د. خالد فتحي
لم تهم الانتخابات الأمريكية التي جرت البارحة الأمريكيين وحدهم، إذ أظهرت من جديد أنها تمثل دائما أبرز حدث سياسي واقتصادي عالمي على الإطلاق.. فنتيجتها ليست بأية نتيجة؛ هي تؤثر على بني «جلدتهم»، وكذلك على صراعات العالم، وحروبه واقتصاده، وعلى معيشة الناس فيه، وحتى في القوانين الوطنية التي ستسنها برلماناتهم وتطبقها عليهم.
ولذلك لم يكن غريبا أن حبس الجميع أنفاسه أمام سباق كان محتدما، واستثنائيا، ومشوقا للغاية، بسبب ما أدت إليه «الترامبية» من اتساع للفجوة الإيديولوجية، ومن انقسام وتنازع قيمي ببلاد «العم سام»، وما أثارته سابقا من توجسات في مناطق عديدة من العالم، مما جعل كل منطقة منه تحدد مثلها في ذلك مثل جميع الولايات الأمريكية من تحبذه من المرشحين، هذه الانتخابات بالخصوص كانت مختلفة، ولم تكن كسابقاتها. لقد جرت تحت سيف ترامب الذي ما زال 70 في المائة من أنصاره الجمهوريين يعتقدون أن انتخاب بايدن لم يكن شرعيا، وأنهم إنما ينزلون إلى المعترك تحت راية المنقذ ترامب، لأجل «تحرير» الولايات المتحدة الأمريكية، بلد الحرية، من الاحتلال، فهو المخلص الذي سيقوم، حسبهم، بإنصاف كل هؤلاء الذين قد همشتهم العولمة.. «رجل الأقدار» الذي تحدى الظلم والمضايقات والمطاردات السياسية والقضائية، وأفلت بإرادة من الله من الاغتيال مرتين متتاليتين.
نعم نحن نتنفس الصباح الذي سيتذكر فيه العالم جيدا أنه أفاق فيه على رجعة الرئيس، الذي انبعث من الرماد كطائر الفينيق. لكأنما عدنا جميعا القهقرى في ليلة واحدة، لنجد التاريخ يعيد نفسه. إنها فعلا انتخابات بنكهة هوليودية.
نعم، لم يلتفت الأمريكيون إلى صيحات التحذير من خطر انطفاء الديمقراطية ومن فرض الديكتاتورية، إذا ما انتخبوا ترامب رئيسا لهم. فهل يا ترى بعد هذا النصر الكبير قد كان هذا التحذير في محله، أم هي فقط خدع الحرب والمبالغات في شيطنة الخصم، التي تبثها اللوبيات ووسائل الإعلام المنحازة؟
لقد نجح ترامب في رأيي بدل هاريس، لأنه يعرف ويحدد المهمشين والمقصيين من خلال وضعهم الاقتصادي، ولذلك تعبر شعبيته كل الفئات والأقليات، في الحين الذي تحددهم فيه هاريس من خلال لون البشرة، وجنسهم، وتوجههم الجنسي، بالتالي عبر الانحياز لأقليات، فلا تنتبه إلى أنها تصبح بذلك هي وحزبها الديمقراطي أكثر عنصرية من ترامب، وفي حق أغلبية واسعة من الناس.. هي تستغل مفهوم الأقلية، لإرساء دكتاتورية وعنصرية من شكل آخر.
من سوء حظ هاريس أيضا أنها تمثل في نظر الأمريكيين امتدادا لبايدن، ولذلك لم ينظروا لها، إلا أنها ستستنسخ ضعفه وأزماته التي رمى بها أمريكا والعالم.. بل رأوها مجرد مرشحة طارئة قد دفعها إلى الواجهة خرف رئيسها، والذي لن تستطيع أن تأتي بأيام أفضل من أيامه، تلك التي كانت عناوينها الكبرى، التضخم وارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال الاقتصادية. ولذلك فترامب، ورغم أنه رئيس سابق، تمكن من أن يجسد التغيير الذي ينشده عادة المصوتون، والذي يهيم به الأمريكيون. لقد كان المرشح الذي دغدغ آمال الأمريكيين؛ وخاطبهم بما يموج به مزاجهم. فهو سيطبق لهم الحمائية ويرفع الرسوم الجمركية، مما يعني «تشجيع» الصناعة وإنعاش الاقتصاد، هو أيضا سيخفض الضرائب، وسيبني الأسوار الشاهقة حول أمريكا، كأنه يعد المصوتين بأن يعزلها عن هذا العالم المريض. صحيح أن باقي العالم قد يتضرر من هذه القرارات، لكنها قرارات ستدفع في رأي من اختاروه من الأمريكيين التضخم، والمهاجرين اللاتينيين، وغول الغلاء عنهم.
لم تطرح هاريس برنامجا اقتصاديا جيدا بالمقارنة مع ترامب، الذي يتذكر الأمريكيون رخاءه قبل كورونا، والذي يأملون تبعا لذلك أن يحسن تدبير الاقتصاد أفضل منها. فالأمريكيون براغماتيون جدا، ويهمهم الاقتصاد أولا وأخيرا، ولذلك أداروا ظهورهم للديمقراطيين، الذين لم يقدموا لهم أفقا واعدا وثوريا يقلب أحوالهم نحو الأفضل. بل لم تضع هاريس لحمتها، ولو شعارا جاذبا يدل عليها.
لم تفهم هاريس كذلك الكثير من الأمور، ومنها أن الأمريكيين لا يريدون إصلاحا شاملا للهجرة، بل هم يريدون في الحقيقة منع المتسللين من تجاوز الحدود. والذين يتهمهم ترامب بتنغيص الحياة في أمريكا، راميا إياهم بأشنع النعوت.
والمفارقة أن هذا الخطاب لم يجلب عليه حنق الأمريكيين من أصل أمريكي لاتيني، لأن رؤية هؤلاء الذين ينعمون بالجنة الأمريكية لملف الهجرة تختلف عن أولئك الذين ما زالوا خلف الحدود مشرئبين لدخول أمريكا، والذين لا يصوتون كالآخرين بطبيعة الحال.
الآن يتأكد كذلك أنه رغم كل ما كاله خصوم ترامب له بخصوص اندفاعه وسخريته، وعدم إمكانية توقع خطواته في مجال الشؤون الخارجية، فإن ذلك لم يكن ليؤتي أكلا، فالصورة التي انتصرت في النهاية، هي كونه يمتاز عن الديمقراطيين الحاليين بأنه لم يتسبب خلال عهده في حروب كبرى، كان رجل الصفقات والتدخلات العسكرية الخاطفة والدقيقة، كاغتياله للبغدادي والسليماني.
بينما بايدن خلفه هو من دفع ببوتين إلى غزو أوكرانيا، وهو من شنت إسرائيل خلال ولايته أطول حرب مجنونة لها بالشرق الأوسط.
ترامب في اعتبار أنصاره هو إذن الرجل الذي يحتاجه هذا العالم المضطرب غير المستقر.. هو الرئيس الذي يمكنه أن ينتشل أمريكا من ورطة الحرب الروسية الأوكرانية، والتي لا خيار لهاريس سوى الاستمرار فيها. هو أيضا من يمكنه أن يفرض حلا في الشرق الأوسط، لديه أوراق كثيرة يمكنه أن يستثمرها.
ركزت على التخويف من ترامب ووصفه بأنه مثير للانقسام، لأجل أن يتم التصويت عليها، لقد حذرت مثلا من حرمان الأمريكيات من الإجهاض، إذا ما وصل ترامب إلى البيت الأبيض، لاستمالة المرأة. لكن ذلك ظل دون تأثير، فالمجتمع الأمريكي في عمقه لا يزال متشبعا بالأخلاق المسيحية وبالفطرة الإنسانية.
ولذلك فإن هذا السلاح الذي استعمل بنجاح خلال الانتخابات النصفية، يبدو كما لو أنه قد صدأ في يد الديمقراطيين. ولربما حفز أكثر أولئك النساء البيض من الجمهوريات المحافظات على طرق الأبواب، حتى لا يتم التخلي عن المكاسب التي حققها ترامب في المحكمة الفيدرالية، من خلال إعدام «حكم روي ضد وود».
