شوف تشوف

الرأيالرئيسية

حـقوق الإنسان.. سياق النشـأة

 

مقالات ذات صلة

 

عبد الإله بلقزيز

شُرِع في تظهير مبدأ حقوق الإنسان في الخطاب الدولي، ولو مواربة، من طريق التشديد على مبدأ حق تقرير المصير. كان ذلك غِبّ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وفي نص رسمي لرئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون، ترجم فيه عقيدته السياسية – التي اقترنت باسمه – في المبادئ الأربعة عشر المعلنة. ما من شك في أن حق تقرير المصير، حق يتعلق بالشعوب (التي استُعْمِرت واهتضمت حقوقها الوطنية من القوى الاستعمارية الأوروبية)؛ وما من شك في أن التعبير عنه بلسان الرئيس الأمريكي آذَنَ، حينها، برغبة أمريكية – غير مفصوحٍ عنها تماما – في وراثة نفوذ الإمبراطوريتين الاستعماريتين التقليديتين (بريطانيا وفرنسا) في القارتين الآسيوية والإفريقية، خاصة بعد أنِ استنزفتا قواهما في الحرب العالمية الأولى، في مواجهة ألمانيا والإمبراطورية العثمانية. غير أن ما ابتدئ به باسم الشعوب لن يلبث أن يُسْتَكمل، بدءا من خواتيم عشرينيات القرن العشرين، باسم الأفراد (الإنسان).

اقتنصت إرادة إنضاج فكرة حقوق الإنسان فرصة مثالية قصد التسويغ لها وتسليط ضوء السياسة والدعاية عليها؛ وكان ذلك في لحظتين من التاريخ السياسي، الأوروبي والدولي، فاصلتين بين الحربين العالميتين، هما لحظة إمساك ستالين بالسلطة في الاتحاد السوفياتي، بعد وفاة لينين (1924)، ولحظة صعود هتلر و«الحزب النازي» إلى السلطة في ألمانيا (1933)؛ وإذ استجر الحدثان نتائج سياسية بالغة الأثر، في البلدين وأوروبا والعالم (قيام نظام سياسي كلياني – توتاليتاري – في البلدين؛ القمع البوليسي الرهيب؛ التصفيات الشاملة لخصوم النظامين…)، فقد مثلا أرضية خصبة ومادة للاستثمار السياسي في الغرب – ضد الخصمين الشيوعي والنازي – باسم الدفاع عن حقوق الإنسان المنتهكة من النظامين اللذين هددا الغرب في ساحته الرئيس آنذاك: أوروبا.

بعد أن وضعت الحرب الثانية أوزارها بهزيمة ألمانيا وتحطيم النظام النازي فيها، أتى التوافق على تأسيس منظمة الأمم المتحدة يفتح إمكانات هائلة في السياسات الدولية، بما فيها السياسات المتعلقة بحقوق الإنسان. لقد وفر تكوين هذه المنظمة منبرا ملائما لمخاطبة مظلومية المنكوبين في حقوقهم في العالم أو على الأقل، في البلدان التي استهدفتها الدعاية والتحريض الغربيين (مثل الاتحاد السوفياتي وبلدان المعسكر «الاشتراكي»، وبلدان من الجنوب تحكمها نخب وطنية مناهضة للسياسات الغربية)؛ بل ولقد أمكن – مع إصدار الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 دجنبر 1948 – تحويل حقوق الإنسان إلى قضية سياسية عالمية يُسْتَوْلَدُ لها رأي عام عالمي، وتأتلف لنصرتها شبكات هائلة من المؤسسات الدولية وغير الحكومية. ومن حينها، بدأت سيرورة تسخير هذه القضية لخدمة أهداف لا صلة لحقوق الإنسان بها، وإنما هي سياسية المحتوى والغرض وتتصل بمصالح قوى كانت منخرطة في استقطاب سياسي قسم العالم إلى معسكرين.

مع ذلك، ظل بعض من الاحترام يُجْزى لسيادات الدول الوطنية ما خلا في حالات قليلة وقع فيها انتهاك هذا المبدأ، ودائما لأهداف سياسية قومية لدى الدول الكبرى. لكن ذلك الاحترام – الذي تحمل عليه مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة وما ينص عليه صراحة من وجوب احترام مبدأ السيادة الوطنية – اصطدم بفكرة تجرد موضوعها (الإنسان) من كيانيته الوطنية، الأمر الذي لا سابق له في وثائق سياسية ودستورية مرجعية (فرنسية، إنجليزية، أمريكية) عن حقوق المواطن.

ولقد ثبت كيف أن عملية سطوٍ ناجحة على فكرة حقوق الإنسان أصابت حظا من الظفر كبيرا في الانتقال بحقوق الإنسان من فكرة إلى إيديولوجيا قابلةٍ للتسخير السياسي ضد دول وأوطانٍ، وضد مبدأ المواطنة فيها! لقد شهدت حقبة الحرب الباردة على فصول متعاقبة من ذلك التسخير الإيديولوجي لقضية حقوق الإنسان، وكان لتلك الحملة آثار هائلة في مضمار محاصرة دول الغرب للاتحاد السوفياتي ودول شرق أوروبا والصين الشعبية، كما لدول أخرى من «العالم الثالث» حكمتها أنظمة سياسية متحالفة مع دول المعسكر «الاشتراكي» أو مناهضة للسياسات الأمريكية والأوروبية.

لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن الحملة هذه جرت، على ذلك النحو الكثيف المحموم، في الوقت عينه الذي كانت فيه الأوليغارشيات العسكرية الفاشية تنيخ بكلكلها على بلدان أمريكا اللاتينية وشعوبها، وتسُومُها خسفا باعتداءاتها الخرقاء على حقوق الإنسان، من غير أن تتعرض حتى للوم على أفعالها من قبل دول الغرب! وما كان التستر على جرائمها ليخفي نفسه في سياسات الغرب، ما دامت تلك الفاشيات في مقام الحليف الذي يسدي الخدمات الجليلة للغرب في مواجهة اليسار والشيوعيين…

 

نافذة:

ثبت كيف أن عملية سطو ناجحة على فكرة حقوق الإنسان أصابت حظا من الظفر كبيرا في الانتقال بحقوق الإنسان من فكرة إلى إيديولوجيا قابلة للتسخير السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى