إعداد وتقديم: سعيد الباز
(غيرنيكا/ بابلو بيكاسو)
لقد شكلت الحروب والصراعات الدامية، عبر التاريخ، خلفية أساسية للأعمال الأدبية الكبرى في العالم. يكفي أن نذكر ملحمة الأوديسا وحرب طروادة الشهيرة، والشعر الجاهلي في ارتباطه بالحروب القبلية المعروفة داحس والغبراء وحرب البسوس. اليوم، ومع اشتداد الأزمات المفضية إلى الاقتتال والصراع الحربي في كثير من البلدان العربية، برز إلى الوجود أدب تمثل في روايات موضوعها الأثير والأساسي الحرب وما ينتج عنها من ويلات ومآس إنسانية.
غادة السمان.. بيروت 75
نشرت الكاتبة السورية غادة السمان روايتها «بيروت 75»، قبل بضعة أشهر من الحرب الأهلية اللبنانية، وقد تنبأت فيها بشكل غريب بما ستؤول إليه الأحداث في لبنان، وبيروت خاصة. تكمن أهمية هذا العمل الروائي في قدرته على رصد الإرهاصات الأولى، قبل نشوب الحرب الأهلية والكشف عن مستقبل لبنان الغامض والمظلم:
«… (آه كم أنا ضائع ووحيد!)
أمام مقهى «الهورس شو» كان الناس قد التفوا حول رجل يُرقص قردا صغيرا… كان القرد يبدو خائفا من الجمع، ولكنه خائف من عصا معلمه. وكان «فرح» خائفا من الجمع والقرد والقراد. القرد يقوم بحركات ساذجة. ولكن الجمهور الخارج من السينما لا يزال في مزاج غوغائي، وقد وجد في القرد فرصة للتنفيس عن بقية الصفير المكبوت في الصدور، والذي لم تفرغه بأكمله أفلام الكاراتيه والرعب والعنف المعروضة في الشارع… كان ضحك الجمهور وتصفيره والتفافه حول القراد منفصلا تماما عن أداء القرد. كأنهم يتخذون من القرد حجة لتفجير أحاسيس مضغوطة غامضة… وفجأة دوى انفجار هز الشارع والقرد والجمهور والقراد و«فرح»… لم يبدُ على الناس رعب أو ضيق، بعضهم رفع بنظره إلى السماء وبعضهم لم يكلف نفسه عناء ذلك، وإنما ظل منصبا باهتمامه على القرد…
سأل «فرح» رجلا مقطوع الذراع، نصف متسول، نصف بائع: ماذا حدث؟
– إنها الطائرات الإسرائيلية.
– تضرب؟
– لا، لا أدري. يقولون إنها تُصدر أصوات افقك…
ودوى انفجاران متتاليان متلاحقان، ولكن الجمهور لم يرفع عينيه إلى السماء، وإنما ازداد حماسا في حث القرد على الرقص. (إنهم يخترقون جدار الصوت معلنين عن وجودهم العدواني المتحدي… ولا أحد ينتبه!).
ولكن القرد حين سمع الانفجارات غطى وجهه بيديه وأقعى على الأرض مرتجفا، رافضا الاستجابة لأوامر معلمه، وحين ضربه بالعصا ظل مغطيا وجهه وكأنه لا يريد أن يرى ما يدور… دفن وجهه على الرصيف وأدار مؤخرته لكل جمهوره، وصار يبكي بصوت حزين…
وانفجر الناس ضاحكين…
ووجد «فرح» نفسه يردد: مجانين… مجانين…
وغطى وجهه بيديه… واجتاحه الدوار، إذ تذكر ما حدث له في دمشق، حين حلقت الطائرات نفسها منذ أقل من عام…
وتعالت أصوات الجمهور مطالبة القرد بالرقص، وكانت حرائق دمشق تشتعل داخل رأس «فرح»، وتتناثر الجثث المتطايرة الأعضاء… ورائحة اللحم البشري الملتهب… وصوت انهيار الجدران… ووقف على جانب الرصيف، وقد اجتاحه إحساس مر يشبه التقيؤ والبكاء.
(آه كم أنا ضائع ووحيد!)
