شوف تشوف

الرأي

رحلة السلاح والتسلح الذري (1)

بقلم: خالص جلبي
تروي القصة أن أعرابيا انطلق مسافرا وقد حمل كل أمتعته على ظهر جمل، فلما كان خارج قريته وقعت عينه على خُف (مفرد) أيمن فقال في نفسه: «مالي به نفع، وهو خف غير كامل لا يصلح للبس ولا لهدية»، فلما ابتعد عن المكان حتى فارق بصره، إذا به يفاجأ بخف (مفرد) آخر أيسر، فصاح: «ويلي كم كنت غبيا حينما أهملت أخذ الخف الأول»، فانطلق لا يلوي على شيء وقد أناخ جمله، حتى رجع إلى مكان الخف الأيمن المفرد فأخذه، وكان يرقبه في هذه الأثناء لص خبيث من فوق هضبة، فانطلق بالجمل وما فيه، فلما عاد إلى مكان الخف الأيسر لم يجد الجمل والمتاع، ولكنه وجد الخف الأيسر، فرجع بالخفين إلى القرية بدلا من الجمل، فذهب مثلا في قلة العقل … رجع بخفي حنين … وأصحاب السلاح النووي حدث معهم أمر قريب من قصة هذا الأحمق، ولكن بفارق أن الأحمق الأول رجع بالخفين على الأقل، أما حمقى القرن العشرين فلم يرجعوا حتى بالخف المهترئ؛ فكانوا أحمق من هبنقة وأشعب معا.
هناك معضلة فكرية وسياسية غير مفهومة، وتركيب عالمي معقد، وكأنه معادلة رياضية بعشرين مجهولا تحتاج إلى حل، فسمعنا عن تجارب نووية فرنسية، في الوقت نفسه الذي نسمع فيه عن محاصرة كوريا الشمالية لإيقاف برنامجها النووي، في الوقت ذاته الذي نسمع فيه عن إيقاف التجارب الأمريكية والروسية، بل ونسمع عن تفكيك رهيب للسلاح النووي عند الدول العظمى! (يراجع في هذا كتاب «رحلتي على شفا الحافة النووية» لويليام بيري، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق أيام كلينتون). فكيف يمكن أن نفهم طبيعة العصر النووي الذي نحن فيه، وإلى أي عتبة وصل إليها؟ وما هو الفضاء الجديد الذي يجتازه حاليا؟ وهل يمضي الكون باتجاه الحرب أم السلم؟ وما معنى أن تتخلص الدول العظمى من السلاح النووي، في الوقت الذي يسيل فيه لعاب دول صغيرة لامتلاكه؟ وما معنى خيار شمشون الجبار الذي طرحته إسرائيل، على مبدأ علي وعلى أعدائي، في حال حصول كارثة نووية في منطقة الشرق الأوسط؟ كأن هذه الأمور معادلات ذات عشرين مجهولا من الرياضيات العالية للغاية. ولكن لنبدأ في فك هذا الطلسم من عند الحماقة الفرنسية الجديدة، في سلسلة التجارب النووية الست تلك التي أجرتها في ما سبق في جزر المورورو.
لماذا هذا الإصرار والعناد الذي لا يفهم، في الذهاب لتدمير الحياة في عمق المحيط الهادي، بالاستمرار في سلسلة تجارب جديدة، وكيف لا يدرك أساطين السياسة الفرنسية أن الكرة الأرضية أصبحت صغيرة، فهي ليست ملكا لأحد كي يلوثها على الشكل الذي يحلو له، إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا لا نملك الكثير من الكرات الأرضية، وليست النجوم الأخرى بقريبة حتى نرتحل إليها، فأقرب نجم لنا يبعد بحوالي أربع سنوات ضوئية، أي 24 مليون مليون ميل أو 40 مليون مليون كم. لقد قفز إلى السطح أخيرا أن القنابل الهيدروجينية يمكن تطويرها بطريقة جديدة؛ ليس في استعمال عود ثقاب من قنبلة انشطارية غير نظيفة، بل إشعالها من خلال تسليط مدافع الليزر الجميلة على مادة نظائر الهيدروجين (التريتيوم والدويتريوم)، بحيث نرفع درجة الحرارة إلى ما يفوق ما يستعر في باطن الشمس (أعظم من 15 مليون درجة حرارة) كي يتم لحم ذرات الهيدروجين وإنتاج مادة الهليوم وتوليد الطاقة الالتحامية الحرارية العاتية، التي تمسح عواصم عالمية بكاملها بضربة واحدة ما لها من فواق، أو بمجموع من الضربات المساندة (عُرف أن استخدام ثماني قنابل من عيار 40 كيلو طنا = أقوى من هيروشيما كل واحدة بحوالي ثلاث مرات! تعطي من الأثر التدميري أفضل بما لا يقارن من ضربها بقنبلة واحدة من عيار مليون = ميجاطن من مادة ت. ن. ت).
ومن المغزى الفلسفي العميق أن السلاح النووي تم توليده من حافتي عناصر الكون من أبسطها الهيدروجين، ذو العدد الذري 1، وأعظمها طرا اليورانيوم، ذو العدد الذري 92، وتمتاز عناصر الوجود أنها تمشي وفق سلم خلق إلهي أخاذ، حيث يختلف كل عنصر عن الذي قبله أو بعده بزيادة أو نقص بروتون واحد، في ما لو نظرنا إلى جدول مندلييف لتصنيف العناصر (3). ونظرا لأن زيادة وزن العنصر تحمل المزيد من لبنات (طوب) البناء هذه، فلابد لها من ملاط قوي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البروتونات متشابهة ذات شحنة إيجابية، فنحن أمام لبنات متنافرة وليس متساندة أو متحابة متآلفة، تماما كما هو في تحاسد وتباغض وتنافر أبناء المهنة الواحدة وأبناء العمومة والأقارب، فلا يكاد طبيب يسر بنجاح زميله في إنجاز عملية معقدة نادرة، أو السيطرة في معالجة مرض عضال فتاك، ولا يكاد ميكانيكي سيارة يثني على جار له يعمل في الشارع نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى