سيناريوهان للأزمة الأوكرانية
ياسر عبد العزيز
مر على اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا أكثر من ثلاثة أسابيع، وكما أضحى كثيرون يعلمون، فإن المسألة لا تتعلق بنزاع روسي أوكراني، بقدر ما هي في حقيقتها صراع مصالح وإرادات بين الغرب المتجسد في الولايات المتحدة، وحلف «الناتو»، ومن خلفه أوروبا المحايدة أو «غير المحايدة» من جانب، وبين روسيا البوتينية من جانب آخر.
لا توجد أوكرانيا في تلك الأزمة إلا بوصفها حطب هذا القتال، الذي سيشعله الجانبان في طريقهما لحسم النزال وتحقيق المصالح الحيوية لكليهما، ومثلما ستفاقم تلك الحقيقة الانزعاج والمرارة والشعور بالأسى على هذه الدولة، وهذا الشعب الذي يتعرض للدمار والخراب والقتل والتشريد، فإنها ستساعدنا كذلك على توقع المآلات الأقرب للتحقق.
صحيح أن المقاومة الأوكرانية على الصُعد العسكرية والسياسية والإعلامية، ما زالت حتى هذه اللحظة قادرة على حصد الإعجاب، في مواجهة آلة عسكرية ضخمة ومؤثرة تعد بين الأقوى في العالم، وجيش مدرب وخبير بطرق القتال خارج الديار، لكن الأكيد أن هذا الصمود النسبي وبعض ما يتحقق من نجاحات تكتيكية، يبقى في جزء كبير منه نتاجا لدعم غربي واسع وسخي على جميع الجبهات، وقد تم استخدام طيف عريض من الأدوات الناعمة والخشنة، لإبقائه فعالا ومؤثرا في مسارات المعركة.
تريد روسيا البوتينية أن تعيد إنتاج صورتها ودورها ومكانتها في هذا العالم، كقطب عالمي يمكن أن يشارك في قيادة الشؤون الدولية، ويحظى بالاعتبار الكامل، وفي الحد الأدنى من هذا الطلب أن تحمي فضاءها الجيوسياسي من تغول الغرب وتوسع «الناتو»، بحيث تبعده عن خاصرتها الرخوة، وتحبط خططه في حصارها وتحجيمها والقدرة على عزلها.
ويريد الغرب من هذه المواجهة أن يستدرج روسيا إلى مستنقع جديد في أوكرانيا، بحيث يستطيع أن يستنزفها ويضعها على لوحة «التنشين» عالميا، ليُكمل خطته في شيطنة بوتين وتجريده من الاعتبار، ويفقد الروس مرتكز مكانتهم الرئيسي الممثل في القدرة العسكرية، ويمنعهم من التلويح باستخدامها. وفي الحد الأدنى من هذا المطلب، فإن الغرب سيريد أن تخفق روسيا في سياساتها الرامية إلى تقييد خطط حصارها، والقبول بجوار ينتمي إلى حلف «الناتو»، وتُزرع فيه قواعده ومنصات إطلاق صواريخه.
فإذا كانت تلك هي ذرائع الطرفين في هذا النزال، فماذا عن سيناريوهاته المتوقعة؟
ستجد ضمن آلاف الأخبار والتحليلات والتعليقات التي قيلت وكُتبت على هامش تلك الحرب الكثير من محاولات استشراف مآلات الأزمة، وبعض هذا الاستشراف للأسف الشديد، ذهب إلى مواضع بعيدة، بسبب الميل أو التمني أو المبالغة والتهويل؛ إذ يتوقع بعض الباحثين والمحللين أن تؤدي هذه الحرب إلى خسارة صادمة لبوتين، تزعزع مكانته في الداخل، وتشجع بعض الأوليغارشية النافذين على الإطاحة به من الحكم، وهو تخيل لا يعكس إلا تمنيات؛ إذ يبدو أن «بوتين» ما زال يتمتع بالقدر اللازم من السيطرة والدعم الداخليين في إطار الأزمة، حتى تلك اللحظة.
ومن بين التوقعات الرائجة أيضا، أن يتطور الصدام إلى حرب عالمية ثالثة، تُستخدم فيها الأسلحة النووية، وتحول أجزاء كبيرة من العالم إلى أنقاض، وهو توقع مُغرق في التشاؤم، وقليل الثقة في قدرة الجانبين المتصارعين على احترام خطوط التماس بينهما، وعدم التورط في إشعال حرب كونية، لن يكون فيها منتصر بطبيعة الحال.
وعلى جانب آخر، يبدو أن قطاعا من المحللين الذين أظهروا إعجابا وتأييدا لبوتين، سواء لأسباب إيديولوجية أو على خلفية العداء السافر لـ«الإمبريالية والتغول الغربي»، راح يتوقع سيناريو غير مرجح، يتحدث عن حسم تام لنتائج القتال لمصلحة الروس، بما يفضي إلى أن يملي بوتين شروطه على أوكرانيا، ومن خلفها داعمها الغربي، بشكل يعيد صياغة سياسات «الناتو» حيال دول أوروبا غير المنضمة إليه، ويحقق هزيمة كاملة للغرب في تلك المعركة، وانتصارا خالصا لروسيا، تحتفل بعده بتأمين فضائها الجيوسياسي، وتنطلق تاليا لتوسيع دورها العالمي.
من جانبي، لا أعتقد أن أيا من تلك السيناريوهات قابل للتحقق، في ظل إحجام الغرب عن التورط عسكريا في النزال من جهة، والصعوبات التكتيكية البالغة التي يواجهها الروس مع المقاومة الأوكرانية، في ظل الدعم السياسي واللوجيستي الغربي اللامحدود، من جهة أخرى.
وتأسيسا على ذلك، فثمة سيناريوهان أكثر واقعية لتلك الأزمة على المدى المتوسط؛ أولهما يحمل أنباء مبهجة للغرب؛ إذ ينجح في توريط الروس في «المستنقع الأوكراني» لسنوات من القتال، الذي سيتحول في جزء منه إلى أساليب العصابات في ظل استراتيجية «حرب هجينة»، بما يُضعف روسيا، ويأخذها إلى هزيمة جديدة تفاقم متاعبها وترسخ عزلتها.
أما السيناريو الثاني، فيتجسد في قدرة روسيا على إسقاط كييف، وتقليل فاعلية المقاومة الأوكرانية، وتحقيق نجاحات عسكرية ملموسة، وصولا إلى موقع تفاوضي قوي، يسمح بتدخل وسطاء كالصين أو غيرها، لإدراك حل وسط يسمح لروسيا بتحقيق أهدافها في لجم توسع «الناتو» وحياد أوكرانيا، مع الحفاظ على سيادتها الجوهرية.
وعلى عكس ما نأمل، وللأسف الشديد، فإن تطورات القتال، وما يحمله من مآس، ستكون العامل الأكثر ترجيحا لأحد هذين السيناريوهين.
نافذة:
يريد الغرب من هذه المواجهة أن يستدرج روسيا إلى مستنقع جديد في أوكرانيا بحيث يستطيع أن يستنزفها ويضعها على لوحة «التنشين» عالميا