عبد الحميد أباعوض الإرهابي الصغير الذي سكن جسد أبي عمر السوسي
لا يلفت انتباه أحد حينما يتمشى في شوارع بروكسيل. لم يكن من ضيوف المركز الإسلامي ولا من هواة التردد على المساجد إلا في الأعياد وتحت إلحاح الوالد. بالنسبة له، فإن الحياة كانت أن يحقق الإشباع من الألعاب وكل ما يمنعه الوالد أباعوض من الوصول إليه. الترف وحياة أوربا بكل زينتها كانت الهدف الوحيد من الحياة. كل شيء سيتغير في حياة عبد الحميد أباعوض ذات رحلة فاصلة قبل أربع سنوات، حيث سيطلق الحياة بالثلاث ويتزوج معتقدا متطرفا سيؤدي به إلى تفجير باريس، وتصدر الصفحات الأولى للجرائد العالمية، بعدما كان كل همه خلال المراهقة أن ينجح في إبهار أبناء الحي المغاربة بامتلاكه لمسدس كهربائي للدفاع عن النفس.
البداية حيث انتهى عبد الحميد
حتى الذين كانوا أصدقاءك لم يعودوا متحمسين لانتظارك الصيف المقبل. أنت لم تعد تريد أن ترى أحدا خلال السنوات الأخيرة. أصبحت الزيارات السرية لأماكن بعينها هوايتك المفضلة بعدما كان الجنوب المغربي قبلتك الوحيدة كل سنة طيلة حياتك.
ما الذي جرى حتى أصبح عبد الحميد، ذلك الآخر الذي عرفناه، ولولا الإرهاب لما عرفناه؟
عبد الحميد أباعوض، مسار متذبذب لا قرار له. الكل أصبح ينفر من اسمه، وسرعان ما ستتملكهم الشجاعة ليتحدثوا من جديد، وكل واحد يدعي أنه كان صديقا لعبد الحميد.
ليس من الشجاعة على كل حال أن تدعي أنك كنت صديقا قديما لـ «داعشي» وصلت صورته الشخصية إلى كل المنابر الإعلامية المعروفة، وغير المعروفة، عبر العالم. لنبدأ إذن من البداية.
ضيف على «ولاد تايمة»
أكثر ما كان يشد الأطفال إليه، هي اللعب التي كان يحضرها معه. أول مرة تعرف فيها أبناء الحي على «الوالكمان» كانت في صيف 1995 أو 94 وكان الذي أحضرها هو عبد الحميد أباعوض.
كان منزل أباعوض مكانا تتجدد فيه الحياة كل صيف فقط لا غير. بالكاد يُفتح مرة في السنة أو مرتين، لإزالة خيوط العناكب عن جنباته في انتظار ضيوفه الموسميين. كانت إحدى نساء العائلة مكلفة بمباشرة عملية التنظيف قبل مجيء الأسرة بأيام. منزلان، وليس منزلا واحدا. أشبه بالفيلا، ويوجدان في حي «الفيلات» بأولاد تايمة أو 44 كما يلقبها أبناء المنطقة نسبة إلى النقطة الكيلومترية التي تحيل عليها في الطريق الوطنية، أو «هوارة» اسمها التاريخي. الحي كان راقيا وتقطنه نخبة المدينة.
هكذا كان أصدقاؤه السنويون، ينتظرون عودته إلى الحي، كلما لمحوا السيدة التي تنظف المنزل العائلي. سرعان ما سيسري التفكك الأسري إلى حياة أسرة أباعوض، ويعلم أصدقاؤه أن العائلة تعاني من تصدعات الطلاق، وأن حميد وأخويه الآخرين، يعيشون حياة متذبذبة على الرغم من السعادة التي تبدو عليه وهو يستعرض لعبه ومقتنياته أمام أنظار أصدقائه الذين كانوا، رغم الوسط الميسور الذي ينحدرون منه، لا يتوفرون على ربعها. وهكذا أصبح الطفل حميد محبوبا من طرف الجميع، لعلهم يفوزون ببعض الحظوة ليتقربوا منه، ومن الأشياء الجديدة التي يأتي بها معه.
