شوف تشوف

الرأي

دروب العلم الجديدة

بقلم: خالص جلبي
هل للكون بداية؟ هل قوانين الكون مادية صماء، والكون يمشي وفق قوانين رتيبة مثل الساعة الكبيرة، بما فيها العقل والإرادة الإنسانية؟ أين مركز الإرادة في الدماغ؟ هل للأخلاق رصيد علمي؟ هل بدأ الجنس البشري رحلة السلام حقا؟ هذه خمسة أسئلة كبيرة محورية ومصيرية في فهم الكون، وقوانين الوجود، ومحورية العقل، والبناء الخلقي، والسلام العالمي.

نظرية الانفجار العظيم
عندما أراد علماء اللاهوت في أوربا قديما تحديد عمر الأرض استنادا إلى نصوص العهد القديم، شطح بهم الخيال إلى 4004 قبل الميلاد، وكل من غاص في التاريخ ليؤرخ بدايات الكون، لم يتجاوز السبعة آلاف سنة، بمن فيهم المؤرخ الطبري الذي افترض 6500 سنة مضت، ولم يبق أمام نهاية الكون سوى خمسمائة عام! ولكن الفلاسفة مضوا في طريق منفرد فافترضوا أزلية الكون وقدم العالم، وتورط معهم الفيلسوف ابن رشد الأندلسي في هذا الاتجاه (في سبيل موسوعة فلسفية)، عندما رأى امتداد الكون الزمني اللانهائي، ولكي يتخلص من التناقض بين أزلية الخالق والمخلوق، طرح فكرة تباين الوجود الكوني عن الوجود الإلهي.
لا التاريخ، ولا اللاهوت، ولا الفلسفة، وضعت يدها على حل المشكلة، والذي تقدم بالحل هو العلم الحديث. كان ذلك بنظرية الانفجار العظيم.
أحدث تصور لنظرية الانفجار العظيم تقوم على أن حدثا غريبا عجيبا متفردا وقع قبل 13,7 مليار سنة (المعلومة من تلسكوب هابل الكوني خارج الكرة الأرضية)، عندما كان الكون كله مضغوطا في حيز أقل من بروتون واحد، وفي لحظة من سكستيليون الثانية (واحد من عشرة مرفوعة إلى القوة ست وثلاثين!). انفجر الكون كله وتمدد وبرد، وتشكلت بنية الذرات، ثم الكواكب والمجموعات الشمسية والمجرات، ومنها كوكبنا الضئيل وأمنا الشمس، وما زالت في حالة إغراق للوجود في طوفان ممتد لا يعرف النهاية، فالكون في حالة سباحة وامتداد وتشكل جديد في كل لحظة يحتفل بولادة نجوم وكواكب جديدة، ويزيد في الخلق ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون.
الطريف في هذه القصة التي تفوق كل قصص أغاثا كريستي البوليسية، أن قوانين الوجود تتعطل كلها في هذه الحقبة المتفردة، فلم يكن هناك زمان أو مكان، مادة أو طاقة، حركة أو قوانين! وفجأة حدث كل شيء؛ فالمكان بدأ في التشكل، والزمن في الحركة، والقوانين بدأت في العمل، والمادة تشكلت، والطاقة انفجرت وتحررت أو كمنت؛ كأن الكون كان فيلما متوقفا، ثم جاءت إرادة خفية فأعطته الأمر بالحركة وقالت له كن فكان.

النسبية وميكانيكا الكم
يعتبر عقل نيوتن من العقول الجبارة التي هندست التفكير الإنساني في القرون الثلاثة الفائتة، وأرست قواعد للفلسفة وفهم الوجود، وأثرت العلم بالكشف عن قوانين الحركة.
افترض نيوتن الكون على صورة ذرات وحركة وقوانين وحيز وزمان. الذرات لبنات الكون الأساسية، ذات صفات خاصة، فهي (جسيمات صلبة ومتحركة وغير قابلة للاختراق ذات أشكال وأحجام مختلفة)، (العلم في منظوره الجديد). أما خواص المادة التي تشكلها هذه الذرات فيعدد نيوتن منها التمدد والصلابة واللااختراقية والقصور الذاتي، وبواسطة الحركة وقوانينها ينضبط الوجود، واعتبر نيوتن أن الزمان والمكان مطلقان، فالزمن واحد في كل الوجود، ويتدفق على شكل شلال مضطرد، لتتالي وحدات الزمن.
فيزياء نيوتن صاغت العالم حتى القرن العشرين فيزيائيا، ولكن فيزياء نيوتن أخفقت في السيطرة على تفسير كل الظواهر الكونية، مما عجل بظهور علوم جديدة وانهيار فيزياء نيوتن. كان ذلك بواسطة الفيزياء النووية الجديدة، وتطوير علمي النسبية وميكانيكا الكم.
انهارت فلسفته للزمان والمكان والحركة والقوانين والمادة، وتوابعه من تفسير الكون ماديا، بما فيها ظاهرة التفكير والنشاط العقلي، التي تحمس لها العالم البريطاني توماس هكسلي (HUXLEY)، مع مطلع القرن العشرين، إلى درجة توقعه أن الفيزيولوجيا ستحل لغز العقل والتفكير والنشاط العقلي، كعمل مادي يفرزه الدماغ كيمياويا، كما يرتبط صفير القطار مع إطلاق البخار (انظر العلم في منظوره الجديد).

مركز الإرادة والوعي
حاولت النظرة المادية تفسير الكون آليا بما فيها الإنسان والإرادة والوعي، وأدى هذا إلى نفي البعد الإنساني المتميز، ولكن أبحاث البيولوجيا ومباحث الأعصاب الحديثة وفيزيولوجيا وجراحة الأعصاب شقت الطريق إلى فهم جديد للإنسان، على صورة ثورة علمية جديدة، وتصور جديد، وقفزة إلى حضارة إنسانية مستقبلية جديدة. والذي قاد إلى هذا كان العلم الحديث.
من هذه الأبحاث وأكثرها تشويقا مؤتمر تكسون (TUCSON)، الذي عقد في ولاية أريزونا ربيع عام 1996 م، والأبحاث العصبية التي قام بها العالم الكندي (وايلدر بنفيلد ـ WILDER PENFIELD)، حيث قام ببحوث رائدة استغرقت منه 50 عاما، خرج في نهايتها بكتابه المثير «لغز العقل البشري ـ THE MYSTERY OF MIND »، حيث قام بأبحاثه على أدمغة البشر وهم في حالة وعي كاملة، من خلال إدخال مسابر في غاية النحافة إلى داخل الجمجمة، ملامسة الأمكنة العصبية، في محاولة رسم جغرافية كاملة لقشرة المخ، كما في جغرافية الكرة الأرضية؛ فإذا كان سطح الكرة الأرضية فيه القارات والمدن ومراكز الصناعة والتسويق والمال والجيوش والتسلح وسيلة إطلاق الرؤوس النووية وناطحات السحاب والأنهار والبحيرات، في تضاريس مثيرة لا تنتهي؛ فإن صاحبنا (الدكتور بنفيلد) فعل الشي نفسه مع أدمغة البشر، حيث استطاع اقتحام ما لا يقل عن دماغ ألف إنسان، في حالة اليقظة الكاملة، ورسم كامل الخارطة الجغرافية لقشرة المخ من أماكن الحس والبصر والذكريات ومراكز الحركة والشم والعواطف. الشيء الوحيد الذي لم يستطع تعيينه في هذه الخارطة العملاقة مركز الإرادة، ولو وصل لشكرته أجهزة الاستخبارات العالمية أيما شكر، للإمساك بمفاتيح قيادة البشر، ولكن حرية الإنسان وتمرده وتفرده الخاص فوق كل محاولات اختراقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى