحل حتى غادر طالب آخر، ولم يتبق سوى تسعة طلبة، وقرر الفرنسيون عودتهم إلى المغرب وإنهاء التكوين. لكن ممثل الخارجية الفرنسية في طنجة الدولية طلب أن يتم التمديد للبعثة المغربية، كما أن السلطان المولى الحسن الأول كان قد حسم في الأمر منذ البداية، وأمر ألا يعود الطلبة إلى المغرب، إلا بعد أن يحصلوا على تكوين تام. وهكذا لم يكن الفرنسيون مع بداية سنة 1887 يملكون خيارا، سوى وضع برنامج أقوى للسنة الموالية. وهكذا استمر التكوين إلى حدود شهر ماي 1888، حيث أخبر الفرنسيون الصدر الأعظم المغربي رسميا أن التكوين قد انتهى، وأنه «من المناسب عودة البعثة إلى المغرب، وتعويضها بفوج جديد من الطلبة».
وفي دجنبر 1888 وصل الطلبة المغاربة إلى طنجة، وكان في استقبالهم مندوب من السلطان اسمه محمد الطريس.
ولكن قبل أن يصل الطلبة إلى المغرب، كانت رسالة من القصر الملكي، وقعها الصدر الأعظم، المولى الحسن الأول، يطلب فيها بقاء أربعة طلبة مغاربة لكي يحصلوا على دروس إضافية في الكهرباء، بغية أن يتكلفوا مباشرة بعد عودتهم بتسيير آلات كهربائية كانت قد أهديت إلى المولى الحسن الأول في وقت سابق، ولم يكن هناك مغربي قادر على تشغيلها.
بعثة تطوانية إلى مصر سنة 1938 بسبب الحرب الأهلية الإسبانية
«مساء يوم الأحد 12 دجنبر 1937 بساحة الفدان دشن الخليفة السلطاني والمقيم الإسباني العام، وقناصل الدول، وأكداس من الجماهير بناية المعهد، معهد مولاي الحسن بن المهدي. وأخذ الأستاذ محمد المكي الناصري، مدير المعهد، يلقي على الحاضرين خطبته التدشينية. وكانت هذه الخطب تذيعها محطة تطوان في جميع المنطقة الخليفية والسلطانية».
الكلام هنا للباحث المغربي عز الدين معنينو، المهتم بتاريخ مدينة تطوان. وهو يتحدث في مقال مطول نُشر له سنة 2001، موضوعه بعثة مولاي الحسن بن المهدي، الخليفة السلطاني في منطقة تطوان، والتي توجهت من تطوان إلى مصر سنة 1938، وسُميت وقتها «بعثة بيت المغرب في القاهرة». ولكن قبل البعثة، كان قد توفر المناخ الأكاديمي لها عند تأسيس «معهد مولاي الحسن بن المهدي».
هذه الأجواء، كانت بداية «صحوة علمية» حقيقية في مدينة تطوان. وتمهيدا لإطلاق تجربة بعثة تعليمية انطلقت من المدينة صوب مصر، لتعويض الجمود التعليمي الذي تسببت فيه الحرب الأهلية الإسبانية، والتي وصل أثرها بطبيعة الحال إلى تطوان. إذ لم تمض إلا أشهر قليلة على افتتاح المعهد، حتى تقرر إرسال البعثة العلمية إلى مصر.
يضيف الباحث عز الدين معنينو، الذي وثق لهذه التجربة انطلاقا من أرشيف عائلته:
«بدأ الأستاذ محمد المكي الناصري، مدير المعهد الخليفي وزعيم حزب الوحدة المغربية، ومدير جريدة «الوحدة المغربية”، الناطقة باسم حزبه، اتصالاته مع زملائه الأساتذة بالمعهد حول ما يجب القيام به في موضوع إرسال البعثة إلى مصر، فبعث بصديقه الأستاذ التهامي الوزاني إلى مصر لتهييء الجو الملائم، واتفق مع الأستاذ محمد بن اليمني الناصري على متن الباخرة الإسبانية التي وضعها فرانكو رهن إشارة الحجاج المغاربة، على إصدار منشور يدعو كل الطلبة المنقطعين بمدرسة لوقش إلى الالتحاق بالمعهد الخليفي، ليجري عليهم امتحانا في عدة مواد علمية وأدبية، والمتفوقون يقبلون في المعهد كتلاميذ، ويضمن لهم السكن ومنحة مالية يستعينون بها على الدراسة.
وكانت اللجنة المكلفة تتكون بالإضافة إلى الناصري، من معنينو، والأستاذ إبراهيم رضى الله الإلغي، والذين شرعوا في تدريس التلاميذ المتفوقين في علوم التاريخ، والجغرافيا، واللغة، وقواعدها، والحساب، مبادئ الهندسة، وغير ذلك.
أما المبعوث التهامي الوزاني إلى القاهرة فكان يتصل بالمسؤولين المصريين لقبول التلاميذ المغاربة بمؤسساتهم العلمية، وتهييء الجو لقدوم الشيخ محمد المكي الناصري إلى القاهرة التي سبق أن درس بها، وله العديد من الأصدقاء من رجال العلم بها، وقد كان توجه إلى مصر كذلك الأستاذ محمد داود، مدير المجلس الإسلامي الأعلى للتعليم، صحبة الأمير مولاي المهدي، ابن الخليفة السلطاني، ليتمم دراسته بمصر، لكون الحرب الأهلية الإسبانية عطلت الدراسة بإسبانيا».
تجدر الإشارة أيضا إلى أن عدد الطلبة المستفيدين بلغ واحدا وأربعين طالبا. وأن تلك البعثة لم تكن الوحيدة، وإنما كانت هناك تجارب علمية أخرى بدأت تقريبا سنة 1928، عندما قرر بعض التلاميذ المغاربة مواصلة تعليمهم في المشرق، خصوصا بين الأزهر في مصر ودمشق وبغداد، لاستكمال دراساتهم العليا.
محمد بن الحسن الوزاني.. أول من درس العلوم السياسية
يبقى محمد بن الحسن الوزاني أول مغربي درس العلوم السياسية في فرنسا، وأول مغربي حصل على شهادة جامعية في الخارج، وعمل على تأسيس جمعية لطلبة شمال إفريقيا سنة 1927، وانخرط، بصفته المغربي الوحيد، في جمعيات الطلبة العرب الذين كانوا يدرسون في «السوربون»، سيما جمعية «الوحدة العربية». بل إن زملاءه في دفعة العلوم السياسية قبل أن يحصل على الدكتوراه في تخصصه، أصبحوا جميعا وزراء في بلدانهم. إذ إن زميلين له من مصر شغلا منصبي رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي. وهما على التوالي، الوزير مصطفى النحاس، ومحمد صلاح الدين. واستمرا في منصبيهما في عهد الملك المصري فاروق، ولجأ إليهما محمد بن الحسن الوزاني، في تدويل القضية المغربية والتعريف بها في جمعية الأمم المتحدة منذ بداية أربعينيات القرن الماضي. رحلة الوزاني إلى فرنسا كان لها أثر كبير في تكوينه السياسي، إذ إنه مع حلول سنة 1933 كان قد تشبع بأفكار سياسية جعلته مؤهلا ليبدأ في إصدار صحيفته باللغة الفرنسية، وهو ما اعتبر وقتها حدثا ثوريا. واستطاع أن يخاطب النخب الفرنسية في فرنسا وفي المغرب.
وما ميز تجربة محمد بن الحسن الوزاني في الدراسة، أنه لم يعمل أبدا في أي إدارة فرنسية في المغرب أو في فرنسا بعد تخرجه، علما أن عددا من الطلبة المغاربة الذين جاؤوا بعده بسنوات، اشتغلوا في الإدارات الفرنسية في المغرب. والسبب أن الوزاني كان يؤمن بمشروعه السياسي، وكرس نفسه لممارسة الصحافة وتأسيس الحركة الوطنية المغربية. وهو ما كلفه كثيرا بطبيعة الحال، رغم أنه كان في وقته «أيقونة» للنبوغ المغربي في الجامعات الفرنسية، قبل قرابة تسعين سنة.