«كان متسامحا، ومقبلا على الحياة. ولا ينسى وجها من الوجوه التي تعرف عليها قبل سنة». بهذه الجملة يلخص لنا أحد الذين عاشروه عن قرب سلوكاته في أيام الطفولة، وما قبل المراهقة. صديقه هذا من مواليد سنة 1987 أيضا، والتقارب الذي كان بينهما خلال الطفولة كان مرده إلى تقاربهما في السن أيضا. المثير أن عبد الحميد ذرف دمعات ساخنة عندما كان بصدد توديع أصدقائه في الصيف. كان يقول لهم إن الغربة لا تُنسي الإنسان في أصدقائه، وتمنى أمامهم أكثر من مرة لو أنهم يستطيعون أيضا مرافقته إلى بلجيكا. كان يحدثهم عن حياته هناك بكثير من الحماس، وكان بعض الذين يحسدونه يتهمونه بالكذب والمبالغة في وصف الحياة في بلجيكا وفرنسا وأوربا عموما، خصوصا بعدما أصبحت بعض العائلات الميسورة هناك قادرة على اقتناء الصحن اللاقط ومشاهدة القنوات الأوربية. كانوا يقولون لعبد الحميد إن المهاجرين يتفننون في استعراض ملذات الحياة هنا في المغرب فقط، ويمضون السنة في الادخار والعيش على الخبز الجاف والماء في بلجيكا. هذا الكلام لم يكن ليروق لعبد الحميد أباعوض، الذي سيصبح اسمه «أبو عمر السوسي» عندما ستتغير حياته.
بكى أباعوض ذات صيف وهو يودع أصدقاءه من أبناء الحي في نهاية غشت. ووعدهم أنه سيتصل بهم من هناك عبر رسائل يرسلها لأحدهم عبر البريد. خصوصا وأنه أمضى معهم أكثر من عطلة صيفية في لعب «البلاي ستايشن» الذي أحضره معه من بروكسيل، في وقت كان أبناء ذلك الحي لا يرونه إلا في التلفاز.. لكن شيئا من ذلك لم يكن.
ابتلعته الحياة في أوروبا، ولم يسمعوا عنه أي شيء إلا في الصيف الموالي، عندما رؤوا الأسرة تستعد لاستقبال ضيوف المنزل السنويين.
لا أحد عاتب عبد الحميد على الغياب طيلة السنة، لأن الأمر سيصبح ببساطة سُنة مؤكدة، ورغم أنه قضى عطل الطفولة بينهم، إلا أنه لا أحد استطاع التواصل معه بشكل دائم، حتى بعد أن أصبحت الهواتف وربط الأنترنيت متوفرا للجميع. كان حميد يعيش بينهم حياة مستقلة كل صيف، ولا يعلمون أي شيء عن حياته الأخرى، هناك في الضفة الأخرى.
الحياة الأخرى في بلجيكا
إذا كان منزل «أباعوض» في المغرب يقع في حي راق، فإن المكان الذي يقطنه في بلجيكا لم يكن كذلك. دواعي الهجرة التي اتخذت من أوروبا مجرد ملجأ اقتصادي كانت فلسفة عميقة نهجها الجد أباعوض. هذا الرجل التسعيني الذي عاد إلى المغرب نهائيا ولم يتبق له من أوروبا إلا الذكرى، لا زال يعيش إلى اليوم على ذكريات مسقط رأسه القديم بعيدا عن «ولاد التايمة» بمنطقة نائية في نواحي «إغرم»، حيث الوصول إليها يستدعي قطع الفيافي والتضاريس الوعرة. من المرجح أن يكون عبد الحميد، أو «أبو عمر السوسي» قد زار مسقط رأسه هذا مرة أو مرتين أو ربما لم يزره أبدا. لا أحد أكد هذا المعطى أو استطاع نفيه بالقطع، لكن الأكيد أن أكثر ذكرياته المغربية ترتبط أساسا بمنطقة «هوارة» وليس مسقط رأس الجد.
إلى بلجيكا، كان يصل عبد الحميد أباعوض منهكا، وهو الذي فتح عينه لأول مرة تحت سماءها في 1987. بالنسبة له، فقد انتقلت إليه العدوى التي تركها جده في شرايين والد عبد الحميد. لا أمل أبدا في البقاء في أوروبا طيلة الحياة، وعلى المرء، مهما امتدت به الأجيال، أن يفكر جديا في الاستقرار النهائي في المغرب.
هذه الفكرة كانت ضربا من الخيال عند عبد الحميد، كما يروي صديق له، خصوصا ما بعد سنة 2000، حيث صرح لعدد من أصدقائه بأنه يفكر في الاستقرار نهائيا في بلجيكا، وأن والده وجده يشجعان بعضهما دائما على لم الشمل العائلي بشكل نهائي في المغرب. لكنه لم يتحمس أبدا لهذا الطرح، وكان يخطط لقضاء حياته في حي مولينبيك ببروكسيل، حيث استقر والده، أو في أي مكان آخر في أوروبا، المهم بالنسبة له ألا يعود إلى المغرب إلا زائرا. وهنا بدأ الشرخ بينه وبين أصدقاء الطفولة في الاتساع، خصوصا وأنه مع توغله أكثر في سن المراهقة، لم يكن يتردد في إبداء مشاعر الضيق من المغرب والعطلة السنوية العائلية التي باتت مفروضة عليه.
في حي «مولنبيك» عاش عبد الحميد طفولة مختلفة تماما عن طفولة بقية أبناء المغاربة الذين تربوا في ذلك الحي الذي كان يدخل في إطار الأحياء الهامشية للمدينة الكبيرة. عمل والده كان يسمح بتوفير حياة كريمة للأسرة. وقد تناقش مع أبنائه، خصوصا خلال سن المراهقة، كثيرا في موضوع الانتقال للسكن في حي آخر أكثر «رقيا»، لكن الوالد كان يمتنع لأنه يعتبر الهجرة مجرد فرصة لجمع المال. لم يكن لديه مشكل مع العيش في حي بسيط بأوروبا ويوفر حياة باذخة في المغرب. لكنه لم يكن ليقبل، دعوة أبنائه، خلال مراهقتهم، إلى تأسيس حياة باذخة في أوروبا على حساب الحياة في المغرب.
عبد الحميد عاش حياة عادية جدا هناك. وكانت مرحلة مراهقته صعبة جدا على الوالد عمر أباعوض. فالحياة الكريمة التي يوفرها الوالد لأبنائه هناك، جعلت أبناءه «مدللين»، خصوصا عبد الحميد ويونس.
في قلب العائلة
كان الأب مرة يتابع نشرة الأخبار في طقس بارد من أيام دجنبر خلال سنة 2003. دخل الإبن حميد في وقت متأخر، فوجد الأب ينتظره بالمرصاد. كانت ليلة غير عادية في منزل أباعوض، لأن الأب هدد عبد الحميد بإرساله نهائيا إلى المغرب، حتى يتكلف جدّه بتربيته وفق تقاليد «البلد»، بدل «الصياعة» التي بدأت تجذبه في حياة أوروبا «المنفلتة». كان الأب محافظا ولم يكن يقبل أن يتأخر عبد الحميد في السهر ليلا رفقة أصدقائه في حي تشيع فيه مختلف أنواع المخدرات. هنا بالضبط بدأت حياة عبد الحميد تتغير نحو الأسوأ الذي سيقوده إلى حتفه.
سيأتي فصل الصيف، وستكون الأسرة على موعد مع عطلة سيسودها التوتر. وصلت إلى المغرب، وكان البرنامج كالعادة: قضاء العطلة في منزل الأسرة في الحي المعتاد. لم يكن صيف تلك السنة مختلفا عن غيره، لكن عبد الحميد سيحاول أن يتمرد على تقليد العائلة، وسيبدأ الأصدقاء في إبداء ملاحظات حول عبد الحميد الذي أصبح يكبر أكثر منهم. قال البعض إن السبب راجع إلى الطعام الأوروبي الذي يجعل الشاب يحظى بعضلات ظاهرة في وقت قصير، وأن ينمو له شارب في أقصر وقت. لكن الأمور كانت أكبر من ذلك. إذ أن عبد الحميد أباعوض لم يعد طفلا. وكان يرى العالم بعين خبرت الحياة في أوروبا، عكس أصدقائه المحليين الذين كانوا يمضون سنوات عمرهم في نفس الرقعة، ولا يغادرونها إلا نادرا.
الاختلاف بين «الأصدقاء» أصبح كبيرا، إلى الدرجة التي فقد معها عبد الحميد صداقات كانت عابرة، لكنها موسمية على كل حال. ولم يعد يتواصل أثناء وجوده في المغرب إلا مع قلة قليلة بقيت صامدة أمام التغيير الذي أصبح يعيشه.
كان يمضي سحابة يومه في امتطاء دراجة نارية رباعية العجلات. ويضع في أذنيه سماعات صغيرة لجهاز الموسيقى الذي كان يجد صعوبات في إرضاء أصدقائه الذين كانوا يطلبون منه تركه معهم بالتناوب، حتى يستمتعوا بسماع موسيقى بمعايير جيدة لا توفرها الأجهزة المحلية.
سيكون على عبد الحميد، أن يجد في كل مرة كذبة حتى يبرر لوالده سر غيابه عن أداء الصلوات في المسجد القريب من الحي الذي تقضي فيه العائلة عطلتها الصيفية، لكنه لم يكن يمنعه من السهر رفقة الأصدقاء المغاربة ظنا منه أن ابنه بين أياد أمينة ما دامت محلية.
بين الفينة والأخرى يكون هناك حديث عن مسقط الرأس الذي جاء منه الجد، ويشرع الوالد في كثير من الحماس، ليحكي لأبنائه، ومن بينهم عبد الحميد، ويونس الذي سيصبح إرهابيا وستظهر صوره في القنوات العالمية وهو يجر جثت الرهائن المذبوحين في معسكرات «داعش». كان الوالد ينظر إلى ابنيه بكثير من الأمل، وقتها، وهو يحكي لهم عن «البلاد» وخصوصيات المنطقة الجبلية التي ينحدر منها أصل العائلة. وعن غيرة «الأمازيغ» وصلابة الفلاح، لكنه كان يحرص دائما على تذكيرهم بالحياة الصعبة التي كابدها جدهم لإنقاذهم وإنقاذ أبيهم قبلهم، ولولا أنه كان من بين الذين اختارهم «موغا» الفرنسي للعمل في المناجم في فرنسا، لكان وضعهم في المغرب لا يختلف عن وضع أبناء القرى الجبلية الذين يعانون الفقر والجوع وانسداد الأفق.
هذا الدرس العائلي، لم يكن يحركه الفراغ. بل كان الأب حريصا على تذكير الأبناء بأنهم محظوظون بالحياة التي ينعمون بها، وأن الحياة في مسقط رأس جدهم كانت صعبة للغاية ولا تزال.
لكن عبد الحميد وحتى يونس، لم يكونا ليعيرا اهتماما لكلام الأب، فكل همهما وقتها كان منحصرا في اللهو ومحاولة تبديد الضجر الكبير الذي تأتي به العطلة.
راج في الحي أن عبد الحميد أحضر معه من بلجيكا، أداة غريبة وخطيرة، لا يتوفر عليها إلا بائعو المخدرات في الأفلام. مسدس كهربائي للدفاع عن النفس وصعق المهاجمين. هذا الخبر لوحده كان كافيا لكي يتحلق حوله معظم الشبان ويطالبوه بأن يريهم السلاح الكهربائي الخطير. لكنه كان ككل مرة، ينكر توفره عليه.
البعض فسروا نكرانه بأنه يخاف من أن يصل خبر المسدس الكهربائي إلى والده أو إلى الشرطة. وآخرون صدقوا فعلا أنه لا يتوفر على المسدس الكهربائي، لأنهم يعرفون أن عبد الحميد لا يخفي الأشياء التي يجلبها معه في العطل الصيفية، ويحاول دائما أن يبهر المحيطين به بالأشياء الجديدة.
بعض الروايات تقول إنه من المرجح أن يكون قد أحضر معه مسدسا كهربائيا صاعقا، إلى المغرب قصد التسلية وحاول إخفاءه عن الجميع، بينما آخرون رجحوا أن يكون الأمر مجرد إشاعة أطلقها بنفسه لإثارة إعجاب أصدقائه. فقد كان يحكي لهم كثيرا عن مغامرات وقصص العصابات التي لا يعرفونها إلا في الأفلام.
مغامرات بروكسيل
كانوا يتحلقون حوله خلال العطل الصيفية التي سبقت سنة 2010. ويبدأ هو في ممارسة لعبة الحكي بكثير من الخيال. أخبر أبناء الحي في هوارة مرة أنه تعرض لملاحقة هوليودية في قلب بروكسيل، بسبب الإفراط في سرعة قيادة دراجته النارية. وكان الرهان بينه وبين أصدقاءه البلجيكيين ألا يتوقفوا أمام الشرطة مهما كان السبب. فما كان من الشرطة إلا أن لاحقتهم، ولأنه كما يقول، كان يحمي وجهه بالخوذة، فإن الشرطة لم تتعرف عليه، وكان يقود دراجته النارية بمهارة بين الأزقة الضيقة في بروكسيل، وصولا إلى الضواحي التي يوجد بها الحي الذي تسكنه العائلة، حيث ضلل سيارات الشرطة ودراجاتهم ودخل للحي من زقاق جانبي لا يعرفه إلا أبناء المدينة الحقيقيين.
هذه الحكاية جعلت عبد الحميد يحظى باحترام الشبان جميعا، علما أن أغلبهم كانوا يحسدونه على الحياة التي يعيشها خارج المغرب، ولم يفكروا أبدا في أن يكون الأمر مجرد مبالغات يحاول بها عبد الحميد أن يبدد الضجر عن حياة رتيبة يتحكم فيها الوالد بشكل كبير في بلجيكا.
الصيف الأخير..
الصيف الأخير كان أكثر من عادي، حيث مارس فيه عبد الحميد أباعوض هواياته السابقة جميعها. لكن شغبه كان قد ازداد عن حده، كما أن جده كان دائم العتاب له ولأخيه، لأنهما باتا يشكلان ثنائيا متمردا على التقاليد العائلية.
رحل أباعوض هذه المرة غير مودع. وستنقطع أخباره. لكن والده كان قد أخبر الذين سألوا عنه أنه أرسله ليحفظ القرآن الكريم، حتى يصنع منه شابا صالحا بدل حياة «الصياعة» والانفلات التي يعيش فيها في بلجيكا. بعدها، توالت الأخبار على أبناء الحي، والتي كانت كلها تؤكد أنه أصبح يعيش حياة جديدة ويحفظ القرآن الكريم، وسيرون في آخر زيارة له، أنه أطلق لحيته، ولم يعد يتلفظ بالكلام البذيء، حيث اعتاد في ما سبق من حياته أن يعلم أبناء الحي كيف يتلفظون بالكلام البذيء باللغة الفرنسية.
تغيرت حياة عبد الحميد وأخوه يونس، بعد العودة من مصر، حيث تلقيا هناك تعليما دينيا، بعد أن نجح أحد المشايخ في بروكسيل، في تشجيع والدهما على إرسالهما إلى هناك ليقوم سلوكهما، فإذا بحياتهما تنقلب رأسا على عقب.
ماذا وقع؟
لا أحد يملك رواية دقيقة بالتواريخ والأماكن لما يمكن أن يكون قد وقع لعبد الحميد أباعوض، الذي بات أشهر إرهابي في العالم. لكن الوالد الذي صام اليوم عن الكلام، لأنه لا يزال تحت تأثير الصدمة، وحده يملك جزءا من الجواب. كيف استطاع شاب مقبل على الحياة مثل عبد الحميد، أن يتحول إلى متشدد أخذ من الدين ما أراد له متطرفون أن يأخذ، ويتحول فكره بمائة وثمانين درجة، ليعانق الآخرة من الاتجاه الخطأ بعد أن كان كل همه منحصرا في التمتع بالحياة والعطلة الصيفية بعيدا عن رقابة الأب وتوبيخ الجد.
ما وقع، أو لنقل جزءا مما وقع، أن أفكارا متشددة تسربت إلى دماغ عبد الحميد أباعوض في عز انشغاله بحفظ القرآن وتلقي التربية الدينية التي ظن أنها ستنقذه من التيه الذي كان غارقا فيه.
وهكذا عاد أباعوض من مصر، ومن أماكن أخرى في المشرق، كان قد انتقل إليها لتلقي «التعاليم» الجديدة التي ستجعل منه مشروع إرهابي، وانتقل رأسا إلى بلجيكا، ولم يكن قد وضع زيارة المغرب في اهتماماته السنوية. وهكذا اعتذر لوالده، خصوصا وأن العائلة كانت تعيش انقساما بعد طلاق الوالد والوالدة، وأخبر أباه أن أشياء مهمة بالنسبة له تستدعي بقاءه في بروكسيل هذه السنة، على أن يفكر في زيارة المغرب في مرات أخرى..
الإرهابي الأكثر شهرة في العالم
المرة الأخرى لم يكتب لها أن تكون، ولا بد أن عبد الحميد أيضا لم يكن متحمسا لأي مرة أخرى بقدر ما كان منهمكا في التخطيط لتفجير أوروبا. كان قد بدأ في ربط علاقات مع الداعشيين، وسبقه أخوه يونس، الذي ظهر في مجلة داعشية باللغة الإنجليزية، تصدرها داعش، يقود مركبة تسحب خلفها جثث رهائن تم قتلهم على يد مقاتلي «داعش». استنفرت الصورة العالم، وبات الجميع يعرفون أن يونس أباعوض أصبح داعشيا، ودخل الوالد في نوبة اكتئاب كبيرة. كل شيء انتهى عند يونس أباعوض عندما جاء إلى المغرب ليتم اعتقاله في المطار للتحقيق معه حول خلفيات ظهوره في صور التنظيم الإرهابي الأكثر خطورة في العالم. بينما كان عبد الحميد على وشك أن يبدأ قصته التي ستكون أكثر وقعا في نفس الوالد أباعوض والجد، وقبلهما، كل الذين هزتهم تلك الأحداث.
سيظهر أباعوض كالمعني رقم واحد بما وقع في باريس، وسيتم اقتفاء أثره بصعوبة، بعد تدخل الأجهزة السرية واتحاد عملها، وتعاونها مع المصالح الأمنية في المغرب، للوصول إلى عبد الحميد، الذي سيقاتل حتى الرمق الأخير، لينتهي مقتولا، ويسدل الستار على قصة ابن «هوارة» الذي بدأ وديعا وتقاذفته الحياة، ليكون في المكان الصحيح في التوقيت الخطأ، ويصبح قنبلة موقوتة انفجرت هكذا بدون مقدمات..