بدأ عبد الكريم الطبال نشر قصائده في مجلة «الأنيس» سنة 1954، وبعد عودته إلى شفشاون سنة 1957 أسسّ، رفقة عدد من الكتّاب والشعراء، جمعية «أصدقاء المعتمد» التي ساهمت في إحياء الشأن الثقافي في مدينة شفشاون، فنظمت مهرجان «أبو القاسم الشابي» للشعر وفي السنة التي تلتها مهرجان «لسان الدين ابن الخطيب» للشعر.
أسس الطبال، أيضا، مجلة «الشراع» التي توقف طبعها سنة 1965 وكان، أيضا، من المساهمين في تأسيس مهرجان شفشاون الشعري والتحق باتحاد كتاب المغرب سنة 1968. نشر عبد الكريم طبال قصائده بعدة صحف ومجلات، نذكر منها: العلم، الاتحاد الاشتراكي، الأنيس، آفاق، دعوة الحق، البديل، الثقافة المغربية، المعرفة، الآداب.
من أعماله الشعرية التي نشرها على مدى عقود وبانتظام منضبط: طريق إلى الإنسان (1971)،
الأشياء المنكسرة (1974)، البستان (1988)، عابر سبيل (1993)، آخر المساء (1994)، شجر البياض (1995)، القبض على الماء (1996)، لوحات مائية (1997)، كتاب العناية (1997)، بعد الجلبة (1998)، على عتبة البحر (2000)، نمنمات (2015)، سيرة الصبا (2000)، موال أندلسي( 2007)، الوردة فوق الأرض( 2021)…إلخ
كل هذه الأعمال، التي كتبت بمثابرة وصدق وطول تأمل، جعلت هذا الشاعر المغربي الكبير يفوز بـ«جائزة الأمير عبد الله بن فيصل للشعر العربي» في فئة «التجربة الشعرية»، التي يمنحها مجلس أمناء الجائزة لأحد الشعراء العرب على مجموع أعماله الشعرية وفق معايير محددة.
الطبال تجربة فريدة في الشعر المغربي الحديث. فكما نبه النقاد القدماء إلى أن من شروط الفحولة في الشعر الجودة والكثرة، فجودة هذه التجربة تأتي من تكاثرها، وتكاثرها أثمر جودتها. لذلك تجد جميع الأجيال في الشعر المغربي تجمع على تجدد هذا الشيخ المحيّر، المسكون بسؤال التجديد، والمتكاثر على المنابر، والصحف، والمجلات والمجموعات الشعرية. فكل المتتبعين للشعر المغربي الحديث يذكرون الملحق الثقافي لجريدة «العلم» الذي لم يكن يخلو من قصائد الطبال كل أسبوع، إلى درجة أن الملحق، الذي لا يضم قصيدة للطبال، يكون مثل الطعام الذي ينقصه الملح. وكان الطبال يمارس هذا النشر المنتظم وعياً منه بضرورة قياس درجة تجاوب القارئ معه، ومدى حفظ الذاكرة الشعرية لتجربته. فكان يتأرجح بين القصيدة القصيرة والقصيدة الطويلة، كأنه يطارد موضوعة خفية، أو صورة منفلتة أو أسلوبية مستعصية. هكذا، ومع السنين، طاعت القصيدة ورضي عنها شاعرها.
هنا يشكل الطبال استثناء وسط الشعراء المغاربة، الذين ظل أغلبهم يخافون من الإكثار، لكن الطبال كان يتمثل بشجاعة نادرة لمهاجمة القارئ، وترويض ذوقه وحاسته. وربما هذا هو الجواب عن السؤال الذي ظل يطرحه الكثيرون: ما سرّ تجدد هذا الشاعر الشيخ؟
لقد كان صادقاً صدقاً فنياً أظهره كل النقاد الذين درسوا تجربته: العوفي، آيت وارهام، كرواني، الخنيفي عبد الجواد الذي أنجز حول الشاعر أطروحة جامعية.
لقد أكثر الشاعر وألف في جميع الأنماط الشعرية: التفعيلي، العمودي والنثري. ومجموعة من الدواوين الشعرية تشهد أنه يجمع في جوار متميز بين أشكال الكتابة الشعرية وإيقاعاتها.
الشاعر الطبال.. الكاهن الملكي في المعبد الشعري الجليل
علاقتي بشعر عبد الكريم الطبال علاقة قديمة ترتد إلى أيام الطلب الجامعي، وإلى عهد «العلم الثقافي» الأغر الذي طلع علينا نحن ـ معشر الطلبة والمبدعين والقراء ـ ذات جمعة لا تنسى في العام 1969؛ حيث تعاقب الكتاب المغاربة، شعراء وقصاصين ومبدعين، ينشرون على صفحاته «الذهبية» خواطرَ ومقارباتٍ، وقصائدَ وقصصاً، وسجالات حامية ما زالت ترن وتتصادى في سمع الأيام، وفي آذان ووجدان المتلقين الشغوفين بقطف فاكهة «العلم الثقافي» كل جمعة.
وآية معرفتي وشغفي بشعر الطبال مع شعراء آخرين مجايلين له كالمجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، ومحمد بنميمون وعبد الرفيع جواهري، حتى لا أذكر إلا جيل الستينيات، مع العلم أن «العلم الثقافي» كان مسرحا احتدم على ركحه إبداعا وتناطحا، بالأساس، جيل السبعينيات شعرا ونقدا وقصصا، وسجالا قويا عميقا ومغذيا وإِنْ سقط أحيانا في التشهير والإسفاف والإحن والسخائم. آية معرفتي بشعر شاعرنا: نشري لقراءة عاشقة لإحدى قصائده البديعة بمجلة (الموقف) التي كان يديرها الأستاذ الشاعر الدكتور عبد العالي الودغيري، عدد 9 في العام 1989. وبالإمكان القول، من دون تردد أو زُلْفى، بأن عبد الكريم الطبال حقق أسطورته الشعرية الشخصية. ذلك أنه قَلَّ من الشعراء من حققها على مدار تعهده لتجربته، مع أن الكل يسعى جاهدا إليها، متوسلا، مستهدِفاً، وطامعا طامحا في المغايرة والنبوغ، واجتراح ما به يتفرد ويتميز. إنه التميز اللغوي والفلسفي والشعري والصوفي المسبوك سبكا بسيطا لكن حاذقا، سبكا عارفا وعرفانيا. وهذا ما دمغ ويدمغ شعر الطبال فيفرده ويجعله مستثنى أيْ تِبْراً مستلا من ركام الأتربة والغبار، منتشلا إياه من الزحام، ومن تشابه الرمال على حد تعبير محمود درويش، ومن «مُتَرَدّم التجارب الشعرية السابقة والمحايثة»:
بابٌ لاندلاع الورد
إِنْ دَخَلْتَ
كنتَ العندليبْ
يبدأ الإنسان طفلا، وينتهي طفلا. فالطفل أبو الرجل بالتعبير البارع الفارق للشاعر الرومانسي العظيم ووردزورثْ. وفي ما كتبه الشاعر الطبال، إدهاش مستمر ودهشة متواصلة. دهشة طفل أمام العناصر والأشياء والكائنات. الدهشة التي تَتَبَنَّكُ محورا عاما في شعره، وتشكل بؤرة دلالية حافة وثاوية ومعلنة سارية تتخلل وتقيم طرية العود، غضة الإهاب في كل ما صاغ وأبدع وكتب. وأكاد أجزم بأنه الأوحد بين الشعراء المغاربة، في الأقل، الذي يتماهى شعره مع الدهشة مثلما طفل ـ كما أسلفت ـ يهتز طربا وانتشاءً لأقواس المطر، أقواس قزح، وللألوان، والأشكال والأعشاش والطيور، والفراشات، والجداول والسواقي… الخ.
تفعل نصوصه في المتلقي ما تفعله فيهم نافثات العقد، من انجذاب ساحر إلى السحر الطبيعي، إلى تنشق البخور الطالعة من محافل ومجالس الأذكار، وحلقات الصوفية. وبعدما غمس قلمه الرفيع في محبرة الحرائق، حرائق الواقع وجمرات المرحلة الملتهبة: (الطريق إلى الإنسان) و(الأشياء المنكسرة)، عاد إلى الذات لا هروبا وإعراضا عن واقعه وواقع الناس، ولا دَسّاً للرأس في حفرة اللامبالاة والإشاحة عما حواليه، بل تفرغا تنسكيا في معبده الشخصي، وعكوفا على تثقيف شعره ونحت لغته وتجميلها، وقَصْقَصة زعانفها، وأشْناتها الفوضوية، وفسح المجال لقول الجرح والبوح باعتمالات الأطواء والدواخل في عالم ما ينفك مبتعدا عما سطره علماء الضوء، وفلاسفة النور، وشعراء الجمال الذين قاوموا القبح بكل معانيه وإحالاته، ليتسنى للإنسان أن يعيش عيشة رضية رخية، وهو ما لم يتحقق.
وإذاً، فَلْيَبْنِ الشعراء عالمهم الاستعاري، ودنياهم المجازية، وحياتهم الروحية، وتجاربهم وخبراتهم «الغنوصية» كما بناها أيضا الصوفيون: الحلاج وابن عربي، والسهروردي والبسطامي، وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي وسعدي الشيرازي وابن سبعين.. إلخ. هؤلاء وغيرهم من عظماء الإنسانية ونوابغها وقادتها الروحيين الذين استضافوا الشعراء الكبار «المحترقين» حقا مثلما استضافوا عبد الكريم، وأوسعوا له بينهم، المكانَ والمكانةَ، والمقعد السنيّ، والاعتبار الجليل. مع أن «الرؤيا» ظلت قاصرة لغويا عن التمرإي في شعر الصوفية الكبار أمثال ابن عربي في (ترجمان الأشواق)، وعبد الجبار النفري في (المواقف والمخاطبات)، وأشعار الحلاج وابن الفارض، وثلة عظيمة من شعراء إيران، لأنها ظلت لصيقة لائطةً بالأرض.. بالتراب، بالفاني، بالمعنى المطروق والموطوء غزليا وخمريا، فلم تَسْمُ السمو المنشود الذي احترق الصوفيون والأفلوطينيون من أجل بلوغه، والتوقل في معارجه، علماً أن أشعار المعرّي الشاهق ـ في ظني ـ أصابت البغية والمرام، وأوفتْ على الذروة في (لزومياته).
عبد الكريم الطبال الكاهن ناسك شفشاون لا بالمعنى الديني السائر، بل بالمعنى الجمالي الاستغراقي، إذْ أن دينه الشعر كما كان ديدن ابن عربي الحب. الشعر محراب وحبر مقدس، وصلاة. مُصْطَفىً من قوة غامضة ما ورائية، ومنتدب من قِبَلِها لحراسة المعبد الشعري، وأسرار النص الشعري حيث الإقامة الفردوسية في روح حروفه، ودم كلماته، وأزاهير رهانانه، وظلال ثنياته، وعَذْب مائه، ووهج نوره. شعر ينطوي على حيرة الذات المشدودة بالقوة والفعل، إلى الميتافيزيقي الذي عنوانه العريض هو: الغوص في أُسْتُقسطات الوجود والحياة، وتكليم عناصرها بالإشارة والرمز والكناية، والإيماءة والإيحاء، والصورة الشعرية المترفة المرهفة، والانزياح البديع، والمجاز المرسل، والخيال الخلاّق، والاقتصاد اللغوي البرقيّ الخُلًّب. بالبساطة الساحرة نَنْشَدُّ كما لو برَسنٍ عُلْوي حريري لا يُرى، لكنه يُسْتَشْعَرُ ويُسْتَحَسّ ويستلذ. وليس في مُكْنة أيٍّ كان أن ينتهج البساطة الماتعة الرقراقة في إبداعه الشعري أو الروائي، أو التشكيلي، ما لم يكن مسنودا بمرجع متكثر مخصب بالثقافة والتجربة الروحية، والطبع والموهبة والحكمة.
الشاعر عبد الكريم الطبال.. العابر بنهر الأسرار
عبد الجواد الخنيفي
أكيد أن الطرق الداخلية هي طرق الإنسان، كما هي أيضا طرق القدر، وللشاعر عبد الكريم الطبال طرقه الداخلية الشتيتة، المزدحمة بالعبور.. ومن تِرحاله الموزّع النّفس فيها إلى الأعمق والأرحب والأبعد والأصفى… فالحديث عن الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال، من مواليد مدينة شفشاون (سنة 1931)، حديث في اللغة وفي المعنى، فالرمز يلتحم بالرمز والكتابة بالكتابة والقصيدة بالقصيدة، ملتصقا بالنّبض الإنساني، راسماً كياناً حيّاً يستجيب ويضطرب، يجزع وينتصر.. يحزن ويفرح ويرفض ويغضب… وتلكم هي الحياة والقصيدة.
الشاعر ظاهرة رمزية أيضا، هو رحلة تبدأ بالإنسان ولعلها في النهاية تعود إليه، أو تتلاشى في أضواء السّماء والملكوت، أو في جبّة آخر المساء أو على جناح براق بعيد، حيث السرّ والنّور والضّوء والظّلّ والطفولة الهاربة بالنّهر… مازجاً بين الحلم وامتداداته وبين الواقع ومنعرجاته، وبين غيمة فسيحة خلابة. هي الأشياء تقطر جمراً في الرّؤيا وفي الأسلوب..
ولعلنا، إذا أمعنّا النظر، سنجد الشاعر الكبير عبد الكريم الطبال أكثر انشداداً إلى ابن عربي وعالمه الصّوفي الملتبس. بل يمكن القول إن هذا الانشداد تحوّل في ما بعد إلى استغراق كليّ في أفياء تلك التجربة، ليس لأعلى مستوى التمثّل فقط، بل وبدافع الاستكشاف وملابسة قضاياها الوجودية لتعميق التجربة الشعرية الخاصة والفسيحة والممتدة..
يمكن الحديث، كذلك، عن مسارين في تجربة الشاعر: مسار اجتماعي واقعي مشرع على التعابير الإنسانية ومنفتح على اليومي والعابر، مسكوك بلغة يكسبها طزاجة نادرة ويلوّن نشيدها بأقواس قزح… ومسار تصوفيّ رمزي متسع الاتجاهات متشعب الآفاق والرؤى.. فضلا عن أن الصورة لديه تتيح الوحدة مع العالم اللاّمرئيّ وتعطي إمكانية امتلاكه وامتلاك أشيائه بحميمية، والنّفاذ إلى حقيقته المتجدّدة باستمرار. فهو أكثر امتلاء وأشدّ إصرارا على التجاوز والاختلاف.. هو غيمة الأمس واليوم، ومطر كل الفصول..
الشاعر عبد الكريم الطبال بستاني آخر في إشراقات النّهار، هو عصافير الصّباح وقنديل المساء، يستيقظ بين مفردات المكان (شفشاون)، يلوّح لسرب طيور في الزّرقة، يربّت على عائلة من الأشجار، يشرب موسيقاه من هدير النّهر، يصافح لِحية الجبل وضفائر الشّمس والعتمة القديمة، يستنشق رائحة العشب والوجوه والأصوات… يتلبّس الظّلال كأنه الظلّ، هو المكان وابن المكان وطفل المكان أحياناً أخرى… يبقى أكثر وسامة بين الحقب والأجيال رغم خريف العمر، واستباقياً واستنتاجياً واستثنائياً..
لروحه عذوبة الماء، وفي مُزحته فصاحة برق خاطف، يراقب الطريق والأنفاس في صمت بعيد مع فنجان قهوته، وفي كلامه اقتصار واختصار. ربما في انتظار السرّ القادم.
عبد الكريم الطبال: رعشة الحياة.. والحياة…
عبد الكريم الطبال شاعر مخضرم وصاحب طريقة شعرية خاصة
مخلص الصغير
عبد الكريم الطبال شاعر مخضرم، كما درجت على تسميته في أكثر من مناسبة، ولعله توصيف يحاول، عبثا، تلخيص تجربة شاعر عصية على التلخيص والتكثيف. مخضرم لأنه خريج مدرسة القرويين التقليدية، والتعليم العصري، في خمسينيات القرن الماضي، ومخضرم لأنه عايش الزمن الشعري لمرحلة ما قبل الاستقلال، وهنالك عاصر الحوار الشعري المغربي الإسباني، والمغربي العربي، كما قدمته المجلات الأدبية في تطوان والعرائش، منذ الأربعينيات (الأنيس، المعتمد، كتامة…). مخضرم لأنه انتمى، وجدانيا وشعريا، إلى المدارس الشعرية الحديثة، حيث تأثر بالمهجريين، في مدرستي الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، كما تأثر بالرومانسية العربية، مع علي محمود طه المهندس، تحديدا… ثم ما بعدها، سوف يواكب ويجاري تجارب الحداثة مشرقا ومغربا، من السياب ونازك والبياتي إلى محمد الصباغ الذي كان يتعهد تجربته ويتوسم فيه شعرا كثيرا. وقد أكد لي، مرارا، أن الصباغ كان يعطف عليه عطفا شعريا كبيرا، ويشجعه على مواصلة التجديد والتحديث في الكتابة.
هكذا، منذ نهاية الأربعينيات، لا يزال عبد الكريم الطبال يجدد في الكتابة الشعرية، حيث جايل الرواد، ومن جاء من بعدهم، حتى العصر الذهبي الشعري في المغرب، خلال سبعينيات القرن الماضي. ثم واكب تجارب الثمانينيين والتسعينيين التي قدمت لنا أهم الأصوات الشعرية في قصيدة النثر خاصة. وأبدع الطبال إلى جانب شعراء الألفية الحالية، ومع هؤلاء وهؤلاء بدا عبد الكريم الطبال أكثر شبابا وحداثة ومعاصرة.
اقترب صديقنا عبد الكريم الطبال من المائة عام، ولكن قصيدته ظلت شابة دائما، يافعة رائعة، وأشد إغراء وفتنة. ولعل السر في ذلك هو اشتغاله الشعري على الطبيعة بوصفها ملهمة الشاعر. وهو اشتغال رمزي لا يتوقف عند مجرد الوصف والافتتان، ذلك أن السي عبد الكريم شاعر لا يكلم الناس إلا رمزا ولا يكلمهم إلا شعرا.[1]
وانطلاقا من معرفتي بهذا الشاعر، منذ تسعينيات القرن الماضي، أمكن لي أن أكشف عن سر آخر من أسرار العبقرية الشعرية لهذا الرجل، وهذا السر يتعلق بعبد الكريم الطبال «القارئ»، إذ هو قارئ نهم لسائر النصوص الإنسانية الكبرى، في مختلف التخصصات، وخاصة في الآداب والشعر. بل إن قراءته للرواية تكاد تفوق قراءته للشعر العالمي كله، مع انشغال عميق بالمدونة الصوفية شعرا وسردا. وهنا، أمكن أن نتحدث عن ثلاث لحظات عرفانية كبرى في تاريخ شعر الطبال، من التأثر بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، إلى التأثر والتفاعل مع منطق فريد الدين العطار، وصولا إلى لحظة حلول صوفي مع المتن الجلالي لجلال الدين الرومي. لكن تفاعل الطبال مع المرجعية الصوفية لم يقع في مجرد الاستلهام واستعارة المقولات والصور الصوفية النمطية، وإنما تعدى ذلك إلى نوع من التفاعل الخلاق مع العوالم الصوفية، بطريقة خاصة. الطريقة هنا بالمعنى الصوفي، دائما، حيث يمكن الحديث عن طريقة صوفية خاصة بهذا الشاعر، لعلها «الطريقة الشعرية»، وهي طريقة وطريق لا تقود صاحبها إلى وهم الحقيقة، بل إن الحقيقة إنما تكمن في عبور هذه الطريق، الطريق التي لا تقود إلى أي شيء، ذلك أن هدف الشاعر العابر والسالك إنما هو الطريق ذاتها، أو ذاته، على الأصح.
حوار مع الشاعر عبد الكريم الطبال
أنا ثمرة جامعة القرويين والشعر العربي القديم والشعر الحديث غرباً وشرقاً
ولد الشاعر عبد الكريم الطبال سنة 1931 بمدينة شفشاون. يعتبر من المؤسسين للحداثة الشعرية في المغرب. حاز على جائزة المغرب للكتاب مرتين سنتي 1994 و2016. درس بالقرويين ثم التحق بالمعهد العالي لتطوان. حصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية. اشتغل بالتعليم الثانوي قبل أن يتقاعد. له العديد من المجموعات الشعرية بوأته صدارة المشهد الشعري المغربي وأهلته للفوز بالعديد من الجوائز الرفيعة، كانت آخرها جائزة عبد الله الفيصل للشعر العربي في دورتها الخامسة، بترشيح من بيت الشعر في المغرب.
هنا حوار مع عبد الكريم الطبال للاقتراب من تجربته الشعرية الغنية.
حاوره: محمود عبد الغني
– يعتبر الشاعر عبد الكريم الطبال من رواد الحداثة في الشعر المغربي، حدثنا عن هذه الحداثة..
+ أولا هي مسبوقة بحداثة أخرى كانت وراءها الشاعرة نازك الملاكة في العراق، أقصد حداثة التفعيلة، وهذه مرت بسلام في العراق وغير العراق لأنها لم تنفصل عن التراث. فقصيدة التفعيلة بنت للقصيدة العمودية ولذلك مرت بسلام عكس الحداثة في السبعين لم تمر بسلام لأنها جاءت منفصلة عن التراث. فالشاعر عبد المعطي حجازي ألف كتابا نقديا ضدها لنقدها، ولكن لم يمر وقت طويل حتى استأنس الشعر بالحداثة هذه، فالشعر دائما هنا وهناك واحد، له جوهر واحد. أنا، مثلا، حين أقرأ شعرا للشاعر اليوناني بيتريس أنساق له وكأنه شعر عربي، فالعلاقة بين الشعر في اللغات علاقة أخوة.
في السبعينيات تواترت أجيال من الشعراء يكتبون قصيدة من النثر إلى الآن ولا خصومة معه، وبين هذه الأسماء الجديدة شعراء متميزون من عبد الله راجع ومحمد بن طلحة وسواهما.
– ما قراءاتك منذ بداية تجربتك الشعرية إلى الآن؟
+ في المرحلة الأولى وأنا في القرويين كنت مع الشعر الجاهلي والشعر العباسي وقليل من الشعر الأموي، وعثرت على شعراء كبار مثل المتنبي وأبي العلاء وآخرين. المرحلة التالية تأتي في تطوان بعد انتقالي إليها من القرويين. في هذه المدينة اكتشفت جهات أخرى، في المكتبات، وهي كلها تابعة للدولة، كانت في مقدمتها المكتبة العامة ثم المعهد العالي ومكتبة الصحف والمجلات. بين هذه كلها كنت تلميذا مخلصا في كل مساء لابد أن أكون في واحدة منها، وما أجده عند هذه لا أجده عند الأخرى. في المكتبة العامة تعرفت أكثر على الحركة الثقافية التي تجري في تطوان وفي المجلات التي تصدر بالمدينة، خاصة مجلة «المعتمد» التي كانت تصدر بالعربية والإسبانية وكانت مديرتها الشاعرة ترينا مركادر. في هذه المجلة أصبحت صديقا للشعر الإسباني وتجرأت مرة على إرسال قصيدة كان اسمها «رياح» إلى المجلة، فإذا بها تنشرها وأرسلت لي رسالة تشجعني وترحب بي، وأتذكر أنني في هذه المرحلة تعرفت على لوركا من خلال مجموعته الكاملة، التي ترجمها خليل التليسي من ليبيا، ثم استمرت العلاقة مع الشعر الإسباني مع الترجمات العديدة التي ينجزها الآن في المغرب أساتذة مثل خالد الريسوني.
هنا أتذكر مجلة «المنارة الثقافية» التي كانت تصدر بالجامعة الإسبانية بمدريد، مرة قرأت فيها ديوانا شعريا بترجمة محمود صبح وهو شاعر فلسطيني كان مقيما في مدريد، وكان هذا الديوان للشاعر خوان رامون خيميتيس نقلته لأنه سبق لي أن قرأت له كتابا نثريا مترجما، لاحظت بعد قراءته، في ما بعد، أن توفيق الحكيم قلده في عمل له. وبالمناسبة حينما علمت بوفاته كتبت قصيدة لرثائه، أحتفظ بها إلى وقتنا الحاضر.
ومن تطوان إلى شفشاون لأستقر، وهنا اندفعت إلى جهة سابقة، كنت على صلة بها من قبل أقصد الشعر الروحي أو الصوفي، أقرأ لشعرائه باستمرار، فابن عربي حاضر دائما، إلى جانب جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، وفريد الدين العطار، وآخرين وآخرين.
في هذه العشية تطاول يدي، في مكتبتي، كتاب «الفتح الرباني في الفيض الرحماني» لعبد القادر الجيلاني.
– من هم الشعراء الأقرب الى تجربتك؟
+ في البداية كان الأقرب إلي أبو القاسم الشابي، ثم علي محمود طه المهندس، هذان استقطباني وكنت شديد الإعجاب بهما، خاصة علي محمود في دواوينه الخمسة وهو من مدرسة «أبولو»، ثم في ما بعد جاء الآخرون: البياتي، السياب، نازك الملائكة، جعفر ماجد صاحب ديوان «نخلة الله»، وهكذا كان الآخرون يجيئون في ما بعد مثل محمد عفيفي مطر.
– كيف تنظر إلى النقد الذي أحاط بتجربتك الشعرية؟
+ هناك نقاد أعجبت بهم كثيراً: نجيب العوفي، أحمد بلحاج آيت وارهام، سعيد كرواني، محمد الميموني. وثمة كتاب «التربة والرؤيا.. عبد الكريم الطبال نموذجا» للكاتب عبد اللطيف سندباد، وكتاب آخر أصدره موسم أصيلا بمناسبة فوزي بجائزة «تشيكايا أوتامسي» للشعر الإفريقي، وتم تنظيم ندوة شارك فيها أكثر من عشرين شاعرا ناقشوا التجربة، هذه الندوة صدرت في كتاب «الشاعر العاشق»، وبالإضافة إلى هذا أصدر الموسم ديوان «في قارب واحد».
- كيف هي علاقة عبد الكريم الطبال بالشعر العربي القديم؟
+ بحكم أنني كنت طالبا في القرويين كان الشعر الجاهلي مادة أساسية في الدراسة، وكنت معجبا بالمعلقات السبع، وخصوصا بمعلقة زهير بن أبي سلمى بالذات وهي التي لا زلت أردد أبياتها بين الحين والآخر في حالات تدعو إلى التأمل، فشعره في المعلقة أقرب الى الحكمة والفلسفة.
أما بخصوص الشعر المترجم، الذي تعلقت به في ما بعد بفاس وتطوان، فقد انكببت على قراءته خاصة في الأعمال الكاملة، مثل أعمال الشاعر الإنجليزي إليوت، والفرنسي بول إيلوار، وبودلير ورامبو، و«المثنوي» لجلال الدين الرومي وجيميس جويس اليوناني ودواوين ناظم حكمت.
وأقول أخيرا، جوابا عن هذا السؤال، إن تجربة أي شاعر هي في الأساس تجربة لا تخلو من التصادي، فالشعر لغة الكون ولغة الحياة وهو لغة واحدة.
– ماذا عن تأثير الشعر العالمي؟
+ يمكن أن أقول، باختصار، إن الشعر العالمي المعاصر هو المقروء الآن قبل الشعر العربي، فكأنه الأستاذ والشعر العربي تلميذ، فلا أظن أن شاعرا عربيا لا يقرأ الشعر المترجم من اللغات الأخرى، من قبيل الألمانية والإنجليزية والروسية وغيرها.
- من هم الشعراء المغاربة الأقرب إليك؟
+ الشعراء المغاربة الأقرب إلي كثيرون، منهم، كما تقول الذاكرة الآن،
ادريس الملياني، محمد الميموني،
دامي عمر، أمينة المريني، أمل الأخضر،
العربي خجو.
- كيف تنظر إلى تجربة الشعراء المغاربة؟
+ الشعر المغربي يتصادى ويتقارب مع الشعر العربي الشرقي، ذو مستويات متقاربة أو متشابهة.
فإذا كان أحمد الشهاوي، المصري، أصدر ديوانا عن الموت، فإن حسن نجمي، الشاعر المغربي، أصدر ديوانا عن النهر في مستواه أو أعلى، وشخصيا أعجبت بهما وقرأتهما بشوق.
– ما دور الجوائز في حياة ومسار الشعراء؟
+ في تصوري دور الجوائز يتمثل في الاعتراف بتجربة شعرية من هنا أو هناك، وثانيا من أجل تعميق الصلات الثقافية بين التجارب الشعرية المختلفة وأيضا مساهمة في الاستمرار بالنسبة إلى الشاعر صاحب الجائزة.
حسام البدراوي.. القصة كرافعة للتقدم
د. خالد فتحي
البارحة صار لمكتبتي درج خاص بالمفكر والسياسي والطبيب الأستاذ حسام البدراوي، بعد أن جاءتني خماسية كتب من مصر، أظن أنه اكتمل بها لدي عقد مؤلفاته التي أصدرها لحد الآن.
في الحقيقة، أنا شغوف جدا بقراءة المقالات التي ينشرها د. حسام بالمصري اليوم، وبمقابلاته التلفزية كذلك، لأني أحب في الرجل غزارة إنتاجه التي لم تخل يوما من قيمة وفرادة ما يكتب، وكذا موسوعيته التي تقطع دابر أسئلتك بخصوص الكثير من القضايا الملحة، ثم، وهذا هو الأهم، أكبر فيه قدرته العجيبة على المقاربة التركيبية للمواضيع التي ينشرها، والتي يتزاوج فيها الفلسفي، بالعلمي، بالديني، بالسياسي، بالفني… الخ.
حين يطنب د. حسام، ويقدم لك وجباته الأدبية الدسمة، فتقرأ له أسلوبه الجزل، وتلمس بآن واحد توهجه العلمي وعمقه الفكري، تفهم مباشرة أنه كاتب جمع الحسنيين، الكتابة والذوق الأدبي الرفيع، وتبليغ الرسالة التي يحب أن ينهض بها كل مثقف حقيقي داخل مجتمعه وأمته.
هناك دائما خيط ناظم للإنتاج الوفير للدكتور حسام البدراوي؛ نفض الغبار عن العقل لأجل أن يبني المصريون جمهورية جديدة على أساس قوي ومتين ومستدام. وما ينسحب على المصريين ينسحب بالنسبة له على كل العرب.
كل الكتابات لديه تحمل هذا الهم وتقصد إلى بلوغ هذا الهدف الأسمى.
فهو من ذاك الرعيل من الكتاب الذين يتكيفون لأذواق كل القراء، الذين لا يرهقهم جنس أدبي ولا يتوانون عن نمط في الكتابة يمكن أن يجعلهم يخاطبون جمهورا معينا. بغيتهم في ذلك أن يستقطبوا لمشروعهم الفكري والمجتمعي في كل الاتجاهات.
ذلك أن الكتابة عند رجل السياسة الصادق هي موقف، منبر آخر ينبغي استثماره، طريقة مجربة للإفهام وللحشد وللتعبئة الجماهيرية العريضة من أجل الأفكار العظيمة التي تغير وتقدم. وفي حالة حسام البدراوي، هي تتحول فوق ذلك إلى حسام أو مهند يقطف رأس الجهل والجمود والانغلاق والتعصب، ولذلك هو يخوض بقلمه معارك فكرية وسياسية شتى، ويجوس لأجل ذلك في رحاب أجناس مختلفة من الأدب، من المقالة، والشعر، والخطبة السياسية في الحزب أو البرلمان، إلى القصة القصيرة.
نعم هو منظر في السياسة، ورسام تشكيلي، ولكني أكتشف الآن، ودون أن أتعجب من هذا الاكتشاف، أنه قاص من الطراز العالي. فأنا، كطبيب وكعاشق للأدب، أعرف منذ زمن أن الأطباء إذا ما عن لهم الحكي والسرد، فهم بلا شك أفضل وأنبغ الأدباء والشعراء وفرسان الرواية والقصة القصيرة الذين لا يشق لهم غبار.
في مجموعته القصصية «الكيميرا» التي أتوسدها هذه الأيام، أكد لي حسام البدراوي هذه الحقيقة. فهي استغرقتني منذ السطر الأول لقصصها القصيرات الإحدى عشرة لدرجة أني قرأتها في يوم واحد، ولازلت أعيد قراءة بعض منها إلى الآن.
ما يعجبني في حسام البدراوي أن الأستاذ الطبيب حي دائما فيه، فهو لم ينهمك في أحداث قصصه مسرعا مستعجلا، فقبل أن يفعل ذلك، عمد إلى أن يؤسس لنا أسباب انصرافه إلى كتابة القصة القصيرة.
في المقدمة يشرح للقراء أن القصة القصيرة هي تحد للكاتب واختبار لعلمه وصدقه ونضاله، ففي رأيه أنه فقط إذا ما توفرت هذه الخصال لديه، سيكون بمقدوره أن يبلغ ما يريد تبليغه بأقصر العبارات دونما إطناب أو تزيد لا طائل منه.
حتى لكأنه ينبهننا بهذه الاحترازات إلى أن القصص القصيرات هي في كنهها عصير مقالاته وكتبه الأخرى التي يمكن لمن لا يملك وقتا ويملك عقلا أن يتشربها ويستوعب معها المشروع السياسي الذي يبشر به.
في الواقع لم يكن لكاتب همام مثله صاحب قضية وصاحب قلم سيال، وفكر وقاد، إلا أن يسلك سبيل القصة القصيرة، ويبدع فيها، فالكتاب في النهاية هم ملكات ومعادن، أنجبهم في المقالة والشعر، أنجبهم في القصة والرواية.
لكن لديه هو تحديدا سنرى أن الكتابة القصصية ستظهر خصالا وهويات أخرى للرجل، وأبرزها هوية الطبيب، والأستاذ والسياسي… الخ.
لقد صرفتني هذه المجموعة عن غيرها صرفا بعد أن أشاعت في نفسي شعورا جارفا بالمتعة مصحوبا بفضول علمي شديد. ولذلك اندهشت حين اعتبر نفسه في مقدمته هاويا، لأني ما رأيته وما أحسسته إلا محترفا وذا حبكة وباع كبير منذ قصتيه القصيرتين الأولى والثانية. ففي «اندماج الثقافات» ألفيته يثير مسألة الجمال كقوة ناعمة وكسفير يقرب بين الشعوب والحضارات، أما في «على مقهى الربيع العربي»، فرغم الأسلوب المباشر، إلا أن الفكرة أصيلة، وتلخص الواقع المرير لوطننا العربي مثلما لن تلخصه مجلدات وأسفار. هذه القصة القصيرة بالنسبة لي أنا هي رواية، بل هي سباعية. كما أنها قصة يمكن أن يرى فيها كل الجمهور العربي هوانه، وما ينتظره من قتامة المصير، إن لم تقع الانعطافة الضرورية نحو العقل ونحو استبصار روح الدين الحقيقية. فأي تلخيص يمكنه أن ينافس مثل هذا التلخيص. وأية قصة قصيرة هاته تختزل أمة بأكملها!.
في القصة الثالثة، يتطرق مفكرنا لقضية المعجزة، ولعله قد فعل مثل ما فعل جورج طرابيشي في كتابه المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، فتوجه بهذه القصة للعقل العربي الذي عليه أن يفهم أنه باكتمال الوحي الذي تنزل على سيدنا محمد صلعم، قد انتهى اتصال السماء بالأرض، وانتهت المعجزات والخوارق، وعلى المسلمين أن ينتبهوا الآن للمعجزات الكونية التي يتضمنها خلق الله تعالى، انتهت المعجزات النبوية، وبدأ عصر المعجزات الكامنة فينا وفي الكون والتي لن نتوصل لها إلا بالعلم، وبالتالي لابد أن نفيق مما نغط فيه، ونتصالح مع روح العصر الحديث التي أساسها المعرفة والابتكار قبل أن يفوت الأوان.
لا يمكنني أن أنهي هذا المقال دون أن ألج بكم إلى أحداث القصة الخامسة، خصوصا وأنها من أسبغت عنوانها على المجموعة القصصية بأكملها. وبالتالي هي تكتنز سرا أودعه فيها الكاتب. أولا هي قصة قصيرة ولكن يمكن أيضا اعتبارها رواية قصيرة جدا، فهي قصة قصيرة من ثلاثة فصول، ونادرا ما يلجأ قاص إلى مثل هذا المعمار القصصي، إلا إذا كان واثقا من نفسه، ومن علمه، ولا يساوره أدنى خوف من عدم قبول محتمل من الجمهور. وإلا إذا كان مرشحا في نفسه ليكتب الرواية في مرحلة قادمة.
في هذه القصة، يبرز لنا الطبيب الذي يقص، أو القاص الذي جلس لمحراب الكتابة لابسا وزرته الطبية.
حسام البدراوي يحكي لنا عن ليلى وحملها الغريب، الذي بالكاد سجلت 14 حالة منه في العالم بأسره. هذا الحمل تكون فيه الحامل هي الأم والأب في نفس الآن. حمل ما عجيب لكن له تفسير ووجود، ولا يشبه في شيء معجزة العذراء وابنها المسيح. لن أفشي كل القصة التي هي في واقع الأمر معلومة مصبوبة في قالب قصصي بديع، فأنا لا أستطيع مهما حاولت أن أسردها بالسلاسة والتبسيط اللذين برع الطبيب القاص حسام البدراوي في سردها من خلالهما، ولكني أكتفي بالقول إنه على قصر هذه القصة القصيرة، يناقش كاتبنا قضايا حساسة من قبيل الحمل المستكن، الإجهاض، البصمة الوراثية،… الخ. لذلك، ومن باب أضعف الانبهار، قررت أن أناقش حمل «الكيميرا» مع الأطباء المقيمين في الأمراض النسائية، هنا بجامعة الرباط.
هناك قصص أخرى كلها تغص بالمعاني العميقة، وكلها تجذبك إليها جذبا رفيقا وعميقا. قصص بليغة لا يمكن إلا أن تطرح بداخلك تساؤلات واستفهامات تشحذ عقلك وروحك. هي قصص يتوخى منها واضعها أن تحث على البحث، وعلى تبني الجرأة في التفكير أسلوبا في الحياة، أذكر منها «أحمد المنصوري… وسقراط»، «زيزو»، «النوم سلطان»، «الهدهد والأنترنيت» وغيرها.
لقد نجح لدي حسام البدراوي في الامتحان الذي أجريه عادة مع نفسي للأعمال الإبداعية، وهو أن يفلح العمل الذي أراه مقيدا فوق بياض الصفحات، في أن يستحيل لشريط تتوالى شخوصه وأحداثه في مخيلتي وأمام ناظري. هذا ما حدث لي مع «الكيميرا»، وما شجعني على أن أعتبر هذه القصص القصيرات صالحة لأن تصير نصوصا أدبية، وعلمية أيضا، لتدريسها لتلامذتنا وطلابنا سواء في التعليم المدني أو التعليم الديني، بل إني أدعو كتاب السيناريو والمبدعين من المخرجين السينمائيين إلى نقل بعضها إلى شاشات السينما. ولأخالكم ستجدون أي تكلف أو أية غرابة في هذا الاقتراح، لأنكم حين ستقرؤونها، ستدركون أن مؤلفنا الكبير توفق كثيرا في تكثيف المعنى في قصصه القصيرات لدرجة أني أحس أني أتعسف، وأنا أهم بختم هذا المقال. فلازال بجعبة هذه المجموعة ما علي أن أذكره وأبسطه.
وأخيرا إني لأشعر بهذه القصص التي قرأت بلهفة واستمتاع ولذة لا توصف، أن حسام البدراوي في طريقه أيضا لأن يشكل ظاهرة جديدة متجددة في أدبنا العربي. إذ هو الدليل القاطع على أن الأطباء هم الأقدر على أن يخرجوا لنا بقصص وروايات تجمع بين الروعة، والمتعة، والرصانة العلمية، وثراء الخيال، وقوة الأسلوب، ودقة التبليغ مثلما قد لا يتيسر إلا نادرا لمهن أخرى. لقد جاء هذا الكاتب الفذ للقصة عن موهبة، ولا أخاله إلا أنه سيفرض نفسه فرضا في عالمها، لأننا عندما نقرأ قصصه القصيرات نشعر للتو أننا نرتوي ذوقا وعقلا وقلبا وروحا. وأننا أمام كتابة قصصية من طراز آخر مختلف عما ألفناه.