… القسوة. هنالك مناخ من القسوة يحسه بشدة كلما تحرك في هذه المدينة العجيبة. إنه يسمع باستمرار أصداء بكاء طويل تردده جنبات المدينة. منذ أول ليلة حل بها وصوت النواح الغامض يطارده ويستوطن صدره. إنه يحسه كما يحس الرادار المرهف وجود أشياء لا تعيها الحواس المجردة. وهو لسبب يجهله كان دوما يمتلك حاسة التقاط شارات الاستغاثة، ربما لأنه يطلقها باستمرار. ربما لأنه يعي باستمرار وعيا مبهما بأنه سفينة غارقة لا مفر، كما كل إنسان، كل سفينة غارقة لا مفر. قلائل يعون ذلك… المال… الشهرة… النساء. مخدرات سيجربها لينسى غرقه الأكيد، وإن كان ليس واثقا من مفعولها، لكنه سيجرب ولو تحالف مع الشيطان… والتجربة أصعب مما توقع، وشيء ما في مناخ هذه المدينة يسممه ببطء، كأنه يستنشق فيها غازا ساما فريدا يغلفها، وقد ألفه الآخرون وقرروا التعايش معه. ولكن، لماذا هذه التفسيرات كلها؟ لماذا لا يقرر ببساطة أنه «موسوس» وأن صوت النواح الذي سمعه فجر ليلة وصوله إلى بيروت ملأه بالتشاؤم والغم من رحلته كلها؟».
خليل صويلح.. جنة البرابرة
يمزج الكاتب خليل صويلح في «جنة البرابرة» بين يومياته عن الحرب السورية وسرديات تاريخية عن مدينة دمشق: «… أخرجُ من قلب العتمة، أتنفسُ هواء الشارع بعمق، الهواء الملطخ برائحة الحرب والضجر والخوف. أعبرُ من تحت قوس حجري قديم، نحو أزقة ملتوية وضيقة، وعمائر طينية في رمقها الأخير، وحمام شعبي جرى ترميمه حديثا، أجفلُ من صوت قذيفة انطلقت للتو، من جهة جبل قاسيون إلى مكان ما، في ضواحي العاصمة. تحضرني صورة تيمورلنك بعد احتلاله دمشق، مطلع الخامس عشر، فقد اتخذ هذا الحي قاعدة لنصب منجنيقاته التي كانت تدك قلعة دمشق، وإحراقه المدينة بأكملها، قبل أن ينسحب منها، وسوف يقوم المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار، أثناء مرحلة الانتداب الفرنسي، بالإجهاز على جمالية هذا الحي، أو ما كان يسمى «إسطنبول الصغرى»، على نحو آخر، حين وضع مخططه المعماري الذي يقضي بتصنيف الأحياء التي تقع خارج سور المدينة القديمة، مناطق حديثة، وهو ما أدى إلى هدم معظم البيوت الدمشقية العريقة بهدف إنشاء عمارة حديثة مكانها. أنعطفُ نحو بوابة أخرى تقودني إلى سوق «الخجا» المجاور، أضخم سوق لبيع حقائب السفر. هناك سأكتشفُ حركة صاخبة وزحاما وجلبة، وكأن سكان المدينة قرروا مغادرتها جميعا، فأينما التفتت ستجد شخصا يحمل حقيبة سفر، أو يجر حقيبة بعجلات وراءه. أقولُ لنفسي: هل سأرغم على مغادرة دمشق، وشراء حقيبة سفر جديدة، كما يفعل هؤلاء، وهل تكفي حقيبة واحدة لنسيان حطام الأمس؟
… حاولتُ مرارا، أن أتجاهل صوت القذائف البعيدة، إلى أن اقترب هدير الحوامات. الحوامات في طيرانها الأول، تعبر من أمام نافذة غرفتي، ثم تتجه شرقا. نشرة أخبار الظهيرة تتبنى أعدادا إضافية من القتلى، ومعركة في ساحة السبع بحرات، وسط دمشق. سأعبر الساحة بعد نحو ساعة، لا أجد آثار معركة، لكن عسكريا عند الناصية، سيفتش حقيبتي. أكمل طريقي إلى مقهاي ككل يوم. المقهى يخلو من رواده المعتادين. أغرقُ في عناوين الجريدة اليومية، وقد تحولت صفحاتها إلى إعلانات مبوبة للموتى. لا أحد يأتي. هاتفي لا يرن… الطرقاتُ مقفلة إلى وسط المدينة. في طريقي إلى المقهى. أتخيل بأن يأتي يوم لا أجد من أجلس إليه في المقهى، وأن أكتب حكاية فانتازية عن رجل وحيد في مقهى، ينتظر أصدقاء لن يأتوا أبدا. لكنه، كعادته سيذهب ظهيرة كل يوم إلى المقهى بالاعتياد نفسه، يرتشف قهوته، ويقرأ صحيفته بضجر، ثم يغادر المكان، ليعود إليه في اليوم التالي، إلى الطاولة نفسها في الرواق الطويل، لصق النافذة التي تطل على فتحة سماوية، مستعيدا صخب رواد غير مرئيين، تركوا قاموس شتائمهم وغضبهم وأشواقهم، ثم مضوا إلى غير رجعة. الرجل الوحيد كي يسلي وحدته، يفتح ألبوما وهميا، ويستعيد ضجيج وصخب وسجالات جلسات قديمة، وكأن أصحابه، لم يغادروا الطاولة في الرواق الطويل للمقهى، مرة واحدة. في زيارات لاحقة، سيطور اللعبة على نحو آخر، بأن يجمع كل من عبر طاولته يوما في جلسة واحدة، إلى الدرجة التي لا يتذكر فيها وجوههم جميعا، وحتى بعض أسمائهم. في الأيام التالية سوف يختصر مشواره اليومي إلى مربع أصغر مما اعتاده قبلا.
… كان على الحرب أن تقع قبل عقدين على الأقل من اليوم، أقولُ لنفسي، أقله كي لا يتلوث معجمك الآن برائحة البارود، والقتلى، والمخطوفين، والأنفاق، والمعتقلات، وشبهات الهوية، وحواجز الطرق إلى الضواحي، وريبة أصدقاء الأمس، فالوليمة السورية باذخة إلى حد يفوق الوصف».
هدى بركات.. بريد الليل
تثير الكاتبة اللبنانية هدى بركات، كما في معظم روايتها، موضوع الحرب الأهلية اللبنانية. في روايتها «بريد الليل»، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2019، تعود من جديد إلى هذا الموضوع من زاوية موظف في مكتب البريد الذي انقطعت صلته بالعالم الخارجي، بسبب الحرب ويعيش عزلته وسط رسائله التي ضاعت عناوينها:
«… صرت موظفا في مكتب البريد، لا يجول ولا يوزع شيئا، بسبب الحروب والمعارك التي نزلت من السماء أو صعدت من جهنم، لا أحد يفهم كيف أو لماذا. داعش يقولون، وتهرب الخلائق وتموت على الطرقات، أو تختبئ في زرائب الحيوانات. حتى الحيوانات دشرت في الفلاة أو أكلها الناس جيفا. أنا أيضا هربت مرارا، ثم أعود لأقبض راتبي، حين كان ما زال هناك راتب يصل في موعده تقريبا إلى المركز. كل ما أفعله هو الهرب والعودة. الهرب واللف والدوران والذل، ثم العودة إلى هنا والاستماع إلى الأغاني، حين أجد بطاريات لآلة التسجيل. تخلّع باب المركز ولم يعد هناك موظف واحد. لو كان لي زوجة أو أولاد لما استطعت الرواح والمجيء هكذا. أعني أن أتركهم في المخيمات أو على الطرقات فلا أعود أجدهم في أي مكان من أرض الرب الواسعة. أفكر أحيانا في أني لن أعيش حتى تنتهي داعش، داعش أو غيرها. لن ينقشع غضب الرب قبل موتي. انتهى أمر عمري.
أفكر أحيانا في الرسائل التي لا تصل إلى أصحابها، والتي تتكدس في مكان ما لا يعرف مُرسلها ما حل بها. تتكدس كالأوراق الميتة في زوايا الشوارع الفارغة. وربما باتوا يحرقونها الآن، فالناس صاروا يعرفون أن لا أمل في وصول رسائلهم… وربما ما عادوا يكتبون أصلا. فحين تختفي العناوين تماما في المناطق المدمرة وتتصحر قرانا خالية من الناس، إلى من يكتب الواحد؟ وإلى أي عنوان؟ حين تنتهي الحروب سوف يبحثون طويلا عن أسماء الشوارع، وقد يعطونها أسماء جديدة، بحسب من ينتصر ويسيطر عليها…
فأنا حاليا أقيم بمركز البريد. أخرج منه وأعود إليه. ولا أستطيع حتى الاقتراب من المنطقة التي يقع فيها بيتي، والأرجح أنها محروقة ومهدمة بالكامل. لكن، إلى متى سأظل قاعدا هنا، فالحروب التي تتحرك لا خط لها أو سيرة. المنهزم اليوم قد يصبح أكثر شراسة وتدميرا غدا.
الآن، أكتبُ رسالتي إلى من قد يأتي إلى هنا، وأضعها على بينة واضحة للعيان قرب فهرس الرسائل… فقد أموتُ قبل أن يصل أحد إلى هذا المركز.
من يدري؟».
عبد الله مكسور.. عائد إلى حلب
يقوم عبد الله مكسور في روايته «عائد إلى حلب» بعملية استقصاء لواقع اللاجئين والنازحين في نقاط العبور الخطيرة: «… في مواجهة الوطن أقف وحقيبتي الصغيرة ناظرا إلى الأفق البعيد، ثمة قصص لم ترو بعد، ثمة عائلات بلا مأوى، وأطفال بلا حليب، ورجال على طريق الموت بلا أدوية، في هذه البلاد حين يحضر الموت يهرب كل شيء، أشعر بضيق في التنفس، صدري يطبق على الحجاب الحاجز، فيكبس الرئة التي تكاد تخرج من ظهري، لاهثا مشدوها أمام مواجهة الموت، مستعيدا في مخيلتي بعض المشاهد التي صورتها وأفرغتها في فيلم سينمائي قصير، قبل قدومي إلى هنا. مرة أخرى، وربما أخيرة، ما إن انتهت الصلاة حتى صاح أحد الشبان مكبرا، فبدأت الحشود تتجمع باتجاه الشارع الذي دائما كنت أراه مكتظا لا يتسع لعشرات، ولكنه في تلك المشاهد بات يتسع لآلاف وآلاف. على باب المسجد رأيت شبح الموت يجهّز نباله ليحصد وجوها جديدة ذلك اليوم. مشى القوم وكأن الشمس وعدتهم بأسماء جديدة، وألوان جديدة، وأعمار جديدة، والموت قادر على تمييزهم، سواء تلثموا أم لم يضعوا غطاء على وجوههم. وكأنهم يقولون لشبح الموت أنت عبث لا نقيم لك وزنا أبدا. ويتقدمون وأصواتهم ترتفع إلى السماء قبلهم. أحاول أن أتخلص من هذه المشاهد، ولكن كيف السبيل وكل من حولي يهرب منها إلى اللامكان، أهز رأسي رافضا إياها، وإذ بصورة عبد العزيز تقفز أمامي، لقد رافقني في رحلتي من حمص إلى حماه، وجلسنا معا على ضفاف العاصي، وأعطاني سيارة للعبور بها على الحاجز الكبير، واستخرج لي هوية مدنية لأقدمها كإثبات شخصيتي لمن يسأل عنها. على ضفاف العاصي اجتمعنا، وها هو يعود إلى ذاكرتي بعد أشهر تقريبا من فراقنا الأخير، وصلني خبر موته عبر رسالة على «الفيسبوك»، كلمتان فقط، عبد العزيز استشهد، لا يهم الطريقة التي مات بها وبأي وقت رحل، أقبل الصلاة، أم بعدها؟ أقبل الإفطار، أم بعده؟ أكان معه أحد، أم مات وحيدا؟ هل اعتقلوه وعذبوه، ثم قتلوه؟ كل تلك التفاصيل لا تهم أبدا فالثابت أمامي أنه مات ولم يعطني فرصة لأقول له شكرا على كل شيء، ربما لم يكن ينتظر أن أقولها له فهو نذر نفسه لله ولخدمة الناس كما قال لي مرات عديدة، تفاصيل موته عرفتها في ما بعد، فقد قتل بعد الإعلان عن معركة تحرير حماه، قتل بعد أن طلبوا من المجلس العسكري تزويدهم بكمية من الأسلحة لصد الهجوم المتوقع بين ليلة وضحاها، وحين قال ضابط كبير في المجلس إن القيادة لم تدرس تغطية جبهة بطل 72 كلم! قرر أن يمضي برفقة بعض أصحابه ليهاجم الحاجز الرئيس في مدخل المدينة، فشل الهجوم ولقي حتفه، وبعد أيام وجدوا جثته متفسخة في مياه العاصي!
لم أستطع الحضور في تشييعه، أن أبكيه، أن أصرخ بعالي الصوت فوق جثته الهامدة، أن أنتقم من كل قاتليه ومن تورط بموته، بينما ظل العاصي على هيبته، بعد أن ابتلع كل تلك الدماء. عاش فقيرا ومات فقيرا ورحل على فقره… عندما رويتُ لناجي ما حدث لي في رحلتي الأولى، قال تعليقا واحدا فقط:
«عندما تقيم في سوريا بعد عام 2011 يصبح الموت اعتياديا، فتشعر بملك الموت زائرا مقيما بين البشر، فيبني له بيتا ومنزلا ومضافة كبيرة، ويقوم بفحص الراكبين الجدد في حافلته كل يوم، يؤكد وجودهم ويحملهم على النهوض نحو حتفهم حملا ومن لا ينصاع فهناك قذيفة تأتي بعد تغيير مسارها، لتجعله أحد حاملي التذاكر في الرحلة الأبدية».
أحمد سعداوي.. فرنكشتاين في بغداد
فازت رواية «فرنكشتاين في بغداد» للكاتب العراقي أحمد سعداوي بجائزة البوكر العربية لسنة 2014. وظفت الرواية شخصية فرنكشتاين المرعبة والمعروفة في الأدب العالمي للدلالة على الواقع العراقي والأحداث الأليمة من انفجارات وعمليات إرهابية خاصة في مدينة بغداد حيث تدور الأحداث: «… ظل يمشي، دون تفكير، باتجاه تقاطع ساحة الأندلس. كان يوما عجيبا. لقد سمع في تلفزيون المطعم أن انفجارات كثيرة حصلت خلال اليوم، في مناطق الكاظمية ومدينة الصدر وحي المنصور والباب الشرقي. ظهرت لقطات تلفزيونية للجرحى والمصابين في مستشفى الكندي ثم لقطات أخرى لساحة الطيران، أثناء ما كان الإطفائيون يغسلون المكان، وتوقع هادي أن يرى نفسه في ركن محل الأدوات، وهو يدخن بهدوء مثل مجرم يتابع آثار جريمته. ثم ظهر ناطق باسم الحكومة يتحدث ويبتسم ويرد على اسئلة الصحفيين، مؤكدا أنهم أفشلوا مخططات الإرهابيين لهذا اليوم، فحسب المعلومات الاستخبارية كان هناك مئة هجوم بسيارات مفخخة خططت للقيام بها عناصر القاعدة وفلول النظام السابق، إلا أن قيادة قوات التحالف والأجهزة الأمنية العراقية أحبطتها جميعا، ولم تكن هناك سوى خمسة عشر تفجيرا فقط!
عفط صاحب المطعم السمين عفطة طويلة ومتموجة وهو يسمع هذا الكلام، ولم يعلق بشيء آخر. غير أن الانفجارات لهذا اليوم غدت ستة عشر انفجارا. لقد ذهب الناطق باسم الحكومة إلى بيته الآن، ولن يسجل الانفجار الجديد في قائمة حوادث اليوم… بعد أن عبر بمسافة عشرين مترا عن البوابة شاهد سيارة أزبال مسرعة تخطف بجواره وتكاد تصدمه. كانت متوجهة نحو بوابة الفندق. لم تمض سوى لحظات حتى انفجرت وطار هادي بكيسه وعشائه في الهواء. تشقلب وتطوح مع الغبار والأتربة وعصف الانفجار وارتطم بقوة على إسفلت الشارع على مسافة بعيدة عن مكان الانفجار. مرت دقيقة ربما قبل أن ينتبه هادي لما جرى، وشاهد عددا من الشباب وهم يعبرون الشارع ويركضون باتجاهه، كان بينهم الصحفي محمود السوادي. ساعدوه على النهوض بينما التراب والدخان يغطي المكان. وحين وقف على قدميه أبعد أيديهم عنه وظل يسير بسرعة خائفا ومرعوبا. صاحوا عليه فربما كان مصابا ولا يشعر بنفسه، لكنه بدأ يركض. كان مصدوما بكل تأكيد ولا يعي ما يفعل.
كان الظلام قد غطى المكان وأصوات سيارات شرطة وإسعاف وإطفائية تأتي من بعيد. بينما غيمة التراب والدخان تتفتت وتتحول إلى ضباب واسع يشتت أضواء السيارات. ظل محمود وشهود العيان الآخرون يسحقون على نثار الزجاج وقطع حديد صغيرة وأشياء كثيرة نثرها الانفجار في الشارع على مسافة طويلة ثم ابتعدوا خائفين ومضطرين وهم يسحقون على هذه الأشياء ولا يرونها.
ظل يسير بجهد بالغ وبآلام مبرحة في ذراعيه وعظم الحوض، وجروح في جبهته وعظمة خده بسبب السقوط على الإسفلت، لم يكن يمشي بصورة طبيعية، كان يعرج ويسحب خطواته بصعوبة. لم يكن يفكر بصعود سيارة تقوده إلى الباب الشرقي، لأن هناك عطلا ما أصاب ذهنه. لم يكن يفكر بأي شيء على الإطلاق، وكأن زرا ما تم ضغطه فبات يسير لا أكثر، وربما بعد نفاد طاقته الجسدية سيسقط على الأرض هامدا.
ظل يقول بأنه لا يموت. لقد نجا من انفجارات عديدة. ما يثير اهتمامه أكثر أن جسده لم يصب بأي شظية من الانفجار. كل جروحه هي بسبب ارتطامه بالأرض، وهي جروح طفيفة على أي حال. وصل إلى بيته. نسي في موقع الحادث كيسه وعشاءه… دخل إلى غرفته وانطرح على الفراش وغاص في النوم سريعا، أو ربما كانت مجرد غيبوبة أجلها».
