حكومتا دجنبر المنسيتان.. بين البكاي وعبد الله إبراهيم
معركة كسر العظام التي أنهت تجربتين دخلتا التاريخ
«كُتب لعبد الله إبراهيم أن يقود الحكومة التي أطلقت في 24 دجنبر 1958، وكانت رابع حكومة في عمر مغرب ما بعد الاستقلال.
راج أن عبد الله إبراهيم كان يعلم بخبر تنصيبه وزيرا أول، قبل أن يعلم أغلب قادة الحزب بالأمر. فقد كان مصدرا من داخل القصر الملكي، مقربا جدا من الملك الراحل محمد الخامس، هو أول من نقل الخبر عبر التلفون إلى الأستاذ عبد الله إبراهيم، ولم تمض إلا يومان حتى تأكدت صحة الخبر. وعلم عبد الله إبراهيم من المصدر الذي نقل إليه «السر»، أن الملك الراحل يعول عليه كثيرا لطي مشكلة الاختلاف حول رقعة صلاحيات الحكومة بين السياسيين والقصر، وما إجهاض ثلاث محاولات سابقة سوى دليل على هذا الخلاف. لم تكن إذن مهمة عبد الله إبراهيم سهلة.
هما حكومتان تشكلتا في دجنبر، حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1958، والحكومة الأولى التي عرفها مغرب الاستقلال وترأسها امبارك البكاي. وكلاهما سقطتا في ظروف مشابهة. ضغط كبير للإطاحة بهما، جعلهما تستحقان فعلا «لعنة» التعيين في آخر السنة..
يونس جنوحي:
+++++++++++++++++++++++++++++++++++
ماذا كان يعني وزير دولة في حكومات دجنبر؟
أول حكومة مغربية دخلت التاريخ هي حكومة امبارك البكاي، ليس لأنها كانت الأولى في تاريخ المغرب المستقل، ولكن لأنها عرفت تعديلا سريعا مثيرا للجدل، وانتهت صلاحيتها سريعا وحلت محلها حكومة أخرى، استجابة لضغط المعارضة الحزبية للوجوه التي شكلت ملامحها.
7 دجنبر 1955، كان يوما للتاريخ، أعلن فيه القصر الملكي عن تأسيس الحكومة. استقبل الملك الراحل محمد الخامس أعضاء الحكومة المغربية الأولى، والتقط الوزراء صورة جماعية في قاعة العرش مع السلطان محمد بن يوسف، وانتشرت في اليوم الموالي في الجرائد الناطقة باللغتين العربية والفرنسية. وأذيع الخبر على أمواج الإذاعة المغربية.
لم تُخف الصحف نوعا من التحفظ على الأسماء التي عُينت في مختلف الوزارات، وبدأ الضغط منذ اليوم الأول لاشتغال الحكومة، بهدف إسقاطها. صمدت الحكومة أشهرا قليلة فقط، ولم تكد تمض السنة الأولى على تعيينها حتى عرفت تعديلا حكوميا أطار ببعض الوزراء. ورغم أن عبد الرحيم بوعبيد كان وزير دولة، دون أن يُمسك أي وزارة معينة، أي وزيرا بدون حقيبة، إلا أن الاستقلاليين كانوا يرغبون في المزيد، وهو ما عجل بسقوط الحكومة سريعا حتى بعد التعديل الحكومي الذي حدث في أكتوبر 1956.
المثير أن إدريس المحمدي، الوجه المعروف في الساحة السياسية باعتباره أحد كبار المؤثرين في المشهد السياسي، كان أيضا وزير دولة في أول حكومة مغربية، وبعد التعديل الحكومي الأول تعين وزيرا للداخلية، وهو منصب غاية في الأهمية، خصوصا وأن المغرب في سنتي 1955 و1956 كان يعرف عددا من العمليات الأمنية الدقيقة لإدماج قدماء المقاومة في الجيش الملكي، وسحب السلاح من الخلايا السرية للمقاومة، بعد استقلال البلاد.
المحمدي عوض الوزير الحسن اليوسي الذي كان مقربا من الملك الراحل محمد الخامس، وهو ما كان يعني أن القصر تنازل للاستقلاليين عن وزارة حساسة، لكن كان واضحا أن شهية هؤلاء كانت مفتوحة للمزيد من القطاعات الوزارية.
من بين الوزراء الذين كانوا يمثلون تيار «الفاسيين» كما سُموا لاحقا، الوزير محمد الفاسي الذي كان أول وزير للتعليم في تاريخ المغرب، وهي أيضا وزارة سيادية، سيطر عليها الاستقلاليون، وشكلت حقيبة أساسية بالنسبة إليهم.
بالإضافة إلى أن محمد الدويري، الاستقلالي حتى النخاع، كان وزيرا للأشغال العمومية، وهي وزارة بالغة الأهمية، خصوصا وأن البلاد كانت ورش أشغال مفتوحة مباشرة بعد الاستقلال، رغم عدم توفر إمكانيات مالية هامة للوزارة.
لكن حضور الوزير أحمد رضا اكديرة، بصفته وزير دولة، على غرار عبد الرحيم بوعبيد، كان يمثل للفاسيين «كابوسا» يجب التخلص منه. فهو صديق ولي العهد، وممثل تيار الممانعة بصفته من الأسماء القوية التي اقترحها القصر الملكي، لكبح هيمنة الاستقلاليين على بعض المناصب.
كُتب الكثير عن رضا اكديرة، لكن المنصب الذي شغله في الحكومة المغربية الأولى بالكاد كان «شرفيا»، سيما وأنه كان يُعد نفسه لمناصب أكبر، فلم تمض إلا سنوات قليلة حتى أصبح وزيرا للداخلية في حكومة الملك الراحل الحسن الثاني. لكن لعنة دجنبر ظلت تلاحقه، فبعد أن انتهت الحكومة الأولى ضدا على وجوده بين أعضائها، جاءت حكومة عبد الله إبراهيم في دجنبر آخر سنة 1958، وكان أغلب أفرادها أعداء مباشرين لاكديرة الذي لم يكن أمامه سوى الانتظار. تقوى في ظل ولي العهد وقتها – حتى لا يُضيع الوقت- وبقي يستعد للإطاحة بتجربة عبد الله إبراهيم. وهناك روايات لبعض من عاشوا تلك الأحداث، أكدوا فيها أن اكديرة كان يحاول مضايقة الوزير الأول عبد الله إبراهيم أكثر من مرة، بصفته مديرا لديوان ولي العهد، وصديقا مقربا له.
لعنة التعديلات..
سبق أن تناولنا في «الأخبار»، في ملفات سابقة، قصص التعديلات الحكومية التي عرفتها الحكومات المغربية. بعضها كانت وراءه قصص طريفة من المنافسة بين الوزراء، وبعضها الآخر فرضه «واقع الحال» وبعض الأزمات التي مر منها المغرب، وكان التعديل مثل «صمام الأمان» الذي يُسحب في آخر لحظة، لتجنب الانفجار.
أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب لم يكن على شاكلة التعديلات الأخرى، وإنما كان رجعا لصدى انفجار أمني كبير في الشارع المغربي. انفجار حركت براميله أياد كانت لها مصالح سياسية. لم يكن امبارك البكاي رجل توافقات. جاء في أوراق الكتاب ما يلي: «لم يكن هناك توافقات أصلا لكي يكون هناك اختيار لرجل يضبطها. حزب الاستقلال يريد الهيمنة عبر فرض رجاله في كل المناصب الحساسة، بينما موالون للملك يريدون حماية مصالح الطبقات الأخرى من هيمنة السياسيين، الذين جعلوا من حزب الاستقلال الحزب الحاكم». هذا ما مهد لمجيء حكومة أحمد بلافريج، لكن ما يهمنا هنا هو أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب. كيف تمكن معارضو تجربة امبارك البكاي من نسفها واستغلال الأوضاع السياسية التي كان يمر بها المغرب لسحب البساط تحت أقدام حكومة من التكنوقراط، بينهم مخزنيون من المدرسة العتيقة، وآخرون على قلتهم من حزب الاستقلال، لكنهم في منصب «وزير دولة»، مهمتهم عرقلة البكاي الذي اشتكى للملك الراحل من هذا التضييق في أكثر من مناسبة.
لقد كانت معضلة مغربية فعلا. إذا رتبنا الأحداث، نجد أن المظاهرات التي اندلعت في أكتوبر لم تكن في الحقيقة سوى النقطة التي أفاضت الكأس. إذ إن أحداث ماي 1955 كانت هي البداية الفعلية لتحكم الاستقلاليين في المشهد، وكأنهم يذكرون بقية من قاسموهم قواعد اللعبة السياسية أنهم يتحكمون في الكواليس. ازدادت حدة الأمور مع تولي امبارك البكاي للوزارة الأولى، وفي ماي 1956، والبلاد في حالة احتفال بالاستقلال واحتقان في الأجواء السياسية، كانت أيادي المسلحين التابعين لحزب الاستقلال تضرب بقوة المعارضين لإزالتهم من المشهد.
وفي الوقت نفسه ظهرت قيادة جديدة من الممانعين يترأسهم «شيخ العرب» الذي سقط بالرصاص سنة 1964 على يد الأمن الوطني في الدار البيضاء، كأول وأشهر معارض مسلح في المغرب قضى سنوات من الاختباء.
ملف هذا الرجل كان فوق مكتب امبارك البكاي، لكنه رفع تقريرا، حسب تقارير الموساد، إلى الملك الراحل محمد الخامس يخبره فيه أن مجموعة من المقاومين غير راضين تماما عما وقع، ففي عملية تسجيل لوائح قدماء المقاومة، سجلوا بامتعاض إقصاء مقاومين حقيقيين وأرامل شهداء معركة الاستقلال، وتم تعويضهم بأسماء أخرى لا تنتمي إلى أسرة المقاومة.
كان الملك الراحل محمد الخامس قد أمر مرات كثيرة بفتح تحقيقات في الموضوع، لكنها لم تسفر عن أي نتيجة، لأن تحكما كبيرا في مصير تلك التقارير حسم في استكمال الأبحاث الأولية.
النتيجة كانت مواجهات تعرض لها الأمن الوطني سنة 1956، والذي كان يترأسه الاستقلالي محمد الغزاوي، انتهت بقمع مظاهرات هؤلاء المقاومين، وتم استعمال الصور سياسيا لإجبار امبارك البكاي على الاستقالة. لكن الملك الراحل محمد الخامس تشبث به مباشرة بعد أحداث 23 أكتوبر 1956، ولجأ إلى حل وسط وهو التعديل الحكومي. توقع الاستقلاليون الإطاحة بغريمهم البكاي، لكن الحقيقة أن الرجل كان قد انبعث حرفيا من رماده، رغم أن التعديل طوقه ومهد تدريجيا لإبعاده عن الوزارة الأولى.