ذكرى مجزرة حماة.. قبائح «المجتمع الدولي» (2/2)
ذاك هو درس حماة الأوّل في مضمار مواقف «المجتمع الدولي»، أسوة بوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في أوروبا وأمريكا خاصة؛ وهي مواقف يمكن، ويحدث بالفعل، أن تنحني أمام سطوة الصورة وما تخلقه من مضمار أخلاقي عام؛ ولكنها لا تنفّذ الانحناءة الكبرى، في نهاية المطاف، إلا أمام ميزان الربح والخسارة في احتساب المصالح. أما عند السوريين، فإنّ درس حماة 1982 هو سلسلة المجازر التي ارتكبتها كتائب مختارة من «سرايا الدفاع»، الخاضعة لقيادة العقيد رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد؛ أسوة بكتائب مختارة من «الوحدات الخاصة»، التي كان يقودها اللواء علي حيدر. تلك الألوية، وكانت تضمّ وحدات مدرّعة ومدفعية وقوّات إنزال مظلية، قامت بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، فقصفتها بالمدفعية الثقيلة والدبابات، قبل اجتياحها واستباحتها. الحصيلة كشفت عن عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، فضلاً عن 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وتهجير نحو 100 ألف من سكان المدينة، وكانت حينذاك تعدّ قرابة 400 ألف نسمة (هو العدد الذي سيتظاهر ضدّ النظام في ساحة العاصي، أواخر يونيو، بعد 29 سنة على المجزرة!).
و«درس حماة» هو، إلى هذا، مجزرة ارتُكبت بالدم البارد، عن سابق تصميم وتصوّر، لكي تبدو من حيث الشكل بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة. ولهذا فقد وافق حافظ الأسد على إعطاء القادة العسكريين نوعاً من التفويض المطلق، وترخيصاً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب؛ حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، والكيلاني، والحميدية، والحاضر)، أو إلحاق أضرار جسيمة بالمساجد (الشرقي، الشراباتي، الشيخ الكيلاني، الأفندي، الشريعة، السلطان، المدفن، الشيخ داخل، الشيخ زين، الحميدية، بلال بن رباح، الشيخ علوان، عمر بن الخطاب، المناخ، السرجاوي، سعد بن معاذ، الهدى، الجامع الكبير…)، والكنائس (أربع منها قديمة، نُسفت اثنتان، وهُدم جزء من الثالثة، ونُهبت محتويات الرابعة، بما في ذلك كنيسة حديثة ذات طراز معماري بديع نُسفت بالديناميت).
على صعيد «عقيدة» السلطة، ضمن التطورات التي صارت بعض مقدّمات المجزرة، كان المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الحاكم (ديسمبر 1979) قد شهد إعلان رفعت الأسد، بوصفه عضو القيادة القطرية، أنّ مَنْ لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها حكماً؛ كما شهد اقتراحه الشهير، المطالب بشنّ حملة «تطهير وطني»، قوامها إرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان الأسد الشقيق يستبق حركة الاحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980)؛ احتجاجاً على غياب الحريات، وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات، واعتقال عدد من أبرز قياداتها؛ وبعد أشهر، سوف تشنّ السلطة حملة واسعة ضدّ أحزاب المعارضة.
وهكذا أُريد لمجزرة حماة 1982 أن تصبح الدرس الأقصى والأقسى للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، وفي مستوى الشارع العريض والأحزاب المعارضة مثل النقابات والاتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. لم يحدث هذا، بالطبع، فلا المدينة خضعت، ولا سوريا رُوضت، ولا النظام تعلّم درساً واحداً مفيداً حول الخيارات الأمنية والعنفية. وأمّا حكومات «المجتمع الدولي» فإنها تواصل الصمت أو التواطؤ أو… ممارسة رفع العتب عن طريق نصف الانحناءة أمام انفجار الصورة الدامية، ليس أكثر.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس