سي الرميد.. أين أنت؟
بالأمس، خرج أحد الزملاء من مكتبه في حي الرياض بالرباط، لتناول وجبة الغداء، فصادف في طريقه رجلا أحرقته الشمس يتجول بين الإدارات الجامدة، بحثا عن «كاتب عمومي» في مكان لا يمكن أن تجد فيه أي شيء عمومي..
هيأة الرجل توحي بأنه تائه وسط الفراغ. أن تتوه وسط الفراغ أخطر بكثير من أن تتوه وسط الزحام. كان منظره غريبا وهو يستوقف الموظفين المستعجلين لتناول وجبة الغداء قبل استئناف العمل، ويسألهم عن كاتب عمومي. البعض كانوا ينظرون إليه بكثير من الشفقة والرثاء، ولا يكلفون أنفسهم حتى عناء تنبيهه إلى أنه يبحث عن كاتب عمومي في المكان الخطأ.
انتبه الزميل إلى أن الرجل الذي يبحث عن كاتب عمومي يبحث عن أشياء أخرى أيضا. سأله عن حاجته فأجاب بأنه جاء إلى الرباط، كلها، ليُسمع صوته لأنه تعرض للظلم رغم أن المحكمة حكمت لصالحه قبل 15 سنة في قضية شجرة خروب. ولأن المحامين الذين لجأ إلى خدماتهم لم ينجحوا في تنفيذ الحكم لصالحه، فإنه قرر أن يتابع الذين أخذوا منه «الخروبة» والأرض التي نبتت فوقها «الخروبة»، وعرقلوا تنفيذ الحكم أيضا..
لم يكن الرجل يحمل معه غير بطاقته الوطنية. لا يتوفر على رقم هاتفي ولا أي وثيقة أخرى. اتصل بي الزميل علّني أنجح في فهم ما يريده الرجل بالضبط، لكنه لم يشرح أي شيء، لأنه ببساطة لم يكن يفهم أي شيء مما وقع.
لا بد أنه باع ما تبقى له حتى يؤمن ثمن الرحلة من إقيلم تارودانت وصولا إلى الرباط. بالنسبة لسكان الجبال المعزولة عن الحضارة والطرق، فإن الرباط ليست هي «باليما» وساحة البرلمان، بل الرباط بالنسبة لهؤلاء هي العدل.
هذه الصورة النمطية عن الرباط، لم تتكون من فراغ، بل هي نتاج قرون طويلة من السياسة المغربية. على الذين يلحقهم ظلم الباشاوات والقياد، أن يشدوا الرحال إلى الرباط فوق البغال، لإسماع تظلمهم، والعودة منتصرين لحقهم نكاية بالجاثمين على صدورهم.
«خروبة» صاحبنا، ليست إلا نموذجا مصغرا لشعب من الأميين البسطاء الذين لا يفهمون السياسة، ويستحيل أن يعرفوا اسم رئيس الحكومة ولا صديقه وزير العدل، لأنهم منشغلون بالسوق الأسبوعي ورعي الغنم وأشياء أخرى أكثر نفعا. السلطة الوحيدة التي يخافون منها، لأنها الأقرب إليهم، هي سيارة «الجيب» التي يأتي رجال الدرك على متنها مرة في السنة أو مرتين بحثا عن «فارّ» من العدالة.
يحدث أن يدخل الجشع إلى قلوب البسطاء أيضا، ويطمع بعضهم في أرض الآخرين، ويحدثون بذلك شرخا كبيرا قد يعمر لسنوات طوال.
قصة صاحب «الخروبة»، تشبه كثيرا قصة المواطن القروي البسيط الذي سافر من القرية إلى القاهرة بحثا عمن سرق «الونش» الذي كانت تكتب الجرائد المصرية عن قصة اختفائه من أحد أوراش البناء، وأن قيمته تساوي الملايين وتجب إعادته إلى الدولة. وبسذاجة ابن القرية، بدأ المواطن المصري قصة البحث، لينتهي في الأخير متزوجا من بائعة فول، ويعود بها إلى القرية بعد أن تزوجها في القاهرة، وتعلم ألا يبحث أبدا عن ممتلكات الدولة المسروقة لأنه لن يجدها ببساطة، والعهدة هنا على الروائي نجيب الكيلاني.
حالة صاحبنا أسوأ من حالة صاحب «الونش» في الرواية، لأن الأمر يتعلق بأرضه، وبحكم صدر لصالحه منذ 15 سنة، لم ينجح حتى في إقناع محاميه بتسريع تنفيذ الحكم لصالحه. ولا شك أن الكثيرين غيره لا يعرفون حتى إن وصل محاميهم في القضايا التي يرافعون لصالحهم فيها.
ذاب صاحبنا مثل فص ملح في حي الرياض وفي الرباط كلها، بحثا عن كاتب عمومي لا يعلم حتى ماذا سيقول له، ولا أين سيضع الشكاية التي سيحررها له. ربما ستصفعه الرباط بهدوئها وجمودها المطبق، ومقرات وزاراتها التي تشبه القبور، بعد أن كان يظن أن وزير العدل ربما قد يستقبله في محطة «الكيران» بالتمر والحليب ويأخذ له حقه، وهو البدوي الذي لا يتصور الحياة بدون أمتار من الأرض وخرّوبة..
يحدث كثيرا، عزيزي صاحب الخرّوبة، أن تصاب بالخيبة، خصوصا إذا كنت تبحث عن كاتب عمومي في حي راق.. فالأمر شبيه بالبحث عن العدل، لدى وزير العدل!