سلطة كورونا
محمد أحمد بنيس
في وقت يزداد فيه فيروس كورونـا تفشيـا في مختلف أنحاء العالم، تجد الحكومات نفسها أمام تحديات سياسية واجتماعية غير مسبوقة، فإضافة إلى التبعات الاقتصادية والاجتماعية للجائحة، تتسع قاعدة المتبنين نظرية المؤامرة بشأن ظهور الفيروس وانتشاره. ويؤكد ذلك ما ينبئنا به تاريخ الأوبئة والجوائح، بشأن الاضطرابات التي تسببها الأخيرة على غير صعيد.
في هذا السياق، شهدت مدن أوربية احتجاجات شعبية، رفضا لتدابير احترازية جديدة اتخذتها الحكومات، للحد من تزايد تفشي الوباء، بعد أن أصبحت الأنظمة الصحية غير قادرة على مواجهة الارتفاع المهول في أعداد المصابين بالعدوى، فضلا عن ارتفاع التكاليف الاجتماعية والسياسية والأمنية للجائحة. وإذا كانت هذه التدابير تعود، في جانب رئيس منها، إلى مخاوف هذه الحكومات من انهيار النظام العام، فذلك لا يمنع من القول إن «الدولة العميقة» تسابق الزمن في غير بلد، ليس فقط من أجل تطويق الفيروس، بل، أيضا، لتسخير ما توفره الجائحة من موارد مختلفة في إعادة جدولة الأولويات ذات الصلة بالتوازنات الاجتماعية والسياسية الكبرى. ومن ذلك توظيف الإرباك الحاصل في الإيقاع العام للحياة اليومية لملايين الناس، لتمرير قرارات سلطوية، يفترض أن تكون مثار نقاش وفق ما تقتضيه الديمقراطية الغربية.
يتنامى التذمر الشعبي في أوربا من إدارة الحكومات تناقضات الجائحة، خصوصا أن الأمر يتعلق بمجتمعات يعد فيها احترام الحقوق والحريات «خطا أحمر». ولا يرتبط ذلك فقط، بحزمة التشريعات التي تؤطر هذه الحقوق والحريات، بقدر ما يرتبط، أيضا، بنمط حياة بات جزءا من الهوية الثقافية والحضارية لهذه المجتمعات. ولعل ذلك ما يفسر رفض العودة إلى فرض تدابير مشددة لمواجهة الموجة الثانية من الوباء، في أفق إيجاد توازن، يكاد يكون مستحيلا، بين السيطرة على الوباء وإنعاش الاقتصاد المتضرر بسبب تبعات فترة الحجر الصحي. وقد أحدث دخول وسائل التواصل الاجتماعي على الخط رأيا عاما موازيا ومزعجا للحكومات، في ما تتخذه من تدابير لمواجهة كورونـا، فعلى الرغم من أن هذه التدابير تحكمها اعتبارات صحية، إلا أن تنزيلها يكون من خلال قرارات سياسية وقانونية لا تتخلص، بسهولة، من خلفيتها السلطوية.
وبعيدا عما يتردد بشأن شبكات الجيل الخامس، وتسييس اللقاح المرتقب، وغير ذلك مما يصب في نظرية المؤامرة، إلا أن الانقسام المتنامي الذي تشهده المجتمعات الأوربية يبدو وثيق الصلة بأزمة الخطابين، السياسي والحزبي، وتراجع أداء الأحزاب التقليدية ومؤسسات الوساطة والتأطير الأخرى، وعجزها عن التصدي للمشكلات التي تواجهها معظم هذه المجتمعات، سيما التي تتعلق باندماج المهاجرين والأقليات المختلفة، وتركها المجال فارغا أمام جماعات اليمين الشعبوي المتطرف المتطلعة لتسويق خطابها العنصري. وهكذا تجد النخب التقليدية في أوربا نفسها في وضع لا تحسد عليه، بسبب عجزها عن إنتاج خطاب تقنع به فئات اجتماعية واسعة، بدأ صبرها ينفد أمام كورونـا.
وقد كان لافتا كيف تحولت الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مدن إسبانية، نهاية الأسبوع قبل الماضي، رفضا للإجراءات المشددة التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الموجة الثانية من الوباء، إلى مناسبة تبادلت فيها الأحزاب التهم بشأن المسؤولية عن أعمال العنف التي رافقت هذه الاحتجاجات، الأمر الذي اعتبره قطاع واسع من الرأي العام الإسباني انتكاسة أخرى للطبقة السياسية، ودليلا على افتقادها رؤية ناجعة للتعاطي مع مستجدات الجائحة.
كشفت الجائحة تآكل المنظومة الفكرية والإيديولوجية التقليدية، التي تغذت عليها أحزاب اليمين واليسار على حد سواء، وتحول ميزان القوى إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يمكن المجازفة بالقول إنها صارت مؤسسة اجتماعية قائمة بذاتها، تؤطر الرأي العام وتصوغ قناعاته وتوجهاته، وتناهض المؤسسات التقليدية، من خلال تعبئة شعبية مضادة تتصدى للسلطة الجديدة التي أضحت كورونا عنوانا رئيسا لها. ولعل هذا ما يضاعف الصعوبات التي تواجهها الدول والحكومات والنخب، المهيمنة على موارد السلطة والثروة، في الحفاظ على مصالحها، أمام تزايد التوترات التي تغذيها الجائحة، وتهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي.