بقلم: خالص جلبي
اشتهر ثلاثة من رجال الفتوى والدين في المجتمع السوري، اثنان من الكرد وواحد من مرتزقة حلب الشهباء، هم كفتارو والبوطي وحسونة. فأما حسونة فتم خلعه بكل خشونة، وهو المفتي السوري السابق، وتم احتلال سوريا إيرانيا من ثلاث زوايا عسكرية وسياسية وأخيرا دينية، وبدأ التشيع يزحف إلى الأرياف بالمال والبارود والنار ترهيبا وترغيبا، ولكن الفارق بين حسونة المخلوع المطرود بكل مهانة عن الكردي البوطي، أن الأول موظف بسيط غير مشهور بالتأليف، أما البوطي فغزير الإنتاج كتب عشرات الكتب من فقه السيرة، وانتهاء بنقص المادية الجدلية والجهاد والمذهبية ومحاربة حزب التحرير والإخوان. وإن كان معظم ما كتب لا يقارن بكتابات فؤاد زكريا، واطلاعات الفيلسوف البدوي.
كتابات البوطي أقرب إلى الفكر التقليدي الفقهي الصوفي السني، أي أنه بعيد عن الاطلاع الموسع والتشرب بالثقافة والفلسفة الغربية. هو أقرب للنذير المحذر للفكر الغربي وامتداداته، ربما سيد قطب يسبقه بدرجة في تعامله الحذر مع الفكر الغربي. وبين هذه المدارس يلمع مالك بن نبي، المفكر الجزائري، وجودت سعيد، وإقبال من نوع مختلف مطلع مستفيد من الفكر الغربي، بدون حذر وانجفال.
البوطي كردي المنشأ، أي أنه ينتسب إلى أقلية إن صح التعبير، فهو ليس من الجمهور السني، الأغلبية العريضة في سوريا، فهل يصلح هذا لتفسير ولائه الطويل لنظام حكم العائلة الأسدية، التي تنتمي إلى طائفة صغيرة في المجتمع السوري لا تزيد على خمسة في المائة من الساكنة (الأقلية وتساند الأقليات)؟ أيضا هنا يقف التفسير ضعيفا نوعا ما. زارني رجل فكر فطرحت عليه السؤال: هل يعتقد البوطي حقا بأن الأسد والجيش السوري يقاتلان قوى كونية ظلامية تريد شرا بسوريا؟ قال: نعم هو يعتقد بصحة موقفه، من وقفته التي ليس فيها تردد في مناصرة طاغية سوريا الأرعن.
من طرفي أنا أعرف الرجل جيدا أو هكذا أعتقد يمثل ذلك الخليط الفكري التقليدي، الذي يمشي أقرب إلى خطى مفتي الجمهورية السابق كفتارو، الذي ربما كان يرى أن موالاة الحاكم الظالم الكافر فيها فائدة أن يعمل تحت ظله ومظلته في حماية بيضة الإسلام، هذا إذا أحسنا النظر في الرجلين.
كفتارو والقبيسيات والبوطي انتشروا في ظل حكم الأسد مثل الفطر في الغابة.
ومع هذا الفكر التقليدي الخرافي انتشر التشيع أيضا في دفع عقارب الساعة إلى الخلف ألف سنة ويزيد، في إحياء مواضيع أكل عليها الدهر وشرب، ومن كان أحق بالخلافة؟ وموالاة علي، وحب آل البيت، ومعصومية ملالي طهران، واللطم بالسلاسل والسواطير حتى يسيل الدم، أو تلطيخ الرأس والبدن بالوحل القذر.
في الوقت نفسه تم حرب أي تنظيم إسلامي بغاية الشراسة، في الوقت الذي حظي البوطي بتوثيق أفكاره في برنامج إذاعي ثابت، مع محبة رجال المخابرات له واحتفائهم الشديد به.
ينفعنا الطب في تفسير بعض الظواهر المرضية، فهو لا يفهم انفجار الأمراض بعنصر واحد. يعني أن مرض التيفوئيد مثلا لا يتم لوجود جراثيم السالمونيلا.
فيرشوف طبيب ألماني استطاع أن يطور مفهوم جديد في الطب اسمه المريض، وليس المرض. لتطبيق هذا المفهوم كان يأخذ جرعة من جراثيم السالمونيلا ويتجرعها أمام تلاميذه ولا يصاب بالمرض. الحمى التيفية حين تنتشر في وسط، فهي تتظاهر بأشكال مختلفة بين المصابين. منهم من ترتفع حرارته، ومنهم من تنثقب أمعاؤه فيهرع به إلى قاعة العمليات للجراحة. ومنهم من يلتهب عنده شغاف القلب، ومنه من تتورم عنده الخصية وتلتهب المعثكلة (البنكرياس)، والجرثوم واحد والمستقبل مختلف. ينفعنا في هذا أيضا قانون فيزيائي في ما لو سلطنا الحرارة على خمسة أوساط مختلفة، مثل الماء والحليب والشمع والبنزين والبارود فإننا نأخذ خمس نتائج مختلفة؛ فأما الماء فيتبخر والحليب يفور والشمع يذوب والبنزين يلتهب والبارود يتفجر. وتفسير هذا أن النتائج تختلف مع اختلاف الوسط المتلقي لمصدر واحد.
في القرآن تشبيه لهذا المفهوم، أن الأرض الجُرُز يأتيها الماء فتخرج ثمرات مختلف ألوانها. وفي سورة «الرعد» عن الأرض والماء الواحد واختلاف الثمرات (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).
تطبيق هذه الأمثلة على علم الاجتماع النفسي وظاهرة البوطي أنها أكبر من هذا الشخص، وتظهر في الأزمات وأيام الثورات والامتحانات. وقصة الراهب راسبوتين، أيام الثورة البلشفية، نموذج صارخ لهذا الموضوع؛ فهذا القس الداعر (رجل الدين بمسوح الكهان ومسبحة اليد الكبيرة والصليب الهائل في العنق، أي حمل كل رموز الدين والرب)، كان بمسحة من يده يشفي ابن القيصر نيقولا الثاني المصاب بمرض الناعور وينزف! كيف كان يحدث هذا؟ لا يملك أحد التفسير حتى اليوم، مع أن عدد الكتب التي كتبت عنه أكثر من مائة كتاب، حسبما ذكر كولن ويلسون في كتابه عنه.
البوطي هو ذلك النموذج الذي يظهر في أفق نار الثورات، فيأخذ مقعده بجنب العائلة الحاكمة حتى النهاية، ولو كان فيها الدمار له وللعائلة، كما حصل مع راسبوتين وعائلة القيصر نيقولا الثاني. وقد جاء في الرسالة التي وجهها راسبوتين إلى القيصر نيقولا يشرح فيها أنه لو قتل، فلسوف تتدمر العائلة الحاكمة وعدد هائل من الشعب الروسي سوف يهيم على وجهه هربا باحثا عن مأوى، وهو الحاصل اليوم للسوريين النازحين الفارين، كما حصل للبوطي حين فجر النظام جمجمته برصاصة.
نافذة:
البوطي هو ذلك النموذج الذي يظهر في أفق نار الثورات فيأخذ مقعده بجنب العائلة الحاكمة حتى النهاية ولو كان فيها الدمار له وللعائلة