حمام الدم الذي دخلته الجزائر بعد فترة بوضياف وأسرار تمويل الإرهاب
يونس جنوحي
يقول هشام عبود إنه تم عرض إغراءات على أرملة الرئيس محمد بوضياف حتى لا تُثير المشاكل للجنرالات. دم الرئيس الذي تم اغتياله على الهواء أمام ملايين المشاهدين، لم يكن ليبرد بسهولة. وأكد هشام عبود، في هذه المذكرات، أن الجزائريين تعرفوا أكثر على فتيحة بومدين بعد مقتل زوجها، عندما كانت تظهر في ذكراه السنوية أو خلال احتفالات شخصيات وطنية بالأعضاء المؤسسين لنواة الثورة ضد الاستعمار الفرنسي. أما ابن الرئيس فعُرض عليه منصب في سفارة الجزائر بألمانيا، حيث بذل الجنرالات جهدهم لإغرائه بمنصب وأجر بلغ وقتها تسعة آلاف مارك ألماني شهريا، لمدة تصل إلى ثلاث سنوات. بينما أرملة الرئيس عُرضت عليها فيلا فخمة مطلة على العاصمة الجزائر، كان يضرب بها المثل بين الجزائريين في الفخامة.
فهل كان دم بوضياف رخيصا إلى هذا الحد؟
فريق الكرة
طوى هشام عبود، مع اقتراب نهاية هذه المذكرات، صفحة اغتيال بوضياف. وكانت الخلاصة واضحة: الذين قتلوه كانوا يبحثون عن التضحية بالشخص المنفذ لتعليمات الكبار. بينما هؤلاء تفرغوا لإطفاء الرماد الذي خلفته الواقعة. وكان عليهم البحث عن رئيس آخر للجمهورية. وهي المهمة التي كانت عسيرة للغاية. يونيو 1992 كان سياقا صعبا للغاية. البلاد كانت تمر بأزمات اقتصادية واجتماعية أيضا، أما الأزمة السياسية فكرسها اغتيال بوضياف وزاد من تعميقها. لا أحد من السياسيين كان يقوى على مواجهة الجيش. أما جبهة الإنقاذ التي اكتسحت آخر انتخابات عرفتها البلاد، قبل مجيء بوضياف بأسابيع، فعوقبت على شعبيتها بإبطال الانتخابات واغتيال الديموقراطية قبل اغتيال الرئيس الذي جيء به لسد تلك الهوة السحيقة.
يقول هشام عبود، مشبها ما يقع في الجزائر بما يقع في الغالب للأندية العالمية عندما تعرف أعمال شغب احتجاجا على الهزيمة: «إن أعداء الفريق هم الذين يتحكمون في المشجعين. لا يعترفون أبدا بأن الفريق لم يلعب جيدا». يضيف عبود، معطيا المثال، إن الأمر نفسه وقع مع رئيس جماعة نُشر مقال في الصحافة عن الفساد الذي تعرفه جماعته. إذ بدل اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في مثل تلك الحالات، يتم دائما البحث عن كبش فداء والتحقيق معه والوصول إلى خلاصة مفادها أنه عميل لدولة عدو للجزائر.
أعداء في كل مكان
أصبح الوضع سورياليا في الجزائر. كان المخبرون في كل مكان، وكل مشاكل البلاد الداخلية تعلق على مشجب التدخل الأجنبي. إذ إن عددا من المتهمين وُجهت لهم تهمة التعامل مع مخابرات دولة عدو، ويقصد عبود هنا المغرب، بالإضافة إلى تهم بالإرهاب، وهي التهمة الجاهزة التي وُجهت إلى آلاف الجزائريين منذ 1992 إلى 1999، وهي السنة التي أعلن في نهايتها برنامج الوئام المدني لمصالحة الدولة مع ضحايا العمليات الإرهابية. الجيش الجزائري، حسب ما اتضح لاحقا، كان وراء تلك العمليات الإرهابية التي قُتل على إثرها آلاف الضحايا وشردت بسببها ملايين الأسر.
كل الذين حاكمهم النظام الجزائري، عندما كشفوا ملفات فساد تُدين سياسيين ومسؤولين عسكريين، وحتى الذين كتبوا مقالات في مواضيع مشابهة، اتهموا فورا، حسب ما نقله هشام عبود هنا، بالعمالة لإيران، باكستان، أو السودان. ووصفوا بـ«الإرهابيين».
كان معروفا وقتها أن الجزائر ارتكبت أخطاء دبلوماسية محرجة في علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، إذ إن سفارة الرياض في الجزائر لم تقبل أن يخرج الإعلام الرسمي الذي يتحكم فيه الجنرالات، ويقول إن عددا من المتابعين كانوا على علاقة بتنظيمات من السعودية، حيث كانت «فزاعة» الإرهاب هي التهمة الجاهزة التي يوجهها الجنرالات لكل من يختار توجها غير التوجه المُسطر للجميع.
كان نقل المجاهدين إلى أفغانستان وقتها تحديا أمنيا لعدد من الدول من بينها الجزائر. لكن اتضح لاحقا أن الجنرالات تساهلوا مع الشباب الذين كانوا يحملون أفكارا «جهادية» وسهلوا لهم الوصول فعلا إلى الأراضي الأفغانية لمناصرة إخوانهم المسلمين في الحرب ضد روسيا، وهي العملية التي بدأت منذ نهاية الثمانينيات في الجزائر، وركب عليها الجنرالات أمنيا. حيث كان بيع معلومات عن هؤلاء المجاهدين الذين سمح لهم النظام بالمغادرة، إلى المخابرات الأجنبية، صفقة مربحة فعلا، بعيدا عن أعراف التعاون الأمني بين الدول. وأدت الجزائر الثمن غاليا من أمنها الداخلي خلال تلك الفترة. وبدا واضحا أن موت بوضياف بتلك الطريقة جر البلاد إلى مستنقع من الدماء، رغم حرص الجنرالات على عدم ظهور آثار الدم على الواجهة.