عفوا أنا لا أسلِّم
أكاد أجن حين أرى كيف شوه البعض أعرافنا الاجتماعية القائمة على الوقار والحشمة والستر، وحولها إلى سياط يجلد بها الناس ويقنعهم أنهم على خطأ وأنهم يهددون إيمانه، وأخرج عن طوري حين أرى «العامة» يطلقون العنان لـ«عالِمِيَّتهم» ويفضفضون التعاليم الأصيلة بالدين ويلحقون بها إضافات مغالية ومتشددة بل ولا منطقية تفتح عليه مداخل واسعة للنقد.
حدث مع أمي أخيرا حدث عابر يندرج بشكل كبير ضمن خانة هذه «الاستفاضات» الدينية، لا بأس من أن أحكيه هنا.
ذات ليلة طرق بابنا جار شاب رفقة شقيقته، خاصية هذا الجار أنه «متزمت» من أسرة «ملتزمة» كلها بحجاب مزيد ومستزاد دخيل على الشرع، وبالتفاصيل التَّدَيُّنِيَّةِ المغالية حد الاختلاق. طلبا رؤية والدتي ورفضا الدخول الى البيت. ارتدت هذه الأخيرة ثوب الصلاة بسرعة حتى لا تتأخر في إعداد نفسها وترتيب غطاء رأسها، وحتى لا تتركهما طويلا على الباب ونزلت الدرج مرحبة، وبتلقائيتها المعهودة مدت يدها مصافحة، فإذا بالشاب يرد عليها «ماكانسلمش الحاجة». وبالتلقائية ذاتها اندفع من فم والدتي سيل من الاعتذارات عن «زلتها» العظيمة وانخرطت معه في الحديث الذي أتى به إليها.
حين حكت لي والدتي الأمر غضبت منها أكثر مما غضبت من الأخ، وصرخت فيها محتجة عن اعتذارها المبالغ فيه عن زلة ليس فقط أنها لم ترتكبها، بل زلة لا توجد أصلا. وعن عدم شعورها بالمهانة أمام حركة تلبسها لبوس الشيطنة، وتحجزها في ركن الأداة الجنسية التي لا تلمس إلا لـ«الوطء»، وتستلزم الاغتسال منها، وعن قبولها الحديث مع شخص «يستحرم» اتصالا جسديا بسيطا بها بدون أن تؤدبه، فليست مشكلتها إذا كان الأخ يرى في مجرد مصافحته لها تهديدا لشيطان غوايته.. وليست مسؤولة إذا كانت مجرد مصافحتها (لمسة لا تتعدى ثانيتين) تنسف مناعة وحصانة غريزته.
كنت أتساءل وأنا أحتج عليها، أي حيوان يربض فينا إذا كانت أعضاؤنا الجنسية ستخرج من غمدها لمجرد لمسة اعتباطية لا تمثل في سلم الإثارة شيئا؟ أية وساخة ترقد في أدمغتنا إذا كنا نعتبر أن لمسة تافهة تبطل وضوءنا وتوجب «تصحيح» طهارتنا؟ أي علاج نفسي يلزمنا إذا كنا نشتم الفتنة في أكف نساء من طور أمهاتنا، وأي قفل هذا الذي يُزَنِّرُ عقولنا ويجعلنا نتقوقع داخل سجن «الجسد»، في زمن انطلقت فيه الإنسانية نحو آفاق أخرى لا تعرف قضبانا؟
كنت غاضبة حد القهر.. وددت لو كنت هناك حتى أصرخ في وجه ذلك المسيء إلى الدين وإلى الله، بأن يد أمي لا تداعب عقده وكبته الراسخين ـ بأنها مجرد يد ممدودة بالخير، وأنه إذا كان قد وضعها ضمن مبطلات الوضوء، فإنه يستحق أن يوضع في حاوية القمامة. كنت أود أن أقول له إن جنابته فكرية وإن عليه أن يمارس طقس الغسل الأكبر على عقله المحصور في غرائزه!