شوف تشوف

الرأيالرئيسية

شوبنهاور والدينار الذهبي

شوبنهاور والدينار الذهبي

بقلم: خالص جلبي

 

جاء في كتاب «قصة الفلسفة» للكاتب الأمريكي «ويل ديورانت»، وهو كتاب جدير بالاطلاع، حديث عن الفيلسوف الألماني «آرثر شوبنهاور»، ورد فيه أنه «جرت عادة الفيلسوف أن يتناول طعام غدائه في مطعم يتردد عليه الإنجليز، وكان يضع دينارا ذهبيا على مائدة الطعام أمامه في كل مرة، قبل أن يتناول طعامه، ويعيده إلى جيبه بعد انتهاء كل وجبة، وسأله خادم المائدة بشيء من السخط عن هذا التصرف، فأجابه شوبنهاور: «أنه قد أخذ على نفسه عهدا بإلقاء هذا الدينار الذهبي في صندوق الفقراء، في أول مرة يسمع فيها الضباط يتحدثون في شيء آخر سوى الحديث عن ثلاثة أمور: الخيل والنساء والكلاب. وهو يعيده إلى جيبه، لأنهم لا حديث لهم سوى عن هذه الأمور».

وأنا شخصيا أتعجب من أناس كيف يضيعون أوقاتهم في التوافه، والإنسان كمعادلة لا يزيد على «لحظات الجهد الواعي المبذولة عبر الزمن»، والقرآن يتحدث عن الذين «جاهدوا في الله حق جهاده»، والجهاد في الله هنا هو مجاهدة النفس لاكتشاف العالم.

وحسب «شوبنهاور»، فإن الفيلسوف هو الذي يحافظ على روح الطفولة من الدهشة واكتشاف العالم، وحفظت عن «مالك بن نبي» فقرة جميلة تقول: «يصعب على الشعب الثرثار التنبه لوقع أقدام الوقت الهارب». ويوجه إلي كثيرا السؤال نفسه: كيف توفق بين الطب والفكر، ومن أين لك الوقت؟ والجواب أنه ليس الوقت، بل الاستفادة من الوقت، وأنا كتبت هذه المقالة، فيما كانت مساعدتي تحضر المريض في قاعة العمليات فلا أضيع الوقت، بما فيه وقت الانتظار. والحياة قصيرة كما يقول شوبنهاور، ولكن الحقيقة بعيدة الأثر وحياتها أطول، ومشكلة الوقت أنه رأسمال واحد معطى للجميع، «وما كان عطاء ربك محظورا». ويفضل الله بعضهم على بعض بكيفية استخدام الوقت، فمنهم من بنى نفسه به، ومنهم من أضاعه فأصبح مفلسا، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

وحسب الفيلسوف «محمد إقبال»، فإن الزمن ليس دورة الفلك، بل حالة النفس، وقد يقرأ الإنسان عشرات الكتب تسلية، وقد يقرأ قصة أو كتابا فيخرج منه وقد تغير، والقرآن كتاب حجمه ليس بالكبير، ولكنه قلب محاور التاريخ وما زال، «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا». والفلسفة كما يقول شوبنهاور ليست قراءة الكتب، بل تأمل الحياة، وهو من أجل ذلك وضع كتابه في عام 1844م بعنوان «العالم إرادة وفكرة»، ولكن بكل أسف فلم يبع إلا بنسخ معدودة، وبعد 16 سنة من إصدار الكتاب أُخْبِر الفيلسوف أن جزءا من الكتاب سوف يباع تالفا لرزم البضائع، فالكتاب لم يلفت النظر ولم يبع. وفلسفة شوبنهاور في الكتب جميلة، فهو يرى أن لا نعرض عقولنا باستمرار لتدفق أفكار غيرنا، لأنه يحصر أفكارنا ويكبح انطلاقها، ويؤدي في النهاية إلى شل قوة التفكير عندنا.

ومن الخطر أن نقرأ عن موضوع قبل أن نكون قد فكرنا فيه بأنفسنا، وأنا أذكر ذلك من نفسي حين تعلمت الطب، فكنت أطرح السؤال وأبحث عن المريض، ثم أرجع فأقرأ المصادر فتعلمت وبنيت الكثير، وفي جراحة الأوعية الدموية وضعت أيضا ألف سؤال وجواب، وهي طريقة جيدة لتدريب العقل على شحنه بالمعلومات. وحسب شوبنهاور، فنحن عندما نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا، وهو أمر يجب أن نطبقه على نفس أفكار الفيلسوف، وأحكامه السيئة، سواء في مسحة التشاؤم التي تغمر مؤلفاته، ولم يكن الوحيد، بل كان طابع العصر. ويشبهه في هذا «بيرون» البريطاني و«هيني» الألماني و«دي موسي» الفرنسي و«ليوباردي» الإيطالي و«بوشكين» الروسي، بل وحتى الموسيقيين من أمثال «شوبرت» و«شوبان» و«بيتهوفن»؛ فالعصر كله كان حطاما يبابا خرابا، بعد حروب نابليون، ووأد الثورة الفرنسية، وعودة الإقطاعية والحكم الملكي من آل بوربون في فرنسا. أو في نظراته عن (المرأة) المستقاة من تجارب غير سارة مع والدته، التي كان يزورها قليلا، وعندما ألقت به من على الدرج، ودعها في السنوات الأربع والعشرين الأخيرة من حياتها، فلم يتقابلان، حتى مات وماتت. وهو يقول: إن أول نصيحة نوجهها هي الاستفادة من خبرة الحياة وتجاربها قبل الكتب، وثانيا مطالعة الكتب نفسها قبل مطالعة ما كتب حولها، وهي حكمة بالغة، وأن نقرأ ما كتب المؤلفون قبل قراءة ما كتب النقاد والمعلقون، إذ لا يمكن تلقي الأفكار الفلسفية إلا من المؤلفين أنفسهم.

لذلك ينبغي على كل من يشعر بالفلسفة أن يبحث عن معلميها الخالدين في معبد إنتاجهم ومؤلفاتهم، وإن كتابا واحدا من عبقري يساوي ألفا من كتب المعلقين، وهو ما فعله المؤرخ ديورانت حينما عكف على كتاب «العالم إرادة وفكرة»، فوصفه بأنه سهل ممتنع، ليس في اضطراب وغموض ما كتبه «هيغل»، أو ما فعل «سبينوزا» بربط الأفكار بالهندسة، أو تعقيد المصطلحات الموجودة في كتابات «إيمانويل كانط».

 

نافذة:

الحياة قصيرة كما يقول شوبنهاور ولكن الحقيقة بعيدة الأثر وحياتها أطول ومشكلة الوقت أنه رأسمال واحد معطى للجميع

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى