يسرا طارق
في الثمانينيات من القرن الماضي، ومع موجة الجفاف القاسية، والتقويم الهيكلي والاختناق السياسي، وتزايد جحافل العاطلين ووقوع انتفاضات حضرية خطيرة (1981 – 1984) وإضرابات عامة في كل القطاعات، بدأ جزء من نخبة المال والأعمال والخدمات يفكر في أن السفينة تغرق، وعليهم أن يؤمنوا حياتهم وحياة أولادهم في دولة أخرى.
لم تكن للتعليم الخاص، آنذاك، الأهمية البالغة التي له اليوم، كان قطاعا هامشيا يرتاده الفاشلون في التعليم العام فقط، وكان تعليم البعثات الأجنبية شبه محتكر من فئات معينة ومحدودة. آنذاك، في حمى قلق النخبة على مستقبل فلذات أكبادها وعدم ثقتها في مستقبل وطنها، سيهتدي البعض لفكرة الذهاب إلى كندا لوضع المولود هناك، فيصير متمتعا بحق الأرض و يربح مدى الحياة هذا الضمان الوجودي بأنه كندي. لا يُعرف عدد من قاموا بهذه العملية منذ أن انتشرت بين النخبة، لكنهم، وبكل تأكيد يعدون بالآلاف.
لم يكتف هؤلاء بهذا الإخراج المستقبلي لحدث ولادة بناتهم وأبنائهم، ولا بتعليمهم تعليما لا وجود فيه للغتين العربية والأمازيغية وثقافتيهما، بل كانوا يعدونهم في دورهم ليكونوا غربيين أكثر من الغربيين أنفسهم، فيفصلونهم في كل سلوكاتهم عن محيطهم المغربي، فلا يعرفون لا أسواق المغرب ولا دواويره، ولا غناء أهله ولا أشجانهم، لا وقت لهم لذلك فالوطن يغرق وسيفرون منه قريبا.
غير أن الوطن لم يغرق وقاوم بكل ما أوتي من قوة الجفاف والأزمات الاقتصادية، وخرج، بشكل أو آخر، من السكتة القلبية التي كان مهددا بها، وكبر الأبناء وذهبوا لإكمال الدراسة في فرنسا وكندا، وحين أنهوها اشتغلوا هناك وصارت صلتهم الوحيدة بأمهاتهم وآبائهم، هي تلك المكالمات المتباعدة التي يتلقونها منهم. وصرت تسمع شكاوي هؤلاء من جحود أولادهم وتشكيهم من عزلتهم ويباب حياتهم، رغم أن سلوك أبنائهم صنيعة أيديهم.
هناك تمظهرات عديدة لسكيزوفرينيا بعض أفراد النخب، فمن تزوج هو وصديقته بشكل متحرر من كل طقوس أفراح المغرب في زمن الكلية والرفاق، يزوج أبناءه بـ «العمارية» و «النكَافات» و «الدقايقية»، ومن ربى أبناءه على أن حياتهم الآمنة والمرفهة توجد فقط في الدول الغربية، يريدهم في أرذل العمر أن يبقوا جنبه، ومن كان مثالا للتحرر والانفتاح، ينتهي درويشا يؤمن بالكرامات والألطاف الإلهية، ومن كان يتصور أن البلد ماض ليرتطم بالحائط، يصير من أشد المتغنين بالازدهار والاستقرار وشعار:
والله باباه أوباما ما عندو بحالها.