إعداد وتقديم- سعيد الباز
تطرح العلاقة الشائكة والملتبسة، أحيانا، بين الرواية والسيرة الغيرية عدّة إشكالات على مستوى التصنيف، وطبيعة القراءة لهذه الأعمال الأدبية، إضافة إلى زاوية النظر إليها وتقويمها. هذه الأعمال الأدبية، التي تمزج في العادة بين ما هو واقعي يجنح إلى التوثيق وبناء الأحداث من خلال تحققها الموضوعي، والاتجاه بها في الآن نفسه نحو أفق أكثر رحابة واتّساعا أساسه المتخيّل غير المرتبط بسياقاتها الحقيقية والواقعية. لكن، في العموم، يبقى معيار الجدّة أولا والجودة ثانيا أساسيا في قراءتها والحكم عليها.
تموثي برينان وإدوارد سعيد.. أماكن الفكر
يعتبر تموثي برينان Timothy Brennan طالبا مقربا من إدوارد سعيد وصديقا له لزمه حتّى وفاة هذا الأخير سنة 2003، والمشرف كذلك على أطروحته. ألف تموثي برينان سيرة إدوارد سعيد تحت عنوان «إدوارد سعيد.. أماكن الفكر»، قدم فيها صورة متكاملة لإدوارد سعيد في كلّ أبعادها، كاشفا الزوايا المختلفة لحياته وأعماله، ومدى تأثيره العلمي والأكاديمي. هذه السيرة لإدوارد سعيد كتبها تموثي برينان من الزاوية الفكرية والعلمية المشتركة بينهما من جهة، وحجم التأثير الواسع لشخصية إدوارد سعيد على جيل كامل من الباحثين والمفكرين. هنا تبرز أهمية كتاب «الاستشراق» والصدى الواسع الذي يتلقاه في الأوساط العلمية عربيا وغربيا، ومساهمة هذا الكتاب في خلق شهرة الكتاب ومؤلفه إدوارد سعيد: «لم يخطر ببال أحد أنّ كتاب «الاستشراق» سيحقق ما حقّقه من شهرة… واعتمد اعتمادا شديدا على ما في الأرشيفات من وثائق، وكان شديد الوضوح في مفاهيمه، يتنقّل ما بين الصور التفصيلية القريبة واللقطات البانورامية… إنّ اختيار إدوارد سعيد لمصادره سيبدو له غريبا أو مذهلا. وقد بدت كذلك لكثير من المؤرخين، واللسانيين وعلماء الاجتماع الذين أزعجهم نجاح الكتاب. لقد كان الكتاب لنِصْفِ قرّائه نصرا، وللنصف الآخر فضيحة. ولكن لم يكن بوسع أحد أن يتجاهله.
لقد شعُر قراؤه في كثير من أنحاء الشرق الأوسط بالغبطة الغامرة. فقد قال طريف الخالدي مثلا: «نجد ههنا للمرة الأولى كتابا كتبه واحد «منّا» يقول للقوى الإمبريالية أن تذهب إلى الجحيم». وبدا أنّ إدوارد سعيد يقول: «نحن نعرف أساليبكم». ولم يكتفِ بوضع نقد للأفكار الجامدة التبسيطية على المنضدة، بل جاء بنظرية معرفية كاملة استعملتها تلك القوى لخدمة أغراضها. «وفتح مئات الأبواب التي عبر منها فيض من الانتقادات»، ونجح كتاب «الاستشراق» في فضح الدراسات الإنكليزية والفرنسية المتعلّقة بالعرب والإسلام نجاحا لا ريب فيه. فقد بيّن إدوارد سعيد أنّ الدراسات الشرقية مهما بلغ من تخصّصها في الماضي دعمت الصورة غير الواقعية للعرب والإسلام وفي بعض الحالات خلقتها. أحيانا كانت الصور المعطاة باذخة آسرة، وأحيانا مستهينة كريهة، ولكنها لم تصف العرب والمسلمين وصفا يجعلهم جيران الأوروبيين أو معاصريهم، أي وصفا يجعلهم أناسا يواجهون مشكلات يومية كتلك التي يواجهها الغربيون.
لقد ظلّت هذه المكتبة الضخمة من الصور والمشاعر تتجمّع عبر القرون بحيث تشكّلَ كيان نقديّ ونشأت شبكة من العلاقات أثّرت في آراء صانعي السياسة في الحكومات، ووسائل الإعلام والكنائس والجامعات. هذه الشبكة المعقّدة من الأفكار التي تدعمها سلطة العلوم النصّية والعلم الواسع الذي جاء به صانعوها دعمت المشاعر والعواطف العدائية السوقية التي كانت شائعة من قبل. هذا الكيان المعرفي حرم العرب من كلّ شيء باستثناء الواقع النصّي، وهو في العادة قائم على عدد قليل من الوثائق الدينية القروسطية التي جمّدتهم في كلاسيكيات ماضيهم. ويبدو أنّ هذا القدر من معنى كتاب «الاستشراق» لم يكن موضع خلاف على رغم أنّ القرّاء لم يتفقوا على كثير سواه.
… ولما كان إدوارد سعيد على علم أن «الاستشراق» قد يعدّ كتابا يقصد منه تحطيم الأصنام التقليدية، فإنّه وجد صداقته مع نعوم تشومسكي، وهو محطّم آخر للأصنام التقليدية، ذات قيمة عالية. ذلك أنّ الانتقادات الشديدة التي كان يبثّها عالم اللغة ذاك كانت كثيرا ما تجعله ينخرط في جدالات عرّفته بكيفية التعامل مع الصحف».
ليلى العلمي.. ما رواه المغربي
الكاتبة والروائية المغربية الأمريكية ليلى العلمي من مواليد مدينة الرباط 1968. استكملت دراستها العليا في المغرب، وعملت مدة في الصحافة المغربية المكتوبة بالفرنسية قبل أن تنتقل إلى أمريكا لتحصل على الدكتوراه في علم اللغويات. بدأت مسيرة ليلى العلمي الإبداعية باللغة الإنجليزية بروايتها (الطفل السري) التي كانت مرشحة لجائزة أورانج… إلى روايتها الشهيرة (ما رواه المغربي) التي رشحت لجائزة بوليتزر في الأدب ونالت إعجاب القراء والنقاد، وتروي فيها سيرة متخيلة من جهة وإلى وثائق تاريخية لشخصية إستيفانكو الزموري المغربي الذي يعد من أوائل مستكشفي أمريكا. قالت الصحافة الأمريكية عن رواية (ما رواه المغربي): «تشعر بأنّ الرواية تاريخية ومعاصرة في الوقت نفسه… سرد الحكاية في نظر ليلى العلمي هو صراع لإرادة الأقوى بين الخير والشر وحرب على النسيان. لأنّها رأت في قصة إستيفانكو عبرة روحية وأخلاقية». تحكي لنا ليلى العلمي السيرة الغيرية لشخصية إستيفانكو الزموري بنفس مغربي شبيه بكتاب السير العرب القدامى: «في عام أربعة وثلاثين وتسعمائة بعد هجرة سيد المرسلين، وأنا أعدّ من سنّي ثلاثين عاما، ومن أسري خمسة، ألفيت نفسي على حرف الأرض التي نعرفها، في مسيرة طويلة وراء سنيور دورانتس، في أرض خضرة نضرة يسمّيها هو وقومه القشتاليون لافلوريدة. ولا علم عندي بما يسميها قومي في أزمور، فما كان منادو المدينة يرفعون عقائرهم بشيء إلّا أخبار المجاعة والزلازل والثورات جنوب بلاد البربر، ولا علم لديهم عن هذه البلاد. لكن لعلمي بأعراف التسمية لدينا نحن العرب فإني أجزم أننا كنّا سنسميها بلاد الهنود، على أنّ الهنود أنفسهم ولابدّ يسمّونها كذلك اسما بلسانهم، وإن لم يعرفه سنيور دوارنتس ولا غيره ممّن في حملتنا. وقد ذكر لي سنيور دورانتس أنّ لافلوريدة جزيرة كبيرة، أكبر من قشتالة نفسها، وأنّها تمتدّ من الساحل الذي أرسينا به إلى البحر الكاهل (المحيط الهادئ)، فمن المحيط إلى المحيط على حدّ زعمه. وكلّ هذه الأرض سيحكمها بانفيلو دي نارفاييز قائد الأسطول الحربي، وإن كنت في قرارة نفسي، ودون أن ينطق لساني بهذا الرأي، أشكّ أو أتعجّب أن يسلّم ملك إسبانية حكم أرض أكبر من بلاده لأحدٍ من رعيه.
كنّا في قافلة نقصد في مسيرنا مملكة الأبلاتشي في الشمال، وهي التي سمع عنها القائد سنيور نارفاييز من هنود أسرهم بعد أن أرست مراكب الأسطول على ساحل لافلوريدة. ورغم أنّي لم آت إلى هنا بمحض إرادتي فإني ارتحت أيّما ارتياح في اللحظة التي لمست قدماي البرّ، فقد كان في الرحلة التي قطعنا بها بحر الظلمات من المنغّصات والمكدّرات ما لا يعلمه إلّا من أسلم نفسه لسطوة البحر. فخبز الرحلة يابس، وشرابها نجس، ومظاهرها دنسة، ومع تقارب الناس في أماكن ضيقة أمدا ليس قصيرا تسوء أخلاقهم وتقبح أمزجتهم وتكثر شكاياتهم. غير أنّ أسوأ ما في الرحلة هي الرائحة، وهي رائحة زنخ أجساد الرجال إذا ما جفاها الماء مدة، واختلط بها دخان المجامر وروث الخيول وزبل الدجاج التي التصقت بحيطان الزرائب مع تنظيفها يوما بعد يوم. وإنّها لرائحة تزكم أنف المرء حالما ينزل إلى المقصورات الدنيا.
كما أن فضولي مستثار حول هذه البلاد إثر ما سمعته، أو ما تناهى إلى سمعي، من سيدي وأصحابه من أحاديث كثيرة عن الهنود، ومنها دعواهم أنّهم ذوو جلد أحمر وعيون بلا جفون، وأنّهم كفّار يدفعون البشر قرابين لآلهتهم، وأنّهم يجرعون مشارب عجيبة يصنعونها فتكشف لهم حجب الغيب، وأنّهم يسيرون هم ونساؤهم عراة لا يكسو عوراتهم شيء، وهذا ما استنكرته واستعصى عليّ تصديقه، فصرفته على أنّه من باب المبالغة والتهويل. وهذه البلاد مع ذلك أسرت خيالي حتّى لم تعد مجرّد مقصدٍ للسفر، بل أرض فيها العجائب والغرائب التي لا يستحضرها إلّا عقل أبرع الرواة في أسواق البربر. وكذا هو أثر رحلة المرء لمّا يقطع عباب بحر الظلمات، وإن كان مرغما عليها دون خيار ولا رغبة. فإنّه يهوي في مغبة مطامح الآخرين ومطامعهم إلى غير رجعة.
وكان ترك السفينة بادئ الأمر قاصرا على جمع صغير من القادة والجنود من كل مركب، ولما كان سنيور دورانتس قائد سفينتنا فقد اختار عشرين رجلا وبمعيتهم هذا الفقير إلى ربه مصطفى بن محمد للنزول، فركبنا زوارق التجديف حتى بلغنا الشاطئ. ووقف سيدي بمقدمة المركب، يضع يدا على خاصرته والأخرى على قائم سيفه، كهيئة من يقف أمام نحات ليقدّ صورته من الحجر، ويتّضح في مظهره تشوفه إلى احتراز ثروات العالم الجديد».
إيمان مرسال.. في أثر عنايات الزيات
تقتفي الكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال، في كتابها «في أثر عنايات الزيات»، أثر الكاتبة المصرية المغمورة عنايات الزيات في ما يشبه استقصاء صحفيا، من خلال روايتها اليتيمة «الحب والصمت» المنشورة سنة 1967 التي وقعت بين يديها صدفة، بعد رحيل كاتبتها منتحرة سنة 1963، وهي تقريبا في نهاية العشرينات من عمرها. تقول إيمان مرسال عن هذه الواقعة الطريفة: «وقعت في يدي رواية «الحب والصمت» بينما كنتُ أبحث عن نسخة رخيصة الثمن من «كرامات الأنبياء» للنبهاني. قال بائع سور الأزبكية: «بجنيه». اشتريتها على الفور رغم أنّي لم أسمع بها من قبل، ولتشابه الأسماء تصورتُ أنّ الكاتبة عنايات الزيّات لابدّ أنّها أخت لطيفة الزيّات الصغرى». وتنقل ما كُتب على ظهر الغلاف:
الجمهورية العربية المتحدة- وزارة الثقافة
الحب والصمت- رواية مصرية
عنايات الزيات
الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر (1967م)
تقديم: مصطفى محمود.
اختارت إيمان مرسال تتبع أثر عنايات الزيات كما هو واضح في العنوان، لا أن تكتب سيرة حياتها، قائلة: «تتبع أثر شخص يختلف عن كتابة قصة حياة هذا الشخص. تتبع الأثر لا يعني ملء كل الفجوات، ولا يعني البحث عن الحقيقة من أجل توثيقها. إنّه رحلة تجاه شخص لا يستطيع الكلام عن نفسه، حوار معه، ولا يمكن إلا أن يكون من طرف واحد».
تتساءل إيمان مرسال، من خلال بحثها عن سيرة هذه الكاتبة المغمورة عنايات الزيات، عن الأسباب التي أدّت إلى أن يتمّ إغفال هذه الكاتبة من قوائم التأريخ للرواية المصرية والعربية، رغم كونها وجها أدبيا معروفا لدى الكثير من الكتاب المشهورين والمعاصرين لها أمثال مصطفى محمود وأنيس منصور وغيرهما، وكيف تمّ نسيانها تماما، ونسيان عملها الروائي الوحيد «الحب والصمت» الذي لم ينشر إلّا بعد وفاتها بسنوات عديدة. تقوم إيمان مرسال، وببراعة شديدة، بالجمع بين التحقيق الصحفي والبحث المعرفي والتوثيقي من جهة والخيال الأدبي والتماهي الروحي بين الكاتبة إيمان مرسال وشخصية عنايات الزيات. إنّه اقتفاء لأثرها الغائب والحاضر متناثرا في الوثائق والشهادات الحية والمتبقية. تنطلق الكاتبة من تقديم الكاتب مصطفى محمود لرواية «الحب والصمت» قائلة إنّها ليست مقدمة في الحقيقة لا عن الرواية ولا عن كاتبتها. أربع صفحات ونصف تبدأ بـ: «كنتُ أتصفّح الغريب، وأقرأ سطورها الحالمة وأتخيّل مؤلفته التي كتبته، كانت تسيل رقة وعذوبة». ثم يقدّم مختاراته لأكثر عبارات الرواية رقة من وجهة نظره خاتما إياها بأربعة أسطر من عنده «هذا الكتاب الرقيق «الحب والصمت» هو الكتاب الأوّل والأخير الذي كتبته المؤلفة الملهمة عنايات الزيات. فالمؤلفة ماتت شابة لم تبلغ الثلاثين. كانت آلام قلبها العبقري وإنسانيتها المعذبة فوق احتمالها. أزكى الرحمات على روحها النقية وفنها الرفيع».
تُعقب إيمان مرسال على هذا التقديم وهي تطرح أسئلتها العميقة والمباشرة: «حسن، من الأفضل ألا نتوقف طويلا أمام وصف مصطفى محمود للكاتبة بالرقة والعذوبة، فاللغة مازالت تفضح قناعات معظم الكتّاب العرب حتّى وقتنا هذا، بأنّ الكتابة الجيّدة من المرأة، لا يمكن أن تكون إلّا رقيقة وعذبة مثلها. لكنّ المقدمة تثير أسئلة أخرى: كيف ماتت الكاتبة؟ ومتى؟ ولماذا ظلت روايتها خارج قوائم التأريخ للرواية العربية وكتابة المرأة العربية؟ هل لأنّها صدرت بعد «الباب المفتوح» للطيفة الزيات بسبع سنوات فلم يلفت القارئ تميزها؟ أم لأنّها صدرت في 1967 عام الهزيمة فلم تجد قارئا أصلا؟ هل عنايات الزيات لم تنخرط في اليسار المصري مثل لطيفة الزيات فحرمها بسلطته الرمزية الاعتراف بها؟ ثم لماذا كتب مصطفى محمود دون كل الكتّاب مقدمة «الحب والصمت» هل طلبت منه الكاتبة ذلك قبل أن تموت، أم وجدت فيه دار النشر النجم الأنسب لفهم وتقديم هذا العمل؟».
اعتمدت إيمان مرسال، في كتابها، على شهادة أقرب صديقة لعنايات الزيّات، وهي الممثلة المصرية المعروفة نادية لطفي، بعد عثورها على حوار قديم أجري معها في السنة ذاتها لصدور روايتها، ما دفعها إلى مقابلتها. في هذا الحوار المعنون «نادية لطفي تروي سرّ انتحار عنايات الزيّات» تقول: «إنّ صورة عنايات الزيّات لا تفارق مخيّلتي، إنّها إن جلت لحظة فإنني يمكن استرجاعها في ثوان، فعنايات زميلة الطفولة المبكرة، وقد التقيتُ بها في المدرسة. وللوهلة الأولى حدثت فجوة! فهي تبدو معتدّة بنفسها، تحمل كتب الأدب وتحتقر البنات الصائحات المتشاجرات وأنا زعيمتهنّ. فلما انتقلنا إلى سنة تالية جلستُ بجانبها واكتشفتُ أنّها تحبّ الرسم الذي كنتُ أحبه… وخرجت الصداقة من المدرسة إلى البيت». في نهاية هذا الحوار تلخص نادية لطفي دوافع الانتحار اليائسة للكاتبة عنايات الزيّات: «طبعوا كتابها شكرا لهم… لا شكّ أنّ روحها تطلّ علينا وتقرؤه معنا وتقرأ شهادة ميلادها الأدبية بعد أن طواها القبر… قد علمتُ أنّها تلقت قبل أيام من انتحارها ما يؤكد أنّ ابنها بلغ السن التي يبعد فيها عن حضانتها ليرتمي في أحضان أبيه… وهكذا تكدّس الظلام حولها، فقد غرقت سفينة الزوجية، وها هم يأخذون وحيدها، أمل الحياة وفرحتها. وأنفاسها في كتابها يخنقونها، والعالم يمضي بلا ضمير».
محمد حسن علوان.. موت صغير
تتناول رواية الكاتب السعودي محمد حسن علوان «موت صغير»، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة باسم «جائزة بوكر العربية» لسنة 2017، سيرة أشهر المتصوفة محيي الدين بن عربي المعروف بالشيخ الأكبر. ترسم لنا الرواية في البداية رحلته الطويلة من مرسيّة في الأندلس، حيث أصبح الترحال سمة حياته: «… مشيتُ قبل أن أتمّ عامي الأول. نهضتُ من حبوي ذات مساء لا متمايلا ولا متعثرا ومشيتُ كمن هو في الثانية أو الثالثة من عمره. ضحكت فاطمة وتنبأت لي أن أرحل بعيدا ففعلتُ. منذ أوجدني الله في «مرسيّة» حتّى توفاني في دمشق وأنا في سفر لا ينقطع. رأيتُ بلادا ولقيتُ أناسا وصحبتُ أولياء وعشتُ تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريق قدّره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. وفي النزهات التي كان عمّي يأخذنا فيها مع أبنائه قرب النهر كنتُ أتحسس أسوار «مرسيّة» الحجرية بيدي وأتساءل ماذا وراءها؟ هل بلاد مثل بلادنا؟ هل مدن أكبر من مدينتنا؟ هل أناس مثلنا أم غيرنا؟ وأحمل أسئلتي إلى عمي فيجتهد في رسم خريطة صغيرة على التراب ويريني أين تقع المدن المجاورة فالأبعد منها. انطبعت في ذهني تلك الخريطة الترابية وأصبح بوسعي أن أرحل في خيالي جنوبا إلى قرطاجنة وشمالا إلى بلنسية وغربا إلى قرطبة وإشبيلية وغرناطة».
كان ميله إلى عالم التصوف مبكرا ومتناقضا مع نشأته في أسرة تجمع بين الاشتغال في السياسة وأمور الحكم متمثلة في والده أو التجارة في عمه، واعتبر التصوف قدره في الحياة: «… مكثنا في الجبل أسبوعا حفظتُ فيها «رسالة القشيري» عن ظهر قلب. واختليتُ بنفسي طويلا وابتهلتُ إلى الله أن يعينني على الطريق الذي جعله قدري. ثم أرسلني الشيخ وظلّ في صومعته. فاتّجهتُ إلى إشبيلية صباح يوم بارد لم أشعر فيه بالبرد، معتزما سفرا طويلا لم أشعر فيه بالتعب. ولمّا بلغتُ سفح الجبل أرسلتُ عيني إلى قمته حيث اختفت الصومعة. ودمعت عيناي على فراق شيخي فاستيقنتُ نفسي أنّي أصبحتُ مريدا حقيقيا يبكيه فراق مراده. تضاعفت هيبة الشيخ… أضعاف هيبته في إشبيلية. ولم أعرف سرّ ذلك رغم أنّي فكرتُ فيه كثيرا وابتهلتُ إلى الله أن يكشف لي فلم يفعل إلّا بعد سنوات طويلة وأنا في مكة. تدافعت في رأسي الأفكار بشكل غزير وانهمرت مثل شلال من الرؤى فعرفتُ أنّه الكشف فهرعتُ إلى قلمي وكتبتُ: اكتملت في جبل «المنتيار» مكانة الشيخ الروحية. المكان ذكر، المكانة أنثى. آدم كان ذكرا لم يكتمل إلّا بحواء. المنتيار كان جبلا لم يكتمل إلّا بالشيخ. أن آدم بلا حواء فرد لا ذرية له. أن الجبل بدون الشيخ تضريس لا قيمة له. أن المكان بلا مكانة لا يكفي. لا بدّ من تأنيث المكان حتّى تكتمل مكانته». قبل رحلته الكبرى دأب ابن عربي على زيارة أعلام التصوف في الأندلس وهو ما زال في بداية حياته تلمسا لطريقته في عالم التصوف، منها لقاؤه بالمتصوفة الشهيرة فاطمة بنت ابن المثنى، وقد ذكرها في كتابه «الفتوحات المكية» بقوله: (خدمتُ أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي. خدمتها سنين وهي تزيد في وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها). في الرواية حوار يبرز لنا تطور فكره الصوفي المتميز ورؤيته: «… ذهبتُ لأزور فاطمة بنت المثنى في بيتها وبلغته بعد مشي طويل فإذا هي تقيم في حجرة صغيرة في آخر زقاق يؤدي إلى مزبلة المدينة… قبّلتُ يديها وقدميها وجلستُ إلى جوارها… سألتها بعد كلام طويل:
–أماه، لم أجد وتدي بعد.
–لكنّه وجَدَك.
–فلمَ لم يُفصح عن نفسه؟
–حتّى تصير أهلا لذلك.
–قلتِ حتّى أطهّر قلبي، أليس طاهرا بما يكفي؟
–وكيف طهّرته؟
–حملته على مكارم الأخلاق وصفاء السريرة وحسن النية حتّى صيّرته رافضا كلّ صورة غير ذلك.
–تلك نصف الطهارة يا بنيّ.
–وكيف أتمّ نصفها الآخر؟
–بأن تُصيّرهُ قابلا كلّ صورة!
مقتطفات
درس روزاليند
مصطفى فهمي شاعر وكاتب مغربي اشتهر بديوانه المعروف «آخر العنادل» خلال سنوات الثمانينيات، درس الأدب الإنجليزي في المغرب قبل أن ينتقل إلى كندا حيث استكمل دراسته العليا. يعتبر مصطفى فهمي أحد كبار المتخصصين الدوليين في المسرحي شكسبير. كتب أعماله ذات الصبغة الأكاديمية باللغة الإنجليزية، من كتاباته الأخيرة التي نالت شهرة واسعة كتابه «درس روزاليند» باللغة الفرنسية سكب فيه صفوة تأملاته الفكرية والفلسفية وخلق حدثا أدبيا كبيرا في كندا وفرنسا.
يصف الكاتب المغربي محمد حجي محمد أجواء هذا الكتاب بقوله: «يبرز الكاتب مصطفى فهمي من خلال تأملاته الذات البشرية في زمن العولمة والتقنية معبّرا عن مشاغلها وندوبها بلغة سلسة واضحة لا تكلف فيها. وإذا كان تبسيط الأشياء أكثر ممّا هي عليه هي ما يجعل المفكر مفكرا كما يقول نيتشه، فإنّ البساطة هي الأسلوب المحتذى في «درس روزاليند» إذ حرص الكاتب على تشذيب نصوصه من الكلمات الزائدة والمعقدة، دون تفريط في عمقها الفلسفي». هنا مقتطفات من كتاب «درس روزاليند»:
*****
ثمّة استراتيجية للصعود إلى الأعلى وأخرى للمكوث في الأعلى. من يختار القفز للوصول إلى القمة من الأفضل له أن يحاول شيئا آخر للبقاء فيها. لأنه إذا واصل القفز سيسقط، أو أنكى من ذلك سيبدو مجنونا.
*****
إذا أخبرك أحد بأنك شتمته أو آذيته، لا تقل له، على الخصوص، بأنه يبالغ. فالشخص الذي يتلقى الضربة وحده القادر على قياس قوتها.
*****
لا أحد يفكر، هذه الأيام، في لزوم الصمت، رغم أن الحكمة في الصمت. في الكثير من الأحيان تأثير كلمة ما يتوقف على جودة الصمت المحيط بها. بإمكان المرء أن يشترك مع أي كان كلمات، حتى مع عدو. الصمت في المقابل لا نشترك فيه إلا مع من نحبهم.
*****
يتيح لنا الأدب الكشف عن ما لا نجرؤ على التعبير عنه في الحياة اليومية. إنه منفذنا الوحيد للوصول إلى الحقيقة.
عيون الآخرين
عندما لا أفهم شخصا ما، أحاول أن أنظر بعينيه، ليس لأني أتبنى نظرته (فلديّ نظرتي)، ولكن لأرى ما يراه: إنها طريقة تجعل الحوار ممكنا.
*****
ما نراه في أعين الآخرين ليس سوى انعكاس لنورنا أو ظلامنا.
*****
ومع ذلك إذا كانت الهدايا كلها ديونا مقنّعة ينبغي سدادها عاجلا أو آجلا، فماذا عن هدايا الماضي، موروثنا الأدبي والفني والمعماري على سبيل المثال؟ وماذا عن إرثنا الطبيعي: غاباتنا وأنهارنا وبحيراتنا؟ ليس ثمة في الحقيقة سوى طريقة واحدة لرد هدية الماضي: هي نقلها في حالة جيدة إلى الأجيال المقبلة. إنّها ليست نوعا من إبداء كرمنا تّجاه المستقبل، إنها بالأحرى واجب أخلاقي تّجاه الماضي.
*****
كل حب أبدي في نواياه، وحده من يملك الخيال بمقدوره أن يحول حبه إلى شذرات صغيرة من الأبدية.
