نادين خماش
«أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أستعجب». ربما كان من السذاجة تصديق حركة طالبان حين ادعت أنها «تغيرت» و«صدقها» المجتمع الدولي أو ادعى «تصديقها». انتزعت اعترافا، قبل أن تُطهر وجهها «المظلم» مجددا للشعب الأفغاني عموما ولنسائه خصوصاً.
تعيدني الذاكرة إلى ما قبل الانسحاب الأمريكي بأيام حين شهدتُ مع فريق «العربية» هذه المرحلة وما تلاها من سيطرة حركة طالبان على كابل، لتعود ممسكةً بالحكم في البلاد بعد عشرين عاماً من الإطاحة بها.
عشرون عاما طرأت فيها تغيرات عدة في المجتمع الأفغاني، أبرزت جانبا مشرقا لعودة الحياة ـ وإن بالحد الأدنى ـ وكان أهمها استرجاع النساء حقوقهن في العيش والمضي جنبا إلى جنب مع الرجل، كما وثقت كاميراتنا وتغطيتنا في تلك الفترة.
كانت الفتيات في المدارس والجامعات، يجلسن في المطاعم ويسرن في الشوارع بحرية. كن نجمات تغطيتنا الإخبارية في ساعات مباشرة طوال، خصصناها على شاشة «العربية» من العاصمة الأفغانية كابل، على مدار أسبوعين.
في تلك الفترة، كانت حركة طالبان تتقدم عسكريا في الأطراف والأحياء ولم تكن بعيدة عن العاصمة. كان الخوف الأكبر لدى الأفغانيات من عودة الحركة والعودة بالزمن 20 عاما إلى الوراء. تعرفت إلى عدد كبير من تلك النساء، تختلف رواية كل منهن لكن القاسم المشترك كان جملة لا تزال تطن بمسامعي ـ وتذكرتها اليوم مجددا مع قرار الحركة المجحف ـ بقولهن «المرأة هي عدو حركة طالبان».
طالبت الأفغانيات يومها بأن تضاف حقوقهن كنقطة أولى في «مفاوضات السلام» بين الأطراف كافة. أردْنَ ضمانات حقيقية قبل أي تغيير دراماتيكي سيطرأ على البلاد.
وهنا أعود لأتذكر مقابلة أجريتها كموفدة لـ«العربية» مع مسؤولين سابقين في «طالبان» وأتذكر اليوم «قناع اللطافة» الذي لبسوه ليبدو وكأنه «وجه مستقبلي جديد مشرق» للحركة.
اليوم تكشف الحركة أكثر فأكثر عن إيديولجيتها ولا تمانع أن تظهر «كاذبة» أمام الأفغانيات والأفغان والعالم ككل.
ها هي تغلق الجامعات في وجه الأفغانيات، بعد أن راحت تُغلق الحياة بكل تفاصيلها بوجههن منذ سيطرتها على الحكم. لكن السؤال الأهم هو: لماذا تخشى طالبان النساء؟
فتعليم النساء يعني تمكين المرأة، ويعني أن يكون صوتها مسموعا. أن تربي أجيالا وشبابا بطريقة حضارية. أما الجهل فيربي الجهل. وبالتالي مشروع الابن المستقبلي المتشدد أولا والمتطرف تاليا هو المشروع الأنجع لهذه الحركة، ومجابهة النساء يمر من هنا.
أضف إلى ذلك عامل الفقر والإفقار عبر الجهل والتجهيل، ما يعزز فرص استقطاب شباب يتخذون مسارا ظلاميا في الحياة.
صحيح أن الوجود الأمريكي نجح في دحر طالبان عسكريا في السابق وأصبح الوضع أفضل بكثير خلال عقدين من الزمن، لكن الأمريكيين لا يزالون يجهلون الفرق بين محاربة الإرهاب ومكافحته. بين العمليات العسكرية والإنماء الفكري والاقتصادي، لمنع قيام البيئة الحاضنة لإعادة انتشاره.
فلنتخيل مجتمعا بدون نساء متعلمات. فلنتخيل طبيعة التربية المنزلية تاليا. فالمنزل صورة مصغرة عن المجتمع بشكل عام. وبتخيل ذلك نتنبأ بأي مستقبل ينتظر أفغانستان.
الأفغانيات كن أكثر رؤيوية من مراكز الدراسات العريقة في كل العواصم الكبرى، ما حذرن منه يومها، ها هو العالم يستنكره اليوم بعد أن فات القطار. وإن لم يلحقه العالم ويوقفه، فالمستقبل في تلك البقعة من العالم «مظلم»، وفي زمن العولمة والتنقل الحر فالعالم أجمع بخطر!