شوف تشوف

ملف التاريخ

ذكريات التلفزيون المغربي المنسية:هكذا انتقل التلفزيون من نقل السهرات إلى السياسة

يونس جنوحي:

عندما كان الرباطيون يمرون بمقربة من بناية مسرح محمد الخامس بالرباط سنة 1962، لا يمكن ألا يلاحظوا وجود حركة غير اعتيادية في المكان.

عشرات السيارات التي تقل الفرق الموسيقية والمطربين الصاعدين الذين كانوا ينتشرون على كراسي مقاهي المنطقة المفضية إلى حيث يوجد المسرح. والسبب؟ الكل كان يريد التبارز على تسجيل الأغاني الوطنية التي تبثها التلفزة، أو المشاركة في المسرحيات التي كانت تُنقل على التلفزيون.

كانت الفرق المسرحية المغربية التي سبقت غيرها إلى التدرب على أداء المسرحيات للراديو تمتاز بالأفضلية، إلى درجة أن البعض حاولوا رفع شكايات إلى الديوان الملكي، يطالبون فيها الملك الراحل الحسن الثاني بالتدخل لإنصافهم مما كانوا يرونه «إقصاء» لهم من المرور في الجهاز العجيب الذي بدأ يكسو المنازل وحتى بعض المقاهي. ماذا وقع إذن؟

 

أصدقاء الوزير

أشيع في سلا والرباط، أن الطريق الوحيد المؤدي إلى المرور على شاشة التلفزيون هو منزل أحمد رضا اكديرة. صديق الملك ومدير ديوانه ومرافقه الشخصي، وأيضا المهندس لتشكل أول جبهة سياسية في المغرب لمنافسة الأحزاب على «معركة ما بعد التصويت على الدستور».

كان بعض الفنانين المبتدئين يحاولون الوصول إلى رضا اكديرة لكي يُرسلهم بمكالمة منه إلى مقر مسرح محمد الخامس، ويتكلف الطيب الصديقي بإجراء اختبار لهم لكي يرى إن كانوا فعلا يصلحون للمشاركة في مسرحية مبرمجة للتلفزيون، ولو بأدوار ثانوية جدا.

كانت بعض العائلات مستعدة لدفع المال مقابل أن ترى أحد أفرادها على شاشة التلفزيون حتى لو لم ينطق بكلمة. لكن المرور في التلفاز وقتها كان أمرا صعبا للغاية، حيث كان المشرفون على التلفزة المغربية يعرفون أن الملك الراحل الحسن الثاني يتفرج شخصيا ويتابع الفقرات التي يبثها الجهاز في ساعات اشتغاله القليلة يوميا، والتي لم تكن تتعدى في البداية ست ساعات فقط، لذلك لم يكونوا يغامرون بإظهار أشخاص في التلفاز لا يصلحون للوقوف أمام الكاميرا.

أما في مجال «الأغنية» فقد كان بعض الوزراء والعسكريين الذين يتبجحون بعلاقتهم بالقصر، يمارسون تدخلات لفرض الفرق الموسيقية المنحدرة من المناطق التي ينتمون إليها.

ونفس الأمر الذي وقع في المسرح، تكرر مع منصة الأداء للأغاني الوطنية والشرقية. إذ أن القائمين على تسجيل الأغاني للإذاعة، كانت لهم الأفضلية للمرور في التلفزيون. المطربون الأكثر طلبا، كانت لديهم الأسبقية لأداء الأغاني على المباشر، بحكم أن تجربة تسجيل السهرات كانت مستحيلة لعدم توفر التلفزيون المغربي على المعدات الكافية للتسجيل وإعادة البث. وبالتالي كان يتم استعمال الكاميرات المرتبطة بآليات البث في مسرح محمد الخامس، وتبث على المباشر فقرات السهرات. وهو ما كان يعني أن الغلط غير مسموح به بالمرة.

وفي الحالات التي كانت تُسجل فيها سهرات خارج مسرح محمد الخامس، فإن شاحنة البث المتهالكة التي تم اقتناؤها من إيطاليا تتكلف بالمهمة.

هذه السهرات والمسرحيات، كانت العمود الفقري لمحتوى التلفزيون المغربي لملء ساعات البث رغم أنها لم تكن طويلة. في المقابل، كانت هناك نشرات للأخبار، واكبت الأحداث الوطنية، لكنها لم تستطع إزاحة الراديو من عرش الاستماع، حيث كان أغلب المغاربة قد اعتادوا على سماع الراديو في غرف النوم وفي الحقول والشوارع، بينما كان التلفزيون لا يزال في نظر المغاربة جهازا مقدسا، مكانه في صدر البيت، ومتابعته تتطلب طقوسا لا يمكن التساهل فيها.

 

مشاكل البث

لم تكن مهمة إطلاق التلفزيون سهلة أبدا. بل كانت تتطلب الكثير من المعدات والتقنيين لحل مشاكل انتشار نطاق البث.

كانت هناك لاقطات هوائية موزعة لضمان وصول البث إلى مختلف الجهات، وتم التنسيق مع العمالات في جل الأقاليم لكي يقووا جودة الالتقاط حتى يصل التلفزيون إلى كل مناطق المملكة، خصوصا المناطق التي تشهد كثافة سكانية كبيرة.

لكن التحدي الأكبر الذي كان أمام التلفزيون المغربي هو تغطية أنشطة الملك الحسن الثاني ما بين سنوات 1963 و1964. إذ أن بعض التنقلات الملكية داخل الرباط أو إلى الدار البيضاء، كانت تعرف صعوبات أثناء نقلها على التلفزيون، خصوصا وأن تجربة التسجيل لم تكن واردة في ذلك التاريخ. فما بالك بمشاكل النقل التلفزي إذا كان الأمر يتعلق بزيارة ملكية إلى أكادير أو فاس، وهما المدينتان اللتان تفصلهما عن الرباط، مقر التلفزة المغربية، جبال وتضاريس تزيد من صعوبة التقاط الإشارة.

عندما كان الأمر يتعلق بنشاط ملكي، فإنه من المستحيل ألا يتم نقل الحدث على التلفزيون. لذلك أعطى الملك الحسن الثاني وقتها أوامره لكي يتم تعزيز آليات البث، وإحضار شركة فرنسية متخصصة لكي تزود التلفزة المغربية بما تحتاجه من معدات والسهر على تعزيز جودة البث التلفزي من مختلف المدن لتكوين شبكة ربط قوية تتيح في المستقبل نقل الأنشطة الملكية والأحداث المهمة بسلاسة.

وفعلا تم اقتناء لاقطات هوائية لتعزيز شبكة البث، وقام المهندسون بجولة شرقا وغربا لتحديد أماكن زرع اللاقطات الجديدة بدقة.

وتم اختيار مرتفعات جبلية في سلاسل الأطلس، لكي تشيد بها مراكز صغيرة، وتولت العمالات في البداية مهمة اختيار حارس لكي يقوم بمهمة حراسة اللاقط الهوائي حتى لا تطاله أيادي التخريب أو يتعرض للتلف، وهذا الأمر عزز فعلا البث، وأصبحت أمواج التلفزة المغربية تصل إلى جل مناطق البلاد.

هذه الشبكة القوية للبث التلفزي سوف يتم استغلالها سياسيا، خصوصا في المواجهات الأمنية بين الجنرال أوفقير وقدماء المقاومة الذين يتزعمهم «شيخ العرب». حيث تحولت نشرات التلفزيون أواخر سنة 1963 إلى آلة إعلامية لحشد تعاطف المواطنين مع الدولة، خصوصا بعد محاكمة الاتحاديين في يوليوز 1963 وتوجيه الاتهام إلى قيادة الحزب بالتخطيط لقلب النظام وتهديد أمن الدولة واستقرارها. وأطلق البحث عن شيخ العرب واعتُبر المطلوب الأول في المملكة والأكثر خطرا، ولعب التلفزيون دورا كبيرا إلى جانب الراديو بطبيعة الحال، في تحذير المغاربة من تقديم المعونة لمن كانت البيانات الرسمية تسميهم «خارجين على القانون».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى