عبد الرحمن بدوي
بقلم: خالص جلبي
من أعظم المآسي التي تبتلى بها الأمة الجهل بكتابات المبدعين من أبنائها، وأتذكر أنه ضمني مجلس في يوم مع رجل، ظننته من أفقه الناس، وتعجبت أنه لم يطلع بعد على مقدمة (ابن خلدون). كان ذلك في منطقة عسير بالسعودية، وكان المجلس يضم أطباء وشخصيات، فحين جاءت فكرة من كتاب المقدمة سألتهم عن الرجل فأنكروا معرفته به، وهو ما يذكرني بالكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، حين كانت تذكر كلمة الديموقراطية عند جدتها، فظنتها جزيرة في بحر الظلمات وهي كذلك، لأن الجدة تعيش في ظلمات القرون. كذلك مما روت لي ابنتي مريم أنها كانت في مملكة القرود سوريا يوما، فذكرت لسيدة تجلس بجانبها في الباص، حين سألتها أين تعيش؟ فقالت: كندا، قالت السيدة: نعم، نعم أعرف تنكة! والتنكة في اللهجة السورية تعني وعاء التنك (علبة الصفيح). كذلك أذكر من المعتقل فنصة، الذي ضمنا المعتقل يومها في فرع المخابرات العامة 273، حين كان يأتي من ألمانيا إلى سوريا فيمر على العديد من الدول مثل النمسا والمجر وكرواتيا، فكان صديق والده يسأله عن ابنه، فيذكر أنه مر في النمسا، فيقول: سمعت بها أرض الألمان، فإذا وصل إلى بلغاريا يقول: نعم أعرف برغاليا. فإذا دخل تركيا قال له: أرض العصملية أعرفها. ثم يلتفت فيقول: عندي ابن يشبه ابنك تماما، فهو كل يوم في قرية، ثم يكرر له قرى الريف في حلب: حارم وكفر تخاريم والباب وعفرين. وهو يذكرني أيضا حين كنا أطفالا نحزر البعض عن شيء، فنستخدم كلمة قرقجان، ثم نتفنن في وصف البعوضة، ثم نسأل ولد (بوهالي بتعبير المغاربة) عنها بعد ذكر سيقانها وأجنحتها الصغيرة، فيقول إنها طائرة الهليكوبتر! وهكذا فالإنسان ينطق من تصوراته، كما يذكر ابن خلدون في المقدمة قصة أتراه كالفأر يا أبت؟ عن وزير سجن مع ابنه، فإذا حدثه عن الحيوانات، ولم يكن الطفل في السجن قد رأى سوى الفئران وهي تسرح في المعتقل، فكان يكرر لوالده: أتراه كالفأر يا أبت؟ ومن هذا القبيل في قصة السجينة زوجة الجنرال المغربي المقتول أوفقير، الذي تآمر وكشف وقتل وسجنت عائلته ومعها الطفل لطيف، فلما تمكنوا من الفرار بعد عشرين عاما من الحبس، تعجب الطفل من الغودرون، أي طريق الزفت (المسفلت)، فكانت مفاجأة له.
وأنا شخصيا ما زلت أستمتع بقراءة مقدمة ابن خلدون حتى اليوم، بسبب انتباهه واكتشافه قوانين مدهشة في الاجتماع الإنساني، وفي قناعتي أن مشكلة العالم العربي اجتماعية بالدرجة الأولى، بمعنى تنظيم النشاط الإنساني المشترك، ولو تأملنا الفرد بحد ذاته ما كان عليه من غبار، ولكن المشكلة هي في تنظيم نشاطه مع أخيه الإنسان، وتدخل تحت هذا مشاكل الدول العربية بين بعضها البعض.
وأعود إلى كتابات البدوي فأنا منذ فترة طويلة هالني إنتاجه الغزير واطلاعه الواسع، فهو كتب كتابه الأول عن نيتشه وأنا لم أولد بعد، ولكنني والحق يقال اكتشفت الرجل اكتشافا جديدا في سيرته الذاتية، وعرفت طرفا من أسرار نبوغه، وتحسرت لأنني لم أطلع على كل كتبه ولم أقرأ كل ما جرى به قلمه. وعرفت من سيرته الذاتية أنه كتب أربعة مجلدات عن (إيمانويل كانت)، الفيلسوف الألماني، وكنت أتمنى لو حظيت بدراسة موسعة عن هذا الفيلسوف، الذي يعتبر من محطات التنوير العقلي لعصر النهضة الأوروبية. وأهم من هذا أنني اكتشفت أن الرجل لم يكن أكاديميا انخرط فقط في الدراسات النظرية المجردة، بل عانى وفارق الوطن، كما جاء في تعبيره المحزن «الغيبة الكبرى»، مما ذكرني بأفكار الشيعة عن غيبة الإمام والرجل سني، ولكنه عندما يستخدم هذا المصطلح فإنه يعني فراقه للبيئة التي خرج منها إلى غير عودة، كما حصل مع الإمام الشيعي الاثني عشر، فإنه غاب إلى غير رجعة في السرداب، كما تذكر روايتهم القصة. كما أن كتابه عن سيرته الذاتية يفتح عيوننا على مشروعه الفكري مع فترة الظلام السياسي الذي عاشه، فانكب بشغف على التأليف فأنجز على ما روى قرابة 120 كتابا في ثلاثة اتجاهات، الأول في تأصيل فلسفي جديد، والثاني في محاولة ترجمة ينابيع الثقافة الغربية، والثالث في تعريف القارئ العربي بالفلسفة الإسلامية وإبداعاتها. وله رأي لا يخلو من وجاهة، حيث يعتبر أن النهضة الحضارية التي حققها العرب كانت بعد الاحتكاك بالفكر اليوناني، وهو يعني الازدهار العلمي وترجمة العلوم وصياغتها في قالب عربي إسلامي، ثم الإضافة إليها. وهو يرى أنه لا يمكن أن تحدث نهضة عقلية اليوم ما لم نمش بالخطة نفسها بالانفتاح على الفكر العالمي، طالما كان إنسانيا. ومن أجل هذه الفكرة التي استولت عليه بشكل مبكر، فإنه وضع لنفسه خطة ثلاثية كما ذكرنا. ومن الأشياء المثيرة في مذكرات هذا الرجل، التي انكببت على قراءتها لمدة شهر كامل بشغف ومتعة بدون حدود، أنه يؤرخ لحقبة سياسية عاشها في مصر، وهي أيام لا يعرفها إلا الجيل الذي انكوى بنارها. كما لا يخلو كتابه من مسحة حزن وشعور مرير بالإخفاق في الأوضاع العربية، وتمنيت له أن يكون قد تزوج وهو ما لم يفعله. إنه كتاب رائع وصاحبه دماغ نادر.