حكايات وساطة عرفات التي لم تكتمل
متقلب المزاج كما كان، طرق العقيد معمر القذافي باب الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، قبل أن ينقلب عليه. تمنى عليه القيام بوساطة مع المغرب، يوم انسدت أمامه كل المخارج لتأمين عقد قمة إفريقية تمنحه نوعا من الزعامة.
كان متهورا وعنيدا، ينظر إلى السماء كما لو أن أرض الله الواسعة لا تسع كبرياءه. لكنه سرعان ما كان يرضخ إلى الواقع، حين ينفلت منه زمام السيطرة على الأمور. وإذا كان الأشد معاكسة وشغبا، فإن طلباته للمصالحة والوساطة، بما في ذلك تجاه العواصم الغربية فاقت مشاكساته البادية. وكل ما كان يهمه أن تحاط بالسرية ولا تخرج إلى العلن، إلا حين يرغب في ذلك.
لم يكن عرفات غافلا عن خلفيات طلبه، كان يعرفه جيدا، وكثيرا ما ردد في جلسات خاصة أن لا بأس من التعامل مع الشيطان، إن كان ذلك سيحقق مكسبا ما لفائدة القضية الفلسطينية. ورأى أن الفرصة سانحة لإبعاد بعض الشرور عن طريقه. فقد كان يعتقد أن المغرب وحده في وسعه أن يساعد العقيد القذافي على تغيير نظرته إلى السياسة والتحالفات والاختيارات. ولم ير مانعا في السعي إلى تعبيد الطريق بين طرابلس والرباط، طالما أن الجغرافيا تحد من احتكاكهما المباشر. وليس في إمكان العقيد أن يقفز على تونس والجزائر دفعة واحدة، إلا إذا كانت قفزته من نوعية المساعي الحميدة التي لا تحد المسافات من فعاليتها.
سمع عرفات كثيرا عن عدم التزام العقيد بتنفيذ تعهداته، وخبر تداعيات هكذا تصرفات على الواقعين العربي والفلسطيني، إلا أن وضع منظمة التحرير الفلسطينية، فرض عليها دائما التعايش وركام التناقضات العربية، وفي حال نجاح وساطته بين المغرب وليبيا، فإن ذلك سيحرر القضية الفلسطينية من ممارسات سلبية. ونقل عنه القول مرة، إن لا أصعب من التعاطي مع المواقف العربية، وإن كانت تتحدث بصوت واحد في دعم القضية الفلسطينية، لأن كل طرف ينظر إليها من زاويته.
قال القذافي للزعيم عرفات إنه يقترح حلا لنزاع الصحراء، وإنه يتفهم مبادرة الرباط التي همت إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بلاده، عبر تعيين سفير مغربي في طرابلس وأمين شعبي في المغرب. فقد أرسل مبعوثين يحملون تعهدات، لناحية تعليق الدعم العسكري والمالي الذي كانت تقدمه ليبيا إلى انفصاليي جبهة بوليساريو، لكن الوقائع على الأرض ظلت تناقض هذا الالتزام. وأدرك المغاربة أن التعهد بقطع «المساعدات» شيء، وتحويل الأمر إلى ورقة ضغط على الجوار الليبي، خصوصا الجزائر شيء آخر.
لم يفوت عرفات الفرصة، فقد كان داهية في تلقف المبادرات، يمتاز بقدرة فائقة على استقراء ما هو أبعد من الكلمات. بالقدر الذي كان يعنيه حدوث انفراج في العلاقات المغربية-الليبية، بالقدر الذي كان يعول على وقف الدعم الليبي لفصائل فلسطينية مناوئة. بيد أنه قبل أن يستأنس بالمبادرة الليبية التي كانت مثيرة في توقيتها وأبعادها، أبلغ الرباط بأن شيئا ما يتحرك تحت أقدام العقيد، قد يدفعه إلى الارتماء في أي حضن، ولا أجدر من الحضن المغربي لتعزيز أقطاب المرونة والاعتدال والواقعية.
أرفق عرفات مبادرة وساطته التي جاءت بطلب من العقيد الليبي بالقول: «يتعين أن ننسى تماما كل شيء. حقا أن لكل واحد منا مآخذ على الآخر»، ثم أشار إلى ما تتطلبه اللحظة التاريخية من تضامن ووحدة الصف على الصعيد العربي. إلا أن النقاش حول قضية الصحراء له أوفاقه ومعاييره وقوانينه، خصوصا وأن المغرب لم يرغب في أي وقت في إثقال كاهل الدول العربية بإثارة ملف الصحراء، وكان يكفيه أن العواصم العربية في مجملها تدعم السيادة والوحدة الترابية. ولا أدل على ذلك من أن وفود الكثير من الدول العربية، السعودية والأردن والعراق وقطر وغيرها شاركت في ملحمة «المسيرة الخضراء».
للحقيقة والإنصاف، فإن المرة الأولى التي أثير فيها ملف الصحراء في قمة عربية، كان إبان استضافة المغرب قمة الرباط للعام 1974، وفيها قال الرئيس الجزائري هواري بومدين إن «بين المغرب والجزائر مافيش مشكل»، لأن الاتجاه العام كان يدعم موقف الرباط في النزاع الذي كان قائما مع إسبانيا وليس أي طرف آخر.
حقائق لم تغب عن الزعيم الفلسطيني، إلا أنه لم يوصد الباب كليا، لاعتقاده أن الأبواب المغلقة يمكن أن تتسرب منها الشقوق، وأن القلوب المفتوحة يمكن أن تتسع لاستيعاب أي تناقضات. لذا حمل كتابه بيمينه وجاء إلى الرباط، وفي ظنه أن رأب الصدع بين العواصم العربية أفضل من الإبقاء عليه معششا في العقول والصدور. لكن حماس عرفات سرعان ما اعتراه الفتور، فقد وجد في الرباط آذانا صاغية لكل ما يهم تنقية الأجواء ودعم القضايا العربية.
لكن قضية الصحراء اعتبرت أبعد ما يمكن الخوض فيه. وسمع عرفات الكلمات التالية: «اسمعوا، الصحراء قضية مغربية، فالمرء لا يعطي إلا ما يملك. والصحراء ليست ملكا لليبيا ولا لأي كان»، أضافت الرسالة التي تلقاها عرفات «لو قدر للمغرب أن يأخذ الصحراء منكم لأعادها إليكم..». وجاء في الرسالة أيضا بخصوص بوليساريو التي كانت تحظى بدعم القذافي: «إنهم مغاربة قبل كل شيء. ولا يمكن لأي كان أن يكون أرحم بالمغاربة من إخوانهم المغاربة، فكلهم صالحون لإعادة بناء المغرب».
انتهت الرسالة وأقبرت الوساطة، إلى أن حان موعد لاحق زار فيه العقيد القذافي المغرب، وكان في مقدمة من حاوروه في قضية الصحراء ووحدة الأرض والانتساب والمصير والمستقبل، إلى جانب زعامات الأحزاب السياسية، الشيخ الركيبي، والد محمد عبد العزيز، الابن الضال لوالده ووطنه وكافة أبناء الشعب المغربي الصامد.