خلف أسوار الشيخوخة
حسن البصري
لا يقترب أحد من أسوار دور رعاية المسنين إلا العاملون فيها وسيارات الإسعاف والمؤلفة قلوبهم، بينما جحافل فيروس كورونا تتربص بالنزلاء وتتحين الفرصة للسطو على ما تبقى من رصيد في أمل الحياة.
لا أحد يقترب من ساحة المؤسسة التي تركن في جنباتها سيارة نقل الأموات عليها عبارة «كل نفس ذائقة الموت»، بينما الفيروس اللئيم يحلق فوق المكان، لا يعبأ لرائحة المعقم ولا يخشى من عاملة ترتدي وزرة بيضاء اسمها الحركي «ممرضة»، رغم أنها مجرد مستخدمة طلب منها أداء دور طبي فاستجابت باسم التعليمات وكسرة الخبز المبللة برائحة الكلور.
تقف فدوى في الخط الأمامي للمعركة ضد الجائحة، في كل صباح تعد المسنين عن بعد، تدعو لهم سرا وتوزع عليهم أقراص الدواء وتقرأ نشرة الوباء. تتساءل نزيلة عن سر انقطاع زيارات الأهل والأحباب والمحسنين، فيتبين لها أن الجواب كفيل بتحريك المواجع، فلا أحد يدنو من سور حديقة المؤسسة، وكل من حاول فك الحصار «مفقود يا ولدي».
نحمد الله ونشكره لأن أغلب دور المسنين في بلادنا لم تتعرض للوباء، ونزيد في شكره وحمده حين نعلم أن نزلاء هذه المرافق الاجتماعية لم يخضعوا للفحوصات الطبية، وأن العاملين فيها يعتقدون أن مناعتهم تعفيهم من الاختبارات.
يبدو أن هذا الفيروس جبان إلى حد يجعله يسكن أجسادا عليلة، ويقضي على أشخاص بلغوا من الكبر عتيا، ويضرب بدون شفقة كائنات تعطلت فيالق المناعة لديها، كان الله في عونكم أيها الراقدون فوق الأسرة المتهالكة.
في دار المسنين بميدلت دخل الوباء إلى المراقد في غفلة من البواب، حملته المديرة في تلابيبها دون أن تشعر بأنه يتعقبها، أعلنت المؤسسة مرفقا منكوبا، وهرعت مندوبية الصحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبين المستشفى الإقليمي ودار الرعاية رحلات لإجلاء المصابين واستنفار في مدينة اخترقها الوباء من تحت أبواب مرفق اجتماعي.
ماتت نزيلتان بسبب كورونا ونجا الباقون الذين قضوا ليلتهم يبكون بحرقة الفقيدتين، لا يملك النزلاء الناجون إلا أدعية وابتهالات وذكريات عالقة في الذاكرة، فقوانين كورونا ترفض التأبين وتلغي عشاء الميت وتصادر الدموع وتلغي زيارة القبور.
حدث هذا في ميدلت ويحدث بسيناريوهات متشابهة في دور أخرى للمسنين، لكن تعالوا نتوقف عند دار لرعاية هذه الفئة في إسبانيا.
ذات صباح، كانت المؤسسة في حالة استنفار، أحيطت بالحواجز الأمنية ووقف عند مدخلها رجال الأمن، كانت كورونا قد تسللت تحت جنح الظلام، فقال النزلاء للطبيبة أدريانا:
“اذهبي لمنزلك فأنت شابة، نحن هنا جئنا نقضي آخر أيامنا ونموت”، بهذه العبارات أبلغ مقيمون في دار رعاية للمسنين بإسبانيا طبيبتهم، عبروا عن استعدادهم لتقبل الضيف اللعين، بعد أيام توفي خمسون نزيلا من أصل خمسة وستين. لكن أدريانا رفضت الملتمس وأصرت على مرافقتهم في الممرات المظلمة المؤدية إلى أقبية الموت. ظلت ترابط في دار المسنين إلى أن أصيبت بالوباء، فاستلقت إلى جانب من تبقى من نزلاء.
حسب إحصائيات في الموقع الرسمي للتعاون الوطني، فإن عدد دور المسنين في المغرب لا يتجاوز اثنتين وسبعين مؤسسة، إلا أنه لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه الدور تطبق البروتوكول الصحي، وتعمل على تنزيل الدليل العملي الخاص بمؤسسات الرعاية الاجتماعية، وإن كان لا يفرق بين اليافع والمسن والمعاق، ولا يجعل تشكيل لجنة اليقظة شرط عين. وحدها رائحة مواد التعقيم تحتم عليك استنشاق رائحة الوباء.
فوجئ طبيب بوجود ممرض سابق بين نزلاء دار للمسنين، احتضنه بين ذراعيه طويلا غير مهتم بقانون التباعد والتكامم (نسبة للكمامات)، بدا وكأنه يقدم العزاء لرجل على قيد الحياة، فجأة خرج المسن من المصحة ولم يعد وتبين أن الرجل اختار بوهيميته خارج الأسوار، قبل أن تصطاده دورية وتعيده إلى قواعده بالمؤسسة الاجتماعية، مهزوما مكسور الوجدان.
تذكر جدران دور رعاية المسنين، العابرين بجدوى البر بالوالدين، وتعيد إلى أذهان الزوار والمستخدمين تحذيرا من رب الكون: «لا تقل لهما أف».