دعوة مغلفة إلى الجماعة
كانت المظاهرات التي نقوم بها في الساحات العمومية عبارة عن مسرحية.. كل واحد يقوم فيها بالدور الذي كُلِّف به.. ينبغي أن يحفظه عن ظهر قلب.. دورنا نحن الأتباع تجييش الجمهور.. والمحافظة على الضبط والانضباط داخل المسيرة.. والظهور بمظهر القوة في كل حركة أو سكون.. كنا نقوم بكل شيء ليسير «أبو أيمن» وباقي القادة على رأس المسير.. نجهز كل الترتيبات ليظهروا في الواجهة.. ولينتبه إليهم الرأي العام.. وكاميرات الإعلام.. لكن الرسالة كانت موجهة بالأساس إلى المخزن..
رسالتنا إليه: انظر إلينا.. راقب حركاتنا.. اكتب شعاراتنا.. وانظر جيدا إلى وجوه زعمائنا، فهؤلاء هم من ستتعامل معهم في المستقبل.. يمكن التعويل عليهم في المَهَمَّات الصعبة..
تحركاتنا في المظاهرات كانت نفاقا في نفاق.. ندعي أننا نناصر قضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين.. وننصر الدين.. وندافع عن الشريعة.. ونريد أن نقيم مجتمع العدل والحريات.. كل هذه الأشياء شعارات تافهة.. في الحقيقة كنا نخدم أنفسنا.. ورؤساءنا.. وقادتنا.. أما الدين فمنا بريء براءة الذئب من دم يوسف.. لكننا جئنا على قميص المظاهرات بدم كذب.. «فاطمة» هي المستفيدة من كل هذه الجوقة.. شابة فقيرة.. متواضعة في كل شيء.. أستاذة عادية.. عاشت معنا في الحي.. لم تفارقنا أبدا.. تجد نفسها فجأة في البرلمان.. تنعم بحياة مادية لم تكن تحلم بها يوما من الأيام.. لم تغتن بفضل عملها.. أو تجارتها.. أو وساطتها في عالم الأعمال.. لكن بواسطة «الريع الدعوي».. أما «زعيمنا الأكبر» فربما لا يثيره المال.. ولا يلتفت إليه.. إنما تستهويه السلطة بالخصوص.. والزعامة.. يحب الرياسة حبا شديدا.. فتنته في هذه الدنيا هي «الكرسي»، فكانت الجماعة مطية لاعتلائه.. و«الدين» دابته التي أوصلته إلى ما يريد.. بدأت الجلسة التي أسستها رفقة بعض الطلبة والتلاميذ داخل الكاريان تتوسع شيئا فشيئا.. حصولي على الإجازة الجامعية جعل والديَّ يستسلمان لطموحاتي «الدعوية».. فتحت «البراكة» للإخوان مساء يوم كل جمعة.. «شقيفة» و«البودالي» و«القائد» يتتبعون كل «تحركاتنا».. ضاقت الوالدة ذرعا بما يحصل حولها ولا يَدَ لها في ما يحدث.. الوالد يتحاشى أي مواجهة معي.. أصبحت مهيب الجانب بفضل «الإخوان»..
ابتدعنا فكرة خطيرة جدا وهي فتح جلساتنا التربوية للعموم.. أما «الجلسة التنظيمية»، فاقتصرت فقط على الحاصلين على العضوية الكاملة داخل الجماعة.. بدأت «براكتنا» تغص بالحاضرين.. منهم الطالب والتلميذ والحلاق والخضار وتاجر المخدرات وبعض سائقي العربات الخشبية.. وأيضا العاطلين عن العمل.. وما أكثرهم.. لم أعد أقوى على تسيير هذا اللقاء الموسع.. لا مفر من الاستعانة ببعض قدماء الجماعة.. وبعض الوعاظ.. وكل من يمتلك شيئا يسيرا من فنون الخطابة..
خلال هذه الفترة استطعت أن استميل جارنا «عبد الرزاق».. البائع المشهور للحشيش في الكاريان.. ابن جارتنا «لالة خديجة».. خرج لتوه من السجن بعد أن قضى به عامين كاملين.. كانت التهمة هي محاولة قتل منافس له في بيع «الشيرا» بواسطة قنينة خمر ضربه بها على هامته.. ثم غرسها في بطنه.. كاد أن يموت غريمه..
خرج «عبد الرزاق» منكسر الجناح من السجن.. كان في حاجة إلى فترة نقاهة.. طلبت منه ذات مرة أن يحضر معنا جلساتنا «الروحية».. قلت له يومها: ماذا ستخسر لو مكثت معنا بعض الدقائق لتستمع فيها إلى القرآن الكريم.. والحديث الشريف.. وإلى تجارب الناس في هذه الحياة.. استجاب ابن جارتنا دون تردد لدعوتي..
جلسة بعد جلسة.. تغير حال «عبد الرزاق» تماما.. بدأ بدوره يواظب على الصلاة في المسجد.. بل ويصر على حضور صلاة الفجر.. وأكثر من ذلك انخرط في «الدعوة» إلى الله.. ينصح كل زبنائه القدامى المدمنين على المخدرات بضرورة «التوبة» إلى الله.. منهم من استجاب لـ«دعوته».. تعود شيئا فشيئا على لبس «الكاندورة».. أسدل الشاب لحية سوداء.. حتى أن الكثيرين من معارفه وأقرانه صعب عليهم أن يتعرفوا إلى سمته الجديد.. يذهب مبكرا إلى المسجد.. يصلي.. يطيل السجود.. يقرأ في المصحف.. يصلي مع الناس.. له جرأة كبيرة في الحديث معهم.. يفتح نقاشات جانبية بعد انتهائه من الصلاة الراتبة.. يذكرني «عبد الرزاق» بأول مرة دخلت فيها إلى المسجد.. كنت مثله تماما.. لا يدري هذا الشاب المسكين أني استدرجته مثل الطريدة إلى وكر «الذئب».. عرَّفته بدين جديد.. دين «الإسلاميين».. كان همِّي الوحيد هو أن أخرج الناس من «الضلال».. لكن إلى أين أسير بهم؟؟؟
بطبيعة الحال أُعدُّ من كان مستعدا فيهم للالتحاق بصفوف «التنظيم».. هذه هي عملية «الاصطفاء» التي يتحدث عنها «الإخوان».. نختار من نشاء إلى حظيرة «الجماعة».. مثل الأغنام التي نحيط بها الأشواك من كل جانب حتى لا تسرح خارجا.. هكذا كان يصنع والدي ببهائمه عندما كنا في البادية..
ثم نحكم على باقي الناس (نسميهم أيضا بالمتعاطفين) وفق منظورنا بأن يكونوا من «التيار» العام.. أو من «العوام».. وهو الجمهور الذي نلجأ إليه فقط وقت الحاجة.. زمن التظاهرات.. وفي الحملات الانتخابية.. وأيام الاقتراع.. هو المنطق الصوفي نفسه في التعامل مع الناس.. هناك العامة.. والخاصة.. وخاصة الخاصة.. وهؤلاء في الحركة هم الرعيل الأول المؤسس، الذي تربى في تنظيم «الشبيبة».. وهي القيادة التي بقيت توجه «الجماعة».. وتؤثر فيها.. وتفعل فيها وبها ما تشاء.. مثل البقرة الحلوب لم يشبعوا من حليبها المتدفق حتى جففوا منها كل منابع الضرع..
حُكِمَ على «عبد الرزاق» بأن يكون من «التيار» العام للجماعة.. فله أدوار أخرى يمكن أن يقوم بها في المستقبل.. على كل حال كان شابا فريدا.. تحول بسرعة من تاجر «الشيرا».. سكير.. مجرم خطير.. مهاب الجانب في كل الكاريان.. إلى رجل «داعية».. محترم.. حفظ شيئا من الحديث.. ولم تسعفه ذاكرته في حفظ سور من القرآن.. لكن «ميزته» التي انفرد بها هي كثرة مكوثه أمام المحدثين.. والوعاظ.. وخطباء الجمعة.. تخلُّفُه عن النهل من العلم عوَّضَهُ بجلوسه بين يدي محترفي «الإرشاد الديني».. منتهى علمه كان حديث وكلام ونصائح و«نكت» هؤلاء.. يستعين بهم جميعا في تواصله مع أهالي الكاريان.. لا يمل من قال فلان.. ورأى فلان…
عندما أرى «عبد الرزاق» أقف على قدرة الله تعالى في تغيير أحوال الناس.. الشاب فرح بتعرفه على دين الله.. وسعد بأوبته إلى الله.. واطمأن بجلوسه في المسجد..
كان يقول لي دائما:
ـ لقد كنتَ يا جاري العزيز السبب في أن جعلتني أجدِّد حياتي.. لأول مرة أشعر بالسعادة.. والاطمئنان.. أريد أن أموت في سبيل الله..
أجبته عندها:
ـ كذلك صنع معي «أبو أيمن» أول مرة.. فعل بي ما فعلته بك.. وكذلك صنع «البنا» أول الأمر بالناس.. يطوف في المقاهي والكَبارِيهات والطرقات العامة يدعو الناس إلى دين «الإخوان»..
أشعر بالغبطة عندما تعرَّف «عبد الرزاق» إلى دين الله.. وأخجل من نفسي عندما أحصيه في دفاتري أنه من أتباع «الجماعة».. ومن أنصارها.. أعتبر أن انضمامه إلينا ـ ولو أنه لا يدري بذلك ـ يزيد من قوة «حركتنا».. ويكثر من سوادها..
بالفعل قدم هذا الشاب خدمات جليلة للجماعة.. خصوصا في زمن الاستحقاقات.. كان آلة انتخابية فعَّالة.. ترعب الخصوم.. له قدرة عجيبة على إقناع الناس بالذهاب إلى صناديق الاقتراع.. استفاد من خدماته كل من عبَرَ إلى قبة البرلمان.. وعلى الخصوص «أبو أيمن» حينما ترشح لمجلس النواب باسم «الإخوان».. وأيضا ساعد أخاه «حسن»، المستخدم بالبلدية، في الفوز في الانتخابات الجماعية..
جاء الشاب من ظلمات الجهل.. والانحراف.. والعربدة.. والإجرام.. والسجن.. ومنحه الله توبته.. وفتح عليه من رحمته الواسعة.. لكن «الإخوان» نظروا إليه على أنه «صنيعتهم».. وآلتهم الرهيبة التي تساعدهم على التوغل في أعماق المجتمع المغربي.. أمَرِّرُ إليه «التعليمات» بكل سلاسة من خلال الجلسة التربوية.. يستجيب المسكين لها.. ينطلق بسرعة فائقة داخل الكاريان.. يدفع الناس إلى المشاركة في التظاهرات.. والدروس.. وفي كل المحطات الفاصلة التي تمر منها «الجماعة».. وعندما جاء موعد الانتخابات تحول إلى ماكينة استقطابية لا يمكن تجاوزها على الإطلاق.. هو مع نفسه يخدم الله.. ويخدم قضية دينية.. يتفانى في عمله.. لكنه في واقع الحال يتم توجيهه من بعيد من قبل البشر.. يخدم «الجماعة».. وقادتها..
وقع المسكين بكل طواعية في قبضة تجار «الانتخابات».. أو بالأحرى تجار «الدين».. بعدما عاش زمنا طويلا عبدا للذات.. والهوى.. والمخدرات..
تسببت له في هذه الوضعية المخزية.. لأني بدوري كنت ضحية مثل كثير من الناس.. توَّهمنا أننا دخلنا في دين الله.. وإذا بنا نجد أنفسنا في خدمة حفنة من البشر.. تسلقت على أكتافنا مدارج «الزعامة السياسية».. تصدرت وسائل الإعلام.. وتقتات على حساب «الدعوة» إلى الله..
كل ما استطاع أن يحققه «عبد الرزاق» في هذه الحياة.. وبعد نجاح مهمته في تعبئة الأهالي.. وخدمة «أجندات سياسية» لا يعلم المسكين من وراءها.. هو أن يجد له أخوه المستشار «حسن» عملا متواضعا داخل البلدية.. وهذا ـ على كل حال ـ أحسن بكثير من حياة الضياع التي كان يعيشها في الكاريان.. استفاد هو أيضا بطريقة غير مباشرة من «الريع الانتخابي».. أو «الريع الديني».. لا فرق بينهما عندنا في الكاريان..