صمم ترامب على إعادة الاعتبار لنفسه، ورسم نفسه كظاهرة، وهو بهذا النجاح سيفتح الملفات القديمة، وخصوصا ملف الانتخابات السابقة، وسيصفي خصومه ويتحفنا بمسلسلات غاية في الإثارة. ولذلك هو صباح مختلف جدا. الصباح الذي عاد فيه ترامب لتسيد القوة العظمى في العالم؛ والذي ستعاد فيه الحسابات في المشهد الأمريكي والدولي. ولذلك، هو انتصار ليس له نفس الوقع عند قيادات العالم. بوتين سيفرك يديه فرحا، فترامب صديقه الذي قد يجد له ولأمريكا مخرجا مشرفا ويتنازل له عما اقتطعه من أوكرانيا. غريمه زيلنسكي لن يستجدي العون الغربي بالكرامة والاعتداد بالنفس والتعالي الذي كان يفعل بهم ذلك من قبل، وقد يضطر صاغرا إلى توقيع ما سيجبره عليه ترامب من استسلام مذل. دول الناتو ستجد نفسها أمام شعوبها، وقد تخلت عنها الدولة التي ورطتها في الصراع ضد روسيا، فلا ألمانيا ولا فرنسا ترغبان بترامب، رغم أن انضواءهما تحت لواء الديمقراطيين في الحرب أضر بشعبيهما كثيرا. فوز ترامب الذي تحول إلى مناحة بالفضائيات الأوروبية، سيؤدي ولاشك إلى تغييرات كبرى بكل دول الاتحاد الأوروبي، التي أخلف قادتها وإعلامها كالعادة الموعد. الصين من جهتها تعرف أن ترامب يعتبرها خصمه الأول، وبالتالي لا تستبشر به خيرا. وستخوض جولتها الثانية معه. في الشرق الأوسط، لا ترحب إيران على عكس صديقتها روسيا بترامب، فهو لا يحبها وهي لا تحبه. في هذه المنطقة، يمكن لترامب أن يعول على الذكريات السيئة التي خلفها ربيع الديمقراطي باراك أوباما بالعالم العربي، وأن يستأنف صفقاته المألوفة، ويفرض على أصدقائه العرب حلا، ولو كان مجحفا في حقهم لإنهاء حرب غزة، وربما توسيع حدود إسرائيل.
أما الشعوب المسلمة التي ترى في الرئيس الأمريكي ديمقراطيا أو جمهوريا حليفا دائما لإسرائيل، فإنها إن خيرت ستختار ترامب، بسبب محافظته ودعوته إلى القيم الأسرية والدينية، وموقفه المناهض للمثلية والإجهاض والتحول الجنسي. ولذلك قد صوت المسلمون الأمريكيون لصالح ترامب. يجب أن لا نسقط من الحساب منظمة الصحة العالمية، ورئيسها الإثيوبي تيدروس أدهانوم، الذي يتحسس رأسه بالتأكيد، فهو خصم معلن لترامب. بل إن إعلانه الأخير المتعسف لجدري القردة طارئة عالمية، كان في الواقع مجرد مناورة منه وفخا أراد أن يستدرج به ترامب لتصريحات تشبه تصريحاته خلال كورونا، ولذلك عليه الآن أن ينتظر توقيع العقاب.
في بلدنا المغرب الذي يهمنا بالأساس، تكون عودة ترامب خبرا جيدا لنا، فهو الرئيس الذي كان له سبق الاعتراف بالسيادة المغربية على صحرائنا الجنوبية، وبهذا المعنى يكون فوزه عاضدا لمساعي المملكة لإنهاء هذا الملف المفتعل.
الواضح أن وصفة ترامب نجحت. وأنه فاز شعبيا وفي المجمع الانتخابي، وأنه كيفما كان موقفنا منه، فقد كان نموذجا للعصامية والثقة بالنفس وتحدي الخصوم. انتخابه سيعيد الآن ترتيب كثير مما يجري عالميا، وهو يمتلك الجرأة لذلك. وعودته من خلال هذا النصر المؤزر، ستعطيه تأثيرا أكبر من تأثير ولايته السابقة.
فرغم «شعبويته» ومزاجه المختلف؛ فهو على الأقل يحمل الجديد لهذا العالم.
نحن بطبيعة الحال لا نستطيع تبين هذا الجديد بشكل واضح حاليا، ولكننا على الأقل نعرف أن الحاضر سيئ جدا، وأن بايدن يترك العالم في أسوأ حالاته. ولذا فانتخاب ترامب يفتح رغم كل ما يقال عن الرجل بابا جديدا للتغيير.. علينا أن ننتظر، ونرى هل سيكون نجاحه هذا سلاما ونجاة، أم هلاكا لأمريكا والعالم؟