جنى فواز الحسن.. طابق 99
تعود بنا الكاتبة والصحافية اللبنانية جنى فواز الحسن في روايتها «طابق 99» إلى الوراء خلال سنوات الثمانينات، للتطرق إلى الأحداث المروعة التي شهدها المخيم الفلسطيني في لبنان فيما أصبح يُعرف بمذبحة صابرا وشتيلا:»… في العودة إلى الوراء، إلى يوم 16 شتنبر 1982، وتحديدا إلى الساعة الخامسة عصرا، عندما بدأت المجزرة، لا مكان لحفظ التاريخ كرقم فحسب، بل تكاد الصور تتحول إلى حالة انبعاث من الموت وإليه. في محاولة لاستعادة الذاكرة، تبدو الأحداث دائما ناقصة ومبعثرة، ليس لشيء إنما لفظاعتها.
ارتبطت المجزرة في رأسي دائما بالصمت، على الرغم من أن أبي هرب بي قبل أن يبدأ القصف، وتنقطع الروح عن المخيم. لم تكن المذابح على شدتها الأمر المدمر الوحيد، بل فكرة العودة إلى هناك، إلى مكان يعبق بالقتلى، يكتم أصواتهم، ويحرمهم حتى من حشرجتهم الأخيرة كأن يعترضوا على القتل.
البطاطا المقشرة التي وضعتها النسوة على النار، والملابس المنشورة على حبل الغسيل وأكياس النفايات التي تنتظر أن يخرجها أحد من المنازل. كل هذه الأشياء التي جمدت يومها في أرضها وكل الأشياء التي لم يعد أصحابها لأخذها.
كانت تلك المأساة، ككل مآسي الحروب، لا تنتهي بعد حدوثها، بل تخالها تبدأ من هناك، من حكايا الأشلاء المطمورة، والجثث التي لم تودع الحياة بابتسامة على فراش المرض، كما تعودنا أن نرى في الأفلام، بل بنظرات ذعر واستجداء وتوسل.
… كان أبي يحملني بحثا عن مخرج ما قبل أن يصبح الحصار كاملا. ذلك الصباح، عمت المخيم رائحة غريبة. كنا كالفئران التي تستشعر وجود مصيدة في مكان ما، مصيدة لا دليل مؤكد على وجودها. خرجت قبل أن يحاصر المخيم ويبدأ القتل.
لم أعرف يوما كيف قُتلت أمي، إن كان أحد المسلحين قد اغتصبها أو إن كانوا قد شقوا بطنها لأنها حامل، كما فعلوا بنساء كثيرات. لم أعرف ماذا حدث للبطاطا. بحسب ما تناقل الجيران، ومن بقي ليخبر، كانت أخت فوزي جارنا تحبو باتجاه ثدي أمها القتيلة لكي تأخذه بفمها حين أطلق الجنود النار عليها هي الأخرى. جارنا سعيد حاول أن يقاومهم فركلوه على خصيته، وبصقوا عليه حتى الموت. لم أستوعب يوما عبارة «بصقوا عليه حتى الموت»، البصق لا يقتل لكن الإهانة تفعل. لم يعرف أحد شيئا عن امي. لم يتركوا لنا حتى رواية عن مقتلها. لم يقل أحد إن كان صراخها قد دوى في المكان. لم يعد أحد عدد الرصاصات التي أصابتها. لم يقل أحد شيئا».
رف الكتب
رسائل إلى روائي شاب
يحاول الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا Mario Vargas Llosa في كتابه الشهير «رسائل إلى روائي شاب» أن يوجه إلى الروائيين الشباب مجموعة من القواعد الأساسية في كتابة الرواية انطلاقا من تجربته مبرزا خصوصية الكتابة الروائية وعلاقتها بالواقع، وأن قوتها تكمن في قدرتها على الإقناع بقوله: «… من أجل تزويد رواية ب»القدرة على الإقناع»، لا بد من سرد قصتها بطريقة تستفيد إلى أقصى الحدود، من المعايشة المضمرة في الحكاية وشخصياتها، وتتمكن من أن تنقل إلى القارئ وهْماً باستقلاليتها عن العالم الواقعي الذي يوجد فيه من يقرؤها. فقدرة رواية ما على الإقناع، تكون أكبر، كلما بدت لنا أكثر استقلالية وسيادة، حين يوحي لنا كل ما يحدث فيها بأنه يحدث بموجب آلية داخلية لهذا التخيل الروائي، وليس بقسر تعسفي، تفرضه إرادة خارجية. عندما تُشعرنا رواية ما، بأنها مكتفية بذاتها، وبأنها قد انعتقت عن الواقع الواقعي، وأنها تتضمن في ذاتها، كل ما تحتاج إليه لكي تحيا، فإنها تكون قد وصلت إلى أقصى قدرة على الإقناع. وعندئذ، تتمكن من إغواء قارئيها، وجعلهم يصدقون ما ترويه لهم. وهو شيء لا تبدو الروايات الجيدة، العظيمة، أنها ترويه لنا، بل إنها أقرب إلى جعلنا نعيشه، نتقاسمه، بفضل ما تمتلكه من قوة الإقناع». وإذا كان المسرح وفق نظرية برتولد بريخت حول التغريب يسعى إلى كسر «الوهم» وتذكير المتفرج بأن ما يراه، على المنصة، ليس الحياة، وإنما هو مسرح، كذبة، استعراض. فإن الرواية:
«تسعى إلى عكس ذلك بالضبط: تضييق المسافة الفاصلة بين الوهم والواقع، وجعل القارئ، بمحو الحدود بينهما، يعيش تلك الكذبة، كما لو أنها الحقيقة الأكثر ثباتا ورسوخا، وكما لو أن ذلك الوهم هو الوصف الأشد تماسكا ومتانة للواقع. هذه هي الخدعة الكبرى التي تقترفها الروايات العظيمة: إقناعنا بأن العالم هو كما ترويه هي، وكما لو أن التخيلات ليست ما هي عليه: عالم مفكك ومعاد التركيب بعمق… الروايات السيئة وحدها، تملك تلك القدرة على التغريب التي نادى بها بريخت، لكي يتمكن مشاهدوه من استيعاب دروس الفلسفة السياسية التي يرغب في تلقينهم إياها، في أعماله المسرحية. الرواية الرديئة التي تفتقر إلى قوة الإقناع، أو التي تملكها ضعيفة جدا، لا تقنعنا بحقيقة الكذبة التي ترويها لنا. وعندئذ، تظهر لنا تلك الكذبة على حقيقتها، مجرد «كذبة»، خدعة، بدعة تعسفية وبلا حياة خاصة بها: تتحرك بتثاقل وخراقة، مثل دمى محرك عرائس سيئ. وتظهر الخيوط التي يحركها بها خالقها واضحة للعيان».
مقتطفات
أمة من العباقرة
الكاتبة والصحافية المتخصصة في مجال العلوم والتقنية أنجيلا سايني Angela Saini في كتابها «أمة من العباقرة/ كيف تفرض العلوم الهندية على العالم»، توضح مقدمته أهمية موضوع الكتاب: «الهند أمة من العباقرة والكادحين والمهرة، فنحو واحد من كل خمسة من جميع العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في المملكة المتحدة من أصل هندي، وواحد من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم أو الهندسة في الولايات المتحدة آسيوي، بل هناك من ادعى مع مطلع الألفية الجديدة أن ثلث المهندسين العاملين في منطقة وادي السيليكون هم من أصل هندي…». الكتاب عبارة عن رحلة تقوم بها الكاتبة للكشف عن هذه الثورة العلمية، وتلتقي فيها المخترعين والمهندسين والعلماء الشبان الذين يساعدون على ولادة القوة العظمى العلمية التالية في العالم، وهي أمة لم تنبن على فتح البلاد ولا على النفط ولا على المعادن، بل أمة نشأت وترعرعت على عبقرية شعبها العلمية. وتوضح الكاتبة أنجيلا سايني كيف تفسح العلوم القديمة المجال للعلوم الحديثة، وكيف بدأت تكنولوجيا الأثرياء تنتقل إلى الفقراء. كما تغوص في أعماق أنفس مواطني الهند المتعطشين للعلم، مستكشفة الأسباب التي حدت حكومة البلد الأكثر تدينا على وجه الأرض على الإيمان بالعلوم والتكنولوجيا. من خلال التحقيقات الصحافية الذكية التي تجريها الكاتبة على أرض الحدث، ومن خلال التحليل الدقيق، يشرح لنا كتاب «أمة من العباقرة» ما يعنيه هذا بالنسبة إلى بقية دول العالم، وكيف تتمكن أمة روحانية من المواءمة بين روحها والعقلانية الشديدة. كما يصف الكتاب المملوء بالشخصيات اللافتة للنظر والنابضة بالحياة والقصص الجذابة الهند من خلال شعبها. في مقتطف دال على هذه الثورة العلمية تورد الكاتبة هذا المقطع: «التقيتُ في وقت لاحق «نيشانت رانكا»، أحد طلاب السنة النهائية بقسم الهندسة الكهربائية، ويبلغ من العمر 22 عاما، قال لي: «عندما ذهبتُ إلى بريطانيا العظمى ورأيتُ الناس يغلقون محالهم في الساعة الخامسة، لم أستطع أن أفهم السبب. أما هنا فإنها تظل مفتوحة لأوقات متأخرة من الليل. إن الهنود يكدحون كثيرا، أكثر بكثير من الأوروبيين والأمريكان». أخبرني أنه قبل أن يصل إلى معهد التكنولوجيا في دلهي، كان يتلقى تدريبا لمدة ثلاث ساعات يوميا، علاوة على أن الساعات التسع المتبقية من اليوم كان يقضيها في الاستذكار على أي حال، وذلك ليتأكد من أنه سيجتاز الاختبارات. وكان يسمح لنفسه أحيانا بنصف ساعة يشاهد فيها أفلام الكارتون في المساء، وأن يشاهد فيلما بعد انتهاء أحد الاختبارات. و لكن فيما عدا ذلك كانت حياته تتمحور حول الاختبار الأخير». وتضيف في مكان آخر: «إن الخريجين هنا مطلوبون جدا، إلى درجة أن الأربعة الأوائل على الدفعة لم يكلفوا انفسهم مشقة حضور مقابلات العمل في الهند، واثقين بأنهم سيحصلون على وظائف ذات رواتب سخية في واحدة من عشرات الشركات المتعددة الجنسيات…»
متوجون
فوز «جوفيدا» بالجائزة الكبرى للمهرجان الدولي لفيلم المرأة
فاز الفيلم الفلندي «جوفيدا» للمخرجة كاتيا غوريلوف بالجائزة الكبرى للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا في دورته 17. يتطرق الشريط السينمائي المتوج «جوفيدا» إلى قضية إنسانية تعرفها الكثير من البلدان بخصوص حماية التعددية الثقافية والتراث اللغوي لبعض السكان الأصليين. فمن خلال شخصية «جوفيدا» يتم نقل قصة جماعة لغوية وثقافية تتعرض للانقراض في شمال فنلندا وإلى سياسات الدمج القسري، جعل من لغتها لغة هامشية معرضة للزوال والاندثار، ويكاد عدد الناطقين بها لا يتجاوز 400 فرد في مجال قروي بسيط. كمامنحت لجنة التحكيم جائزتها الخاصة لفيلم «أنيمال» للمخرجة اليونانية صوفيا إكسارشو، والذي حصل أيضا على جائزة أفضل دور نسائي للممثلة ديميترا فلاكوبولو. وحققت المشاركة المغربية في مسابقة المهرجان تتويجا من خلال فوز الممثل خليل أوباقا بجائزة أفضل دور رجالي عن فيلم «على الهامش» لجيهان البحار. وعادت جائزة أول عمل لفيلم «غود وان» للمخرجة الأمريكية إنديا دونالدسون، بينما منحت لجنة التحكيم تنويها خاصا لفيلم «لغة أجنبية» للفرنسية كلير بيرجر. وفي فئة الأفلام الوثائقية، ذهبت الجائزة الكبرى إلى الفيلم الفرنسي «حكايات مدينة» للمخرجة مالوري إيلوا بايسلي، مع تنويه خاص بفيلم «القبر الفارغ» لأنييس ليزا فيغنر وسيسي ملاي (ألمانيا، تانزانيا). من جهة أخرى، فاز المخرج المغربي مولاي الطيب بوحنانة «صحاري اسلم واسعى» بجائزة الجمهور للفيلم الطويل، فيما آلت جائزة الجمهور للفيلم القصير لفيلم «ما الذي ينمو في راحة يدك» لضياء بيا. وتم استحداث جائزة الضفة الأخرى للمناصفة في السينما، والتي فاز بها فيلم» على الهامش» للمخرجة جيهان البحار.
تُعرفُ المخرجة الفنلندية كاتيا غوريلوف، بأفلامها المؤثرة التي عُرضت وفازت بجوائز في مهرجانات مختلفة حول العالم. «أحلام معلبة» و«غابة كايسا المسحورة» شاركا في مهرجان برلين السينمائي، حيث افتتح «غابة كايسا المسحورة» قسم ناتيف في مهرجان برلين سنة 2017. حصلت كاتيا غوريلوف على جائزة أفضل فيلم وثائقي في جوائز الفيلم الوطني الفنلندي سنة 2016. أول فيلم روائي طويل لها هو «بيبي جين» (2019). «جوفيدا» يعتبر أول فيلم روائي طويل يتحدث بلغة «سامي سكولت». تعيش غوريلوف وتعمل في روفانيمي، شمال فنلندا.