سرير إنعاش
ظلت مهنة طبيب وبيلوط من بين المهن التي يتمنى كل أب وأم أن يمتهنها أبناؤهم، أما البنات فمنذ الصغر تدغدغ شغاف قلوبهن فكرة أن يأتيهن فارس الأحلام راكبا صهوة طائرة أو لابسا بلوزة طبيب معلقا الصناطة في عنقه.
اليوم أصبح بيلوط مرادفًا لشومور بعدما أجبرت جائحة كورونا الطائرات على البقاء جاثية على أرضية المطارات، فقد سرحت كبريات شركات الطيران نصف ربابنتها، وعندنا في المغرب سرحت لارام 65 ربان طائرة، لم يغادروا بجيوب فارغة بل إن بعض الطيارين تسلموا شيكات تتراوح بين 500 و700 مليون لكل منهم، خاصة بالنسبة للأكبر سنا.
وفي خلال هذا الوقت فتحت وزارة التعليم المجال أمام الحاصلين على معدل 12 لاجتياز مباراة ولوج كليات الطب، هذا يعني أن مهنة طبيب أمامها مستقبل زاهر عكس مهنة بيلوط.
ويبقى القطاع الذي يشعر باليتم هو قطاع الصحة، فقد اكتشفنا أننا قادرون على صناعة سرير إنعاش مغربي مائة بالمائة لكننا عاجزون عن تكوين ما يكفي من أطباء الإنعاش والتخدير. فالمغرب بأسره لا يتوفر سوى على 200 طبيب تخدير وإنعاش.
وما يغيب عن أذهان مهندسي السياسات العمومية في مجال الصحة أنه لكي نوفر علاجات ذات جودة للمواطنين يجب أن يكون عندنا على الأقل 4,5 إطار صحي لكل 1000 نسمة، والمقصود بالإطار الصحي هو طبيب زائد ممرض. نحن في المغرب لدينا معدل 1,5.
أي أن منظومتنا الصحية تعاني من خصاص يقدر بحوالي 50000 ممرض و12000 طبيب. علينا أن نعرف أن 7000 طبيب مغربي هاجروا ويشتغلون في فرنسا وحدها. والدولة عندنا توظف كل عام 4000 إطار طبي بمن فيهم الأطباء والممرضون والتقنيون والمهندسون، مع احتساب الأطر التي تصل سن التقاعد. وباعتراف وزير الصحة آيت الطالب إذا استمررنا بهذا الإيقاع في التوظيف فإن منظومتنا الصحية ستحتاج 20 سنة على الأقل لسد الخصاص.
لذلك فمن يعتقد أن مشكل الصحة ستتم معالجته بصناعة أسرة إنعاش مغربية مائة بالمائة فهو مخطئ، لأن المشكل مشكل موارد بشرية في الأساس. فأسرة الإنعاش لن تشتغل من تلقاء نفسها، وما يجب أن يعرفه الجميع هو أن مصالح الإنعاش تسمى الوحدات الثقيلة (les services lourds) بحيث إن المريض الواحد الذي يرقد في الإنعاش يحتاج فريقا طبيا لا يقل عن خمسة أشخاص فيهم طبيب التخدير والإنعاش، وطبيب الأمراض الصدرية، وممرضان اثنان متعددا التخصصات، وممرض متخصص في العناية المركزة، وممرض متخصص في الترويض، وإذا كان المريض يعاني من أمراض مزمنة فقد يحتاج طبيبا متخصصا في أمراض السكري، وطبيب قلب وشرايين وغير ذلك من التخصصات. ولأن هذا الفريق الطبي بشر ويحتاج إلى الراحة فالمطلوب توفير فرق طبية كافية تتناوب لتجنب الإرهاق لأن حالات الإنعاش تتطلب مراقبة لصيقة 24 ساعة على 24 وإلا ضاع المريض. وكلما ازداد عدد المرضى يوميا في أقسام الإنعاش كما يحدث الآن تصبح المهمة أصعب، لأن المريض عندما يصل إلى الإنعاش فإنه يظل فيه على الأقل 21 يوما.
لذلك فالذين يعولون على صندوق مكافحة كورونا لصناعة أطباء متخصصين في الإنعاش واهمون، لأن الحل الوحيد المتوفر حاليا هو تطبيق تدابير السلامة لكسر سلاسل انتقال العدوى، وذلك بارتداء الكمامات واحترام التباعد وغسل اليدين والتعقيم.
صندوق مكافحة الجائحة 33 مليار درهم تمكن وحده من ضمان رواتب 900000 مستخدم توقفوا عن العمل مؤقتا وضمن مساعدات لحوالي 4 ملايين أسرة تعيش من القطاع غير المهيكل.
جزء من المستثمرين والمقاولين اعتادوا على مص بزولة الدولة، فهم دائمو البكاء وبمجرد ما تلقمهم الدولة ثديها يصمتون. اليوم الدولة قررت أن تفطم هؤلاء الذين وصلوا سن الرشد وما زالوا يتشبهون بمومو بوخرصة الذي ظهر زغب شواربه ومع ذلك ما زال يلتصق بحضن أمه.
والمدهش في الأمر أن الذين يشكون ويبكون اليوم هم أولئك الذين ظلت الدولة تهدهدهم بالامتيازات والإعفاءات الضريبية والقوانين المشرعة على مقاس أرجلهم الطويلة التي خرجت من الشواري.
المتضررون الحقيقيون هم أولئك الـ700000 الذين لن يكون بمستطاعهم العودة إلى مناصب شغلهم في القطاعات التي عصفت بها الجائحة، هؤلاء هم الضحايا الحقيقيون، أما مالين الشكارة في قطاع السياحة والعقار والتعليم الخصوصي والفلاحة والنقل وبقية القطاعات التي تضررت فهؤلاء قضوا عشرات السنين يراكمون الأرباح ويكدسون الأموال، والدولة تعرف حجم المليارات التي كنزوا ولذلك فالوقت حان لكي يضعوا أيديهم في الخنشة لكي ينقذوا شركاتهم ويضمنوا رواتب مستخدميهم عوض رميهم للدولة لكي تتكلف بهم أو رميهم للشارع لكي يحتجوا فيه كما يصنع أصحاب التاكسيات الذين يكدحون لكي يراكم أصحاب الكريمات الروسيطات التي تصلهم إلى غاية أبواب فيلاتهم. الدولة تكلفت بهؤلاء المستخدمين لثلاثة أشهر وليست لديها الإمكانيات لكي تتكلف بهم لمزيد من الوقت.