الأناقة
توقع أن الآخرين سيتأثرون بأناقتنا أو حركاتنا أمر خاطئ. الأناقة لغة، لفهمها ينبغي التحدث بها قليلا.
(ترجمة: سعيد الباز)
متابعة
بوبريك يستضيف الروائي عبد الكريم جويطي في المكتبة الوطنية
فهم ماركس “الطبقية” من خلال بالزاك أكثر مما فهمه من كتب الاقتصاد
عبد الكريم جويطي
ما العلاقة بين الرواية والتاريخ؟ أين يكمن المتخيّل بينهما؟ ما التحولات التي كشفت عنها الرواية بخروجها من جبّة بطل الملحمة القديم الذي يصارع قدره بين الخير والشرّ إلى بطل الرواية الأثير لديها، بطل غفل ونكرة يواجه خواءه الوجودي وحياته اليومية المبتذلة… الذي ستضطلع الرواية بكتابة سيرته؟ هذا ما ستفي به كلمة الروائي المغربي عبد الكريم جويطي في محاضرة نظمها المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب حول موضوع «الرواية والتاريخ».
في يوم 25 أكتوبر 1946 التقى كارل بوبر وفغنينشتاين في لندن، ودام اللقاء الكبير عشر دقائق فقط، خرج على إثرها فغنينشتاين غاضبًا. صارت لهذا اللقاء السريع بعدها أبعاد أسطورية، مثل لقاء ابن عربي وابن رشد. انكبّ صحافيان من الـ«بي بي سي»، هما دفيد إيدمون وجون إيدنوي، بعد ذلك عقودًا، على قراءة شهادات كل الحاضرين لهذا اللقاء، وفحصها، ومقارنتها وتحليلها. واستمعوا لنفر من الأحياء المتبقين الذين شهدوا الواقعة، واحتفظوا بذكريات لا تتطابق، وإنما تتعارض بالكلية. عوض أن يحسم الاستقصاء الصحفي ما دار بين المفكرين الكبيرين، بشكل نهائي، زاد الغموض غموضًا. يعلق الروائي ماريو فارغاس يوسا، في كتابه (نداء القبيلة) على كل هذا اللقاء، بما يلي: «لقد غذى (الصحافيان) بمثال رائع شكًا قديمًا، تمثل في أن مكون المتخيل -خيالًا كان أو أدبًا- في التاريخ لا يمكن تلافيه، وهو ضروري. أن كان حدث قد وقع منذ زمن يسير، وما زال عدد ممن حضروه أحياء، ويمكنه أن ينفلت من شباك البحث الموضوعي والعلمي، ويتحول، تحت تأثير الذاتية إلى شيء مختلف جدًا… فماذا يكون الأمر إزاء السرد التاريخي لأحداث الماضي، التي أعادت صياغتها، طوال القرون الماضية، الأيديولوجيات، والأديان، والمصالح الخاصة، والأهواء، وأحلام الناس… هذا لا ينفي التاريخ، ولكنه، وهذا ما نراه جيدًا، علم مثقل بالخيال.». منذ أن خرج دون كيشوط من الفناء الخلفي لداره، وسار رفقة سانشو بانزا مواجهًا الواقع بالخيال، الجديد بالقديم، العقل بالحماقة، نثرية الحياة بشعرية الفروسية، الإنسان الصغير الضائع بالبطل الذي يحس بمسؤولية كبرى تجاه العالم، ولدت الرواية لتأخذ على عاتقها تذكيرنا بأن التاريخ ليس سوى حاضر صاغ ماضيه دومًا، بحاجياته، وأطماعه، ومراميه. ما التاريخ إلا صيغ متراكمة عبر الزمن لحاضر أراد في كلّ مرّة تملك الماضي. ورثت الرواية هذه الحاجة لبناء ذاكرة جماعية وفردية متناغمة مع العالم من الملحمة. لقد ضاع الإنسان تمامًا في عالم المدينة، صار فردًا مسحوقًا ومعزولًا عمّا يجري، ولم يعد يتلقى العون لا من السماء ولا من الأرض. وصار الرابط الذي يربطه بباقي الأفراد هو رابط المجاورة في المكان فقط. إنها الحياة الجديدة للساحات والشوارع حيث يتخاصر الغرباء، ويولد الحدث بشكل عرضي، وتتشابك المصائر وتتنامى، لا لتصل إلى تلك النهاية السعيدة، كما في الملحمة، حيث ينتصر الخير على الشر، وإنما لتفضي لفكرة أن لا أحد ينتصر في العالم الجديد غير السلعة والقيمة التبادلية والأشكال التوليتارية الساحقة التي تُحوّل الأفراد إلى أرقام (أورويل). إنه عالم مرعب الكلّ فيه معاقب لاقترافه جريمة لا يعرف كنهها (كافكا). مع هذا البطل الغُفل والنكرة الذي أخذت الرواية على عاتقها بناء سيرته ستصعد الحياة اليومية المبتذلة التي كان يعافها أدب الملاحم إلى سطح التاريخ، وسنقرأ صفحات عديدة لوصف ذكرى شرب كأس شاي مغموسة فيه حلوى مدلين (مارسيل بروست)، وسيصير التسكع بلا هدى في غابة المدينة أشبه بمغامرات عوليس في الأوديسا، ولو أن عوليس يواجه البحار وغواية حوريات البحر والسيكلوب، بينما لا يواجه بطل الرواية سوى الخواء الوجودي، والحرب الكبرى التي يخوضها لا يواجه فيها سوى نفسه وذكرياته وهلوساته ومخاوفه (جيمس جويس). من واجبنا ألَّا نستصغر هذه التخمة في التفاصيل اليومية التي تطفح بها الرواية. علينا ألَّا نضجر من هذا السرد الذي يصير فريسة لذاكرة محمومة لا تتردد فيها أحداث عظام (تاريخية)، وإنما وقائع صغيرة بلا مجد من مجرى حياة صغيرة، يمكن لكل واحد منا أن يرى نفسه فيها. فالخارق استثنائي في حياة البشر أما المبتذل فمُشاع ومُلقى في الطرقات. نبهنا فالتر بنيامين إلى أن: «القرن التاسع عشر لم يكشف نفسه لزولا أو لأناتول فرانس، بل لبروست الشاب، هذا المترفع التافه، المستهتر ونجم المجتمع الذي انتزع بشكل عابر أشد الأسرار إدهاشًا من عصر آفل… تطلب الأمر وجود بروست لجعل القرن التاسع عشر ناضجًا للذكريات». لم يكشف قرن كامل نفسه لكتاب الواقعية الطبيعية، ولا غيرها، إنّما لكاتب مريض ومنعزل ومهووس بماضيه الذي يصارع فيه التذكر النسيان بشكل لا هوادة فيه. الرواية ماكرة جدًا، وفي ما يبدو لنا نثر سيال حول تقاسيم وجه، أو وصف لأثاث، أو لتصنّع فج في حفل، يكتب أسرار مرحلة من خلال مادة مبتذلة وتافهة. لقد فهم كارل ماركس بوضوح الطبقات المتراكبة في المجتمع من خلال الكوميديا الإنسانية لبالزاك، أكثر مما أفهمته ذلك كتب الاقتصاد. كما كشفت لنا تمامًا روايات سولجستين فظاعات معسكرات الاعتقال في روسيا أكثر مما فعلت التقارير السياسية. وفضحت روايات الدكتاتور في أمريكا اللاتينية الاختناق والعبث السياسي أكثر مما فعلت الأحزاب السياسية المعارضة. لا تكتب الرواية سوى التاريخ وإن كانت بطريقة ملتبسة ومخاتلة. حتى لو كانت رواية عجائبية أو رواية خيال علمي أو رواية فانتازية أو سوريالية، فهناك خيط رفيع يشدّها دومًا للواقع، ويجعل منها في النهاية وثيقة عن المتخيل البشري في مرحلة من المراحل. للتاريخ راحة يد بحجم الوجود البشري وصيرورته وكل ما يقع في تلك اليد يعود إليه.
متوجون
القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب
أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبو ظبي للغة العربية عن القائمة الطويلة لفرع «الفنون والدراسات النقدية»، التي شملت 13 عنوانا من 6 دول (المغرب والعراق، ومصر وتونس، وفلسطين وسوريا). وضمت الأعمال المغربية: إبراهيم الكراوي عن كتابه «سردية العجائبي في الرواية العربية.. من التقييد إلى الإرسال»، الصادر عن دار الثقافة، حكومة الشارقة في 2024، والدكتور سعيد العوادي عن كتابه «الطعام والكلام.. حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي»، الصادر عن دار أفريقيا الشرق في 2023، ومحمد بازي عن كتابه «التأويليات الجديدة.. من مناط الحدود إلى بساط الوجود»، الصادر عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع في 2022.
جدير بالذكر أن جائزة الشيخ زايد للكتاب جائزة مستقلة تمنح للأعمال الإبداعية والأدبية النوعية، في مجالات مختلفة مثل الأدب والعلوم الإنسانية والفنون واللغة العربية، وتساهم في تحريك عجلة الترجمة من خلال تحفيز المترجمين على الإنتاج الأدبي النوعي المرتبط بالثقافة والحضارة العربية، وبناء جسور حوارية حضارية بين الشعوب والأمم، مبنية على التسامح والتعايش